الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تعبث السياسة بالفن

عندما تعبث السياسة بالفن
25 يونيو 2013 21:31
هناك اتفاق واسع، نسبيا، بين نقّاد الفن الحديث من الترك وغيرهم أيضا، على أن الفن التركي الحديث قد شهد انقطاعات معرفية وفنية عديدة خلال السنوات الخمسين الماضية، شأنه في ذلك شأن العديد من حركات الفن التشكيلي الحديث في دول العالم الثالث خاصة تلك التي شهدت تقلّبات سياسية واجتماعية واقتصادية متتالية. والبعض من نقاد الفن هؤلاء يرون أنه من غير الممكن تتبع استمرارية في تاريخ الفن التركي الحديث مثلما هي عليه في الجوار الألماني القريب مثلا، ذلك أن تاريخ الفن في تركيا هو مرآة تعكس تاريخ التقلّبات التي كانت تعصف بها بين فترة وأخرى. يعزّز من وجهة النظر هذه وجود عدد كبير من الفنانين الترك خارج تركيا نفسها، من الذين نشأوا فنيا ومعرفيا خارج السياق المعرفي والفني الذي يسود في بلادهم، وبعيدا عن “القِيَم” الفنية الكلاسيكية وغير الكلاسيكية، فقد ارتبط هؤلاء الفنانون في الإيقاع الفني الراهن للبلدان التي نشأ فيها وعيهم الفني واكتمل. ما يعني أن منجزهم الفني هو أبعد ما يكون عن الإرث الكلاسيكي الفني الذي نشأ عليه أقرانهم في تركيا، ما يعني أن الاختلاف في الوعي الفني لم يُحدِث القطيعة الفنية وحدها بل خلق قطيعة في المزاج الفني والأسئلة التي تشغل الفن عموما هنا في داخل تركيا أو هناك في خارجها. إذ بقدر ما خلق هذا الوضع المتناقض اختلافا وتنوعا إلا أنه أربك الوعي الفني سواء لدى نقاد هذا الفن أم لدى أفراد المجتمع التركي وجمهور الفنون التشكيلية على وجه التحديد. أيضا في العام 2011، جرى هدم نصب للسلام للنحات “محمد أكْسُوْي” وكان قد اكتمل نصفه فحسب، هو الذي كان الغرض من إقامته تعزيز العلاقات الناشئة والآخذة في التحسّن بين تركيا وأرمينيا، وفي حين منعت خلافات من إكمال العمل بحجة مجاورة النصب موقعا أثري ومقاما، فإن إزالته التامة أعقبت وصف رئيس الوزراء المحافظ رجب طيب أردوغان له بأنه “عمل منحرف”، في الوقت الذي كانت فيه تلك الحجة الدينية قناعا لخلاف سياسي حول الاعتراف بما ارتكبته الدولة العثماني في حق الأرمن والترك، الأمر الذي يرفض الاعتراف به المحافظون والقوميون. قصة متشظية هكذا، فإن “قصة تاريخ الفن التركي المتشظية تعكس التاريخ السياسي لأمة شهدت ثلاثة انقلابات بين عامي 1960 و1980، سُبقت بقطيعة كبيرة مع تركة الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإحساس المتمزق بالتاريخ، والقبول العام بفقدان مريح للذاكرة الثقافية، لا يزال حاضراً”، بحسب ما جاء في الموقع الالكتروني للمجلة الفنية المتخصصة “فنون آسيا ـ باسفيك” التي تعنى بشؤون الفن الحديث وما بعد الحداثي ونقدهما في البلدان الآسيوية والمطلة على الباسفيك كأستراليا وسواها. أضف إلى ذلك كلّه أن الوعي الفني في أوساط وشرائح عديدة من المجتمع التركي، إجمالا، ما يزال محدودة قياسا بتطور الحركة الفنية في البلاد، وبحركة النقد والوعي النقدي الموازي لهذه الحركة بدرجة أقل. وبالطبع، فإن هذه الأسباب متداخلة ومتوشجة معا ومن غير الممكن فصل تأثيرات أي منها على الأسباب الأخرى. وبهذا المعنى فإن الفن التركي الحديث تبرز فيه الأسماء الفردية للفنانين التشكيليين أكثر مما تبرز اتجاهات الفن الحديث في تركيا، تماما كما هي الحال في حركة الفن التشكيلي العربي، حيث يسهل على المرء أن يُحصي أسماء لفنانين لكن من العسير عليه أن يجزم إن كان هذا الفنان أو ذاك هو الذي يمثّل هذا الاتجاه الفني أو ذاك تبعا لإجماع نقدي ما. لكن، من أين للفن التركي هذه الديناميكية اللافتة إلى حدّ أنه حراك فني تشكيلي ملحوظ في العالم؟ هل جاءت هذه الديناميكية من تاريخ الفن الذي يتجاوز تاريخ الدولة التركية الحديثة ويرقى إلى الفترة العثمانية وما هو سابق عليها؟ بالتأكيد من الطبيعي لهذا الأمر أن يترك أثرا، لكنه يبقى نسبيا وغير حاسم، لأن نتائجه غالبا ما تكون خارجة من عباءة الفنون التشكيلية الكلاسيكية وتنتمي إليها. أغلب الظن أنه، بالإضافة إلى ما سبق، ثمة عاملان أساسيان قد لعبا دورا أساسيا في هذه الديناميكية وما أفرزته من حضور عالمي، يتمثل الأول منهما في وجود مركز فني عالمي خاص بهذه الحركة في تركيا ذاتها، وهذا المركز هو مدينة اسطنبول بكل ما تمثله من ثِقَل تاريخي واجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي، المشهد التشكيلي ليس ديكورا فيه، من غير الممكن تخيّل دولة تركيا الحديثة بمعزل عن هذه المدينة. ربما تكفي الاشارة هنا إلى أن البينالي التركي الوحيد الذي يقام في البلاد وحقق لها شهرة عالمية على هذا الصعيد يُقام في اسطنبول ويحمل اسم هذه المدينة. ويتمثل الأمر الأخير في وجود عدد كبير من الفنانين التشكيليين الترك في تركيا ذاتها، ينتشرون في المدن الرئيسية، وينتجون أعمالا فنية أدّت، من حيث هي كمّ ونوع، إلى خلق حراك اقتصادي حولها سمح للكثير من الفنانين على الاستمرار في إنتاج فنّهم دون الحاجة إلى دعم مؤسسات الدولة. ويدخل في سياق هذا الأمر، أي وجود عدد كبير من الفنانين، حضور متميز للمرأة التركية الفنانة وجود وعي “فني”، إذا جاز التوصيف، لدى مؤسسات اقتصادية كبرى التي تتعامل مع الفنّ التشكيلي بوصفها راعية له أو مقتنية لمنتجاته، وفقا للتقاليد الأوروبية والغربية في الرعاية والاقتناء. نظرة عامة مناسبة هذا التعريف التحليلي هو معرض يقام، منذ الأول من يونيو الحالي، في صالة “برو آرت غاليري” بدبي ويحمل عنوان “معرض شخصي لأرزو أكغو وفن من تركيا”، حيث يقدم المعرض خمسين عملا تشكيليا تنوعت بين الغرافيك والرسم بالألوان الزيتية لأربعة فنانين تُرك معاصرين هم فضلا عن أرزو أكغوان: ديفريم أربيل، وديمير كارداس، ومورات غيرمين. وبحسب البيان الصحفي الذي جرى توزيعه فإن الهدف من هذا المعرض أن “يمنح الزوار فرصة الاطلاع على التطور التاريخي للفن في تركيا، واكتشاف تطور سوق الفنون الذي أصبح أكثر تخصصاً ونضجاً فيما تزداد شعبيته وشهرته العالمية بفضل ازدهار الدولة ذاتها”. مثلما أنْ “يعطي ـ أي المعرض ـ زواره لمحة عن الحقب المختلفة التي مرّ بها الفن التركي المعاصر، بهدف الترويج لأعمال أولئك الفنانين من تركيا وإيجاد سوق رائجة للفنون التركية المعاصرة في الإمارات العربية المتحدة”. ويختتم البيان بالإشارة إلى أن “الفن التركي تطور بالتزامن مع تطور الفن العالمي، حيث احتضن عدداً من التوجهات والحركات الفنية كفن البوب ـ آرت، وفن التصويري الواقعي، والتجريدي، وغيرها. وفي نهاية القرن العشرين كان الفنانون الأتراك أكثر نشاطاً في استكشاف الجانب البصري في الفنون”. غير أن واقع الأمر ينزاح قليلا أو كثيرا عن هذا الطرح بحسب المعرفة المسبقة لدى متلقي الأعمال بالتاريخ الحديث للفن التركي المعاصر باستثناء أن هذا الأعمال تنطوي بالفعل على سوية فنية رفيعة لكنها لا تمثّل بالضرورة ذلك الحراك الفني في تركيا الحديثة بل تعطي فكرة عنه لمتذوق من جمهور الفن أمكن له أن يزور “معرض شخصي لأرزو أكغو وفن من تركيا” ويطّلع على موجوداته. إنما، بالمجمل، فإن المعرض يمنح الزائر إحساسا، وليس معرفة، بأن الانشغال الأبرز في الفنون التشكيلية التركية ينصبّ على التكنيك. إذ ان كل ما يريد الفنان التركي المعاصر قوله قد قيل من قبل فناني هذا العالم عبر التاريخ الطويل للفنون التشكيلية، بينما عبر هذا التكنيك، الذي يريد له صاحبه أن يتميّز به عن أقرانه وتتميّز به أعماله أيضا، يقدم الفنان رؤاه الجمالية بوصفها موقفا من المعرفو والعالم وكذلك بوصفها موقفا من الجمال بحدّ ذاته، وبهذا المعنى فإن التكنيك، أو أسلوبية معالجة الفنان لسطوحه التصويرية لونا وشكلا ومضمونا، قد أصبح جزءا من فكرة العمل ذاته ولا تطوف على حواشيه الجمالية فقط، وربما من