الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فاس تحتفي بالفردوس المفقود

فاس تحتفي بالفردوس المفقود
25 يونيو 2013 21:31
تحت شعار “فاس الأندلسية” احتفى مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة بالثقافة الأندلسية التي مكنت على مدى أزيد من ثمانية قرون من صهر الثقافات الغربية والشرقية في بوتقة واحدة، ومن خلال ندوات وفعاليات المهرجان اكتشف الجمهور تجليات الثقافة الأندلسية الحاضنة لروافد حضارية متعددة ومتنوعة، وعاش أجواء ملاحم جسدت تنوع الثقافات في الأندلس في ظل أرقى صور التجانس والتعايش والتساكن بين مسلميها ومسيحييها ويهودها. وفي أجواء روحانية مفعمة بالتواد والتآخي احتفى المشاركون في المهرجان بابداعات التاريخ الأندلسي في لوحات شعرية وغنائية جميلة حملت الحضور إلى عوالم فنية رائعة، وشكلت الليالي الصوفية أروع لحظات هذا السفر الموسيقي الذي رحل بالحضور الى الموسيقى الأندلسية وابداعات زرياب فموسيقى الفلامينكو، ثم انتقل في رحلة روحية ممتعة إلى الشرق حيث المقامات والألوان الموسيقية العريقة التي تأسر القلب وتسمو بالروح إلى مدارج الصفاء. ويعتبر مهرجان فاس للموسيقى العريقة العالمية أحد أهم مهرجانات الموسيقى الروحية على الصعيد العالمي، وهو من أبرز التظاهرات التي تنظمها مؤسسة روح فاس التي تسعى إلى جعل الفنون والقيم الروحية في خدمة التنمية البشرية والمجتمعية والتقريب بين الشعوب والثقافات. وبرغم الانتقادات حقق مهرجان فاس منذ انطلاقته قبل 19 سنة نجاحا متزايدا واعتبرته هيئة الأمم المتحدة من أهم التظاهرات التي ساهمت في ترسيخ حوار الحضارات بشكل ملحوظ. الورع الروحاني شارك في الدورة التاسعة عشرة التي نظمت من 7 إلى 15 يونيو، فرق موسيقية تمثل مختلف الفضاءات الموسيقية والإيقاعية من المغرب ومصر وموريتانيا وتركيا واليونان وإسبانيا والبرتغال وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإفريقيا الجنوبية والهند. وتميز حفل الافتتاح بعرض شعري موسيقى حول الأندلس لمخرجه أندريس ماران أحد أشهر فناني الفلامينغو عبر العالم. واختار المنظمون دورة هذه السنة للاحتفاء بالثقافة الأندلسية بمناسبة مرور ألف سنة على تأسيس مدينة غرناطة، وتميز الاحتفاء بالعصر الأندلسي (ما بين القرن الثامن والخامس عشر الميلادي) باستحضار تأثير شخصيات متنوعة من المفكرين الأندلسيين أمثال ابن طفيل وابن رشد وموسى ابن ميمون وابن عربي وابن حزم. وقال مدير المهرجان فوزي الصقلي ان “الثقافة الأندلسية استطاعت أن توحد وعلى مدى ثمانية قرون الثقافة الأمازيغية والعربية والأيبيرية والرومانية والقوطية، وأن تجمع في الإطار نفسه ثقافات الشرق والغرب”. وأشار إلى أن اختيار شعار “فاس الأندلسية” للنسخة 19 من مهرجان الموسيقى العالمية العريقة، “يروم إبراز ما تزخر به الحضارة الأندلسية من تراث عريق وأصالة متفردة يظهران قدرتها الكبيرة على الجمع بين ثقافات متعددة المنابع وتدبير حكيم لهذا التنوع الثقافي وذلك في إطار من التعايش والإبداع الجماعي الذي أتاح لها إنتاج قيم إنسانية عمت العالم بأسره”. وأضاف: “روح الثقافة الأندلسية وغيرها من الثقافات الأخرى ظلت كامنة في ثنايا الهوية والذاكرة المغربية على مدى قرون وما يسعى المهرجان إلى تحقيقه هو إبراز هذه الروح”. وكان الصقلي قد اختار برشلونه للاعلان عن برنامج المهرجان في دورته الجديدة مشيدا بالاهتمام المتنامي لسكان إقليم كاطالونيا بهذا الموعد الثقافي الكبير. سهرات المهرجان تميز المهرجان بمشاركة متنوعة لمفكرين وراقصين وفنانين من عدة دول بينها المغرب ومصر وجنوب إفريقيا وتركيا وموريتانيا واليونان وإسبانيا والبرتغال وفرنسا والولايات المتحدة والهند، قدموا عروضا ثقافية وفنية في أعرق فضاءات فاس الزاخرة بعبق التاريخ والامتداد الحضاري والجمالية العمرانية، وهي باب المكينة ودار المقري ودار عديل وساحة بوجلود وجنان السبيل ومتحف البطحاء ودار التازي. واتاحت “الليالي الصوفية” للحضور التعرف على الحضارة الإسلامية وإعادة اكتشافها من خلال أبعادها الروحية والفنية الغنية، وتنوعت الأمسيات الفنية بسهرات قدمها فنانون كبار يمثلون مختلف الثقافات والألوان الفنية العالمية أمثال باتي سميت من امريكا، وأصالة نصري من سوريا، وبانديت شيام سوندار غوسوامي من الهند، وعائشة رضوان من المغرب، وروسيماري ستاندليودوم لا نينا من فرنسا، وأمينة العلوي من إسبانيا، بالإضافة إلى لاديسميت شيكاغو كوسبل إكسبريانس من جنوب إفريقيا، وكمبان بنت اعلي وركان من موريتانيا. حفل الافتتاح تميز حفل افتتاح المهرجان بإطلاق إبداع خاص كتب اشعاره عبد الله الوزاني، ولحنه الفنان والباحث عبد السلام الخلوفي وأخرجه الإسباني أندري ماران الذي حاول استحضار مجموعة من المحطات الأساسية في تاريخ الأندلس، والانتقال بشكل انسيابي يريح الأذن والبصر معا. وقدم العرض حكاية الأندلس بين القرنين الثامن والخامس عشر ميلادي في قالب موسيقي وفني تحت عنوان “الحب في كل أحواله”، مثّل التقاطعات الممكنة بين الفنون التي تعايشت على أرض الأندلس. وأبدع المشاركون في العرض الذي قدر عددهم بنحو ستين فنانا، في تجسيد تاريخ الأندلس، بأقوال وأشعار كبار الفلاسفة والمتصوفة المنتمين إلى الديانات السماوية الثلاث في مختلف الفترات التاريخية، خاصة الأشعار التي تعود للفيلسوف والمتصوف المسلم ابن طفيل، والمفكر والصوفي اليهودي ابن ميمون، والروائي المسيحي ريمون لول. فاس الأندلسية تميز المهرجان بمجموعة من الندوات وحلقات النقاش التي شارك فيها مفكرون وكتاب وساسة وخبراء، تناولت التحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات في شمال وجنوب البحر المتوسط وربطها بالتأمل الفلسفي والروحي الشامل. واختار المنظمون لمنتدى هذه الدورة تيمة “أندلسيات جديدة: حلول محلية لاضطرابات عالمية”، تم خلاله مناقشة أربع نقاط هي: “رهانات التنوع الجديدة بمناسبة الذكرى المئوية لإيمي سيزير”، و”هل يمكن للمنظومة الاقتصادية المالية أن تكون عادلة ومتضامنة؟”، و”فاس الأندلسية: تحقيق التنمية بالثقافة”، و”تعريف النموذج الاقتصادي الجديد: تجربة البوتان، تقييم مرحلي”. وفي ندوة “فاس الأندلسية: تحقيق التنمية بالثقافة” قال فوزي الصقلي مدير المهرجان إن الثقافة تعد محركا للتنمية بمفهومها الشامل من خلال حرصها على إنتاج وتطوير قيم حضارية لبناء المستقبل، وذكر أن التعايش السلمي بين الانتماءات الدينية والعرقية المختلفة من أكبر التحديات التي تواجه العالم العربي في عقب الانتفاضات الشعبية التي أطاحت ببعض نظم الحكم السابقة في المنطقة. وقال “بعد الربيع العربي حصلت مجموعة من الفتن أدت الى سوء تدبير التنوع في النهاية بعدما أصبحت السلطات في أيدي أناس جدد أو تيارات جديدة وبقيت المشكلة هي كيف يمكن أن تتعايش مع الآخر في نفس المجتمع”. وفي ندوة “رهانات التنوع الجديدة بمناسبة الذكرى المئوية لإيمي سيزير” قال الفيلسوف الفرنسي إدغار موران ان “التنوع غالبا ما يكون مهددا في إطار الشمولية... وأن الوعي الجماعي للمجتمعات والشعوب كان دائما وعبر مختلف فترات التاريخ مطالبا بالتوحد والتعبئة من أجل الدفاع عن هذا التنوع الذي يشكل خميرة الوجود”. ورفض موران الفصل بين “الوحدة والتنوع”، باعتبارهما مفهومان متلاصقان، وكل محاولة للفصل بينهما “ستبوء بالفشل”، لأن الواحد منهما يكمل الآخر”. وسافر المفكر الفرنسي بالجمهور الحاضر إلى عوالم الفلسفة حيث أسهب في الحديث عن مفهوم التنوع، باعتباره مفهوما واسعا جدا لكونه “ينقذ الحياة نفسها”، مستدلا بشواهد