هنا فإن التكنيك يحفّز الكثير من التأملات لدى الناظر إلى العمل سواء على صعيد إثارة الفضول المعرفي تجاه طبيعة هذا التكنيك أم على صعيد إدراك ذلك السرّ الكامن خلفه. هكذا ينطوي المعرض على اقتراحات لافتة على في صناعة اللوحة واستكشاف طرائق أخرى لتقديم رؤى فنية غير معهودة في تقديم العمل الفني، بالنسبة لمتذوق فنون عربي لا تتوفر لديه الكثير من المعرفة عن تطوّر الفنون في تركيا. أشياء ومشاعر وعلى سبيل المثال، ومن بين أعمال ثلاثة فنانين مشاركين، يجري الكلام على أعمالهم هنا، فإن أعمال آرزو آكغون تكشف عن اهتمام خاص لديها بتلك الأشياء والمشاعر والأفكار التي هي جزء أساسي من حياتنا اليومية كأفراد وذلك بتحويل صور هذه الأشياء إلى عناصر ومعطيات في لوحاتها متعددة السطوح، والتي مادتها الأساسية من ألواح خشبية، عِوضا عن السطح التصويري الورقي المصنوع يدويا أو غير ذلك. ويلحظ الناظر إلى أعمال آكغون أن العملية الإبداعية قد انبثقت شرارتها الأولى من أشياء سبق أن استهلكت لتبرز من خلال العلاقة بين عناصر اللوحة ذلك الأثر الذي تتركه العلاقات الانسانية الشائكة بين ما هو ملموس، وتم اختباره على مستوى المشاعر والأفكار من جهة وبين والأثر النفسي الذي يتركه ذلك على الفرد من جهة أخرى. نساء آرزو آكغون في بورتريهاتهن بَدَوْن مطرقات وحزينات وغالبا ما تقول أعينهن الصامتات الكثير عن حبّ مفقود، لقد حمّلَتْهن الفنانة رغبات ومخاوف بوصفها أحاسيس ومشاعر تخصّ المرأة في أي مكان في العالم، فلا إشارة لزمان أو مكان بعينه في لوحات آكغون، بل هي خلفية من زخارف ملونة ذات طابع إسلامي جعلت أعمالها أكثر إنسانية وشمولية وصدقية ربما. أما ديمير كارداس، فتقع أعماله في تلك المنطقة الغائمة بين التجريدية المحضة والتجريدية التعبيرية، وهي جرافيكيات ليست عادية أو في متناول أي فنان بل جاء تنفيذها بتقنية صعبة هي ما يعرف بـ”السيلك سكرين” أو الطباعة الحريرية، التي هي من أصعب أنواع التقنيات الجرافيكية وخاصة عندما تكون المساحات اللونية موزعة على السطح التصويري أكثر مما أنها مجرد أشكال هندسية بالأبيض والأسود ما يعني أن العمل الفني يحتاج إلى معالجة سطحه طباعيا على نحو يحتاج إلى دقة أعلى لأنه أكثر بدائية وجمالية من سواه من التقنيات. وغالبا ما تشبه أشكال كارداس الأجنّة، لكن لا يدري الناظر إلى هذه الأشكال هل الواحد منها يدخل إلى الرحم أم يخرج منه، كما لو أن هناك شيئا ما آلي أو قدَري الطابع يأخذها إلى مصير من العسير معرفته أو توقّعه. والمثير لعين الناظر هنا هو ذلك التوزيع للمساحات اللونية على السطح التصويري بهذه الدقّة العجيبة، إذ يخلق بينها الفنان توازنات وتناغمات بمعجم لوني قليل المفردات: الأحمر والأسود والأزرق غالبا ثم بياض الورق. وأخيرا إلى أعمال ديفريم أبريل، التي يشعر المرء أمامها أن يقف بإزاء تأمل فريد وخاص لمدينة اسطنبول في حالاتها المتعددة، إنما هو غزل من نوع ما في هذه المدينة التي تتمرأى في القمر، إلى حدّ أنها مدينة كما لو خرجت للتوّ من مخيلة ألف ليلة وليلة. لإيهام الناظر إلى أعماله “الاسطنبولية” بذلك، لا يذهب ديفريم أربيل باتجاه أي تعقيد تقني، بل ربما تكون أعماله هي الأكثر التصاقا واتصالا بموروث التكنيك الفني مثلما هو عليه في الفنو التركية الكلاسيكية، ففي عمله “اسطنبول الأرجوان” أو “اسطنبول مدينة الأرجوان”، يجسد الفنان ذلك المعنى بمفردات لونية قليلة وربما تكون مشغولة يدويا أو خاصة، ومع ذلك يتمكن من مخاطبة شيء ما غامض ودفين في نَفْس الناظر إلى عمله هذا دون أنْ يدرك المرء تماما لماذا حدث ذلك. ربما لأن الأرجواني هو الأرجواني تماما في العمل وليس مقاربة لهذا اللون الذي يوحي في سياق التكوين ككل بأنه هو الذي يمنح اسطنبول مشهدها الليلي هذا بكل ما ينطوي عليه من جماليات “شرقية” المخيلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©