من عدة حقول معرفية مثل البيولوجيا والسوسيولوجيا والثقافة، لكونها حقول معرفية “تجعل من التنوع تيمة ضرورية، ومبدأ أساسيا وحيويا لاستمرارية الحياة”. والتقط وزير الثقافة المغربي محمد أمين الصبيحي الحديث من الفيلسوف الفرنسي، حيث أكد على أن “الحياة بتحولاتها وما تقوم به وسائل الإعلام من محاولات لتكريس النمطية إلى جانب العولمة وتداعياتها كلها عوامل تفرض على الجميع استعادة الوعي الوطني بأهمية المحافظة على التنوع وصيانته والدفاع عنه”. ولفت الصبيحي إلى أن التنوع في المغرب هو متجذر في تاريخه “لأننا نعيش في بلد استطاع أن يشكل هويته الخاصة التي تتغذى من روافد ثقافية وحضارية متعددة، وحيث أضحى التنوع فاعلا ومحركا لثراء مكونات هذه الأمة ومصدرا لغناها”. وأكد ان الثقافة الأندلسية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والفنية تركت بصمة واضحة على الساحة الثقافية في أوربا وفي شمال أفريقيا. وذكر أن التأثير كان متبادلا بين ثقافات الشمال والجنوب على مر العصور. وقال: “في الوقت الذي أثر المغرب وحضارته على الحضارة المتوسطية والأوروبية عبر الأندلس أثرت الحضارات المتوسطية على المغرب وأغنت ثقافته وحضارته على صعيد العلوم العصرية وعلى صعيد التراث وعلى صعيد مجالات متعددة في الحياة”. وتحدثت كريستين طوبيرا وزيرة العدل الفرنسية، عن الشاعر الكبير إيمي سيزير الذي “كان ثائرا ولا يتساهل مطلقا أو ينحني أمام الظلم”، واكدت أن كل محاولة للاحتواء أو الضبط لن تقود سوى إلى تدمير التنوع. وانتهت الوزيرة الفرنسية إلى أن الحفاظ على الهوية لا يعني الانكفاء على الذات، ورفض الآخر والانغلاق، بل هو بحث دائم عن التلاقح والتلاقي وعن مكونات التعايش والإخاء والعيش المشترك. واعتبرت الديبلوماسية المغربية آسية بنصالح العلوي ان المحافظة على التنوع تظل من الأولويات الأساسية التي تضمن البقاء والاستمرارية للمجتمع وللدول، مؤكدة على أن معارضة التنوع ورفضه لا يصمد أمام الحمولة التي يكرسها هذا المفهوم الذي يعني بالأساس الثراء والتعدد والغنى مما يجعل من معارضته معارضة للذات وللعيش المشترك. حفل أصالة عاشت الساحة التاريخية “باب المكينة” بفاس ليلة لا تنسى بفضل الحفل الفني الذي احيته الفنانة السورية أصالة ذات الصوت الذي يجيد الاحتفاء بالموسيقى العربية وبالإيقاعات المتداخلة التي تبرز تعدد وتنوع المقامات الفنية العربية. واستمتع الجمهور الذي ضاقت به جنبات هذا الفضاء التاريخي فاضطر الجمهور الفائض إلى متابعة الحفل واقفا في الساحة الخلفية للمدرجات، برحلة روحية ممتعة إلى الشرق والشام تحديدا حيث المقامات والألوان الموسيقية العريقة والتجدد والتنوع في الألحان وضبط الأداء على إيقاع أنغام تأسر القلب وتسمو بالروح إلى مدارج الصفاء. واختارت أصالة أغاني تتناسب مع روح المهرجان وفرقة موسيقية متنوعة لمرافقتها على منصة العرض بقيادة المايسترو يحيى الموجي، واستهلت الفنانة نصري بأغنية “مقولتليش” ذات الإيقاع الأندلسي المبهر والسريع شيئا ما، والذي تحتل فيه القيثارة ونغماتها مساحات كبيرة مبدعة جملا موسيقية صغيرة ومتوثبة تزداد رونقا وبهاء كلما امتزجت بأداء الفنانة أصالة نصري وبصولاتها الصوتية المدهشة. وقدمت أصالة أغاني من ريبرتوارها الفني شنفت آذان الجمهور واحتفت بالمحبة واللقاء ومعاتبة الحبيب والشكوى من الشوق والفراق ومن الهجر والصد كـ”يا مجنون”، و”ما بقاش أنا”، و”إلى متى”، و”لو مارجعتش”، وغيرها قبل أن تعرج على القدود الحلبية الشامية التي أبدعت خلالها في أداء مجموعة من المقطوعات الغنائية والموشحات التي شكلت على امتداد عقود موروثا فنيا يختزل تفرد وخصوصية الموسيقى العربية كـ”يا مال الشام” وغيرها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©