الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عصر الاحتراف.. على كرسي الاعتراف!

17 أكتوبر 2017 22:14
على طريقة كرة القدم دخل الاحتراف كل شيء وكل مجال. دخل السياسة والإعلام والثقافة والاقتصاد والفن. والمؤلم أنه دخل الدين أيضاً والاحتراف يقتل الانتماء والولاء والمبادئ والقيم، بل ويقتل القلوب والعقول. في الاحتراف لا ينتمي أحد لوطن أو ناد أو حزب أو صحيفة أو قناة فضائية، لا ينتمي حتى لدين ولا لفكرة ولا عقيدة. الانتماء في الاحتراف للثمن لا للقيمة. للمال لا للمبادئ.. كل شيء قابل للبيع ومن يرفضون البيع لا يعجبهم الثمن ويبحثون عمن يدفع أكثر. بل إن الاحتراف بلغ حد أن يبيع الناس دينهم لمن يدفع أكثر. هناك لاعبون يبيعون مباريات فرقهم وأنديتهم للخصوم. يخسرون المباريات ليكسبوا المال. يخسرون الأوطان ليكسبوا المال. يخسرون الدين ليكسبوا الدنيا. يزهدون في الدنيا ولا يزهدون. ويرغبون في الآخرة ولا يرغبون.. وقد طال وباء الاحتراف الجماهير البسيطة الساذجة خصوصاً في أمتنا العربية التي تندفع وراء المحترفين في كل مجال وتصدقهم وتصفق لهم. وكلما تكاثرت الجماهير حول المحترف ارتفع سعره وغلا ثمنه. ونظرة سريعة إلى من نسميهم الدعاة والعلماء. ومن أسميهم دعاة وعلماء عصر الاحتراف تريك أنهم أصبحوا مثل نجوم الفن وكرة القدم. لكل نجم منهم معجبوه ومعجباته المفتونون به. وكلما زاد المعجبون والمعجبات وخصوصاً المعجبات زادت أرصدة نجم الدعوة الدينية. والنساء جل إن لم يكن كل المتصلين هاتفياً بنجم الدعوة الإسلامية رغم أن صوت المرأة عورة في رأيهم. لكن النساء المتصلات الخاضعات بالقول غالباً أكثر جلباً للإعلانات التي يحصل النجم على نسبة منها بالإضافة إلى أجره الفلكي. ولا بد أن تقول المتصلة لنجم الدعوة: «إني أحبك في الله» وتضيف كلمة «في الله» لتخفيف شعور الحب العادي المعروف. فتتخذ الله وسيلة لإعلان حبها للداعية الوسيم النجم. ومعظم الأسئلة تافهة وساذجة لكن المهم في الأمر أن يكون المتصل امرأة. كل هذا من إنتاج عصر الاحتراف في كل شيء. حتى أن الداعية الجديد أصبح فارس أحلام البنات مثله مثل أي نجم تمثيل أو طرب أو كرة قدم. حتى العلاقات التي يقال عنها حب أو صداقة طالها الاحتراف. فالفتاة تحب من يدفع أكثر والشاب يحب من تنفق عليه. وبلغ أمر الاحتراف حد بيع الأجساد والشرف والكرامة والاتجار بالبشر لمن يدفع أكثر.. وهناك محترفون في مجال بيع الأعضاء البشرية.. هناك المئات الذين يبيعون كلاهم لمن يدفع أكثر.. وليس أغلى على الإنسان من نفسه مهما كانت دونيته في نظر الآخرين والذين يبيعون أعضاءهم لا مانع لديهم من أن يبيعوا أوطانهم ودينهم لمن يدفع أكثر. وفي مجال الإعلام والصحافة يبدو الاحتراف أكثر جلاء وظهوراً ورسوخاً. ولا تكاد تجد إعلامياً أو صحفياً إلا من رحم ربك مؤمناً بما يقول وما يكتب أو يتخذ الإعلام رسالة غير قابلة للمساومة والبيع. ولم يعد غريباً أبداً أن ترى إعلامياً نجماً في قناة فضائية. وبعد أن يتمكن من النجومية يساوم على زيادة عقده. وعندما يختلف مع أصحاب القناة. ينتقل بسرعة البرق إلى قناة أخرى ذات توجه مضاد للقناة التي تركها وذات توجه مضاد لوطنه أيضاً. حتى كلمة المصالح المشتركة التي كثر الحديث عنها بين الساسة في لقاءاتهم لا تعني سوى المال والثمن، ولم يعد أحد يتحدث عن المبادئ المشتركة والمواقف المشتركة.. لكنها دائماً المصالح المشتركة. وفي الانتخابات تكون الغلبة دوماً لمن يدفع لا لمن ينفع. الغلبة للثمن لا القيمة. وقد أجاد «الإخوان» إجادة تامة لعبة الانتخابات في العالم كله لا بفكرهم ولا برامجهم ولا قيمهم، ولكن بفلوسهم وبشراء الأصوات، لذلك يتركز جل ناخبيهم وأنصارهم في المناطق الفقيرة حيث يتحسس الناس جيوبهم قبل أن يدلوا بأصواتهم. وفي المناطق الغنية أيضاً لهم ناخبون، لكن الثمن هناك يزيد على المناطق الفقيرة. وقد عايشت ذلك بنفسي في مصر، ورأيت جهلاء ولصوصاً وفاسدين وإرهابيين تحت قبة البرلمان لمجرد أن لديهم قدرات على شراء أصوات وإرادات الناخبين. ولا توجد في الدول العربية انتخابات مزورة أبداً. لكن توجد إرادات ناخبين مزيفة وأصوات للبيع. وقد كان ناخبون في مصر مثلاً يقولون على الهواء مباشرة «أخذنا منهم الفلوس ولم نعطهم أصواتنا». وهذا لم يحدث طبعاً. وحتى إذا حدث، فهو دليل على دونية الناخب وفساد ضميره فلماذا أخذ الفلوس؟ وفي السياسة كما في الرياضة والفن والثقافة البطولة المطلقة لأصحاب الملاءة المالية، والكل من حولهم كومبارس. والقوى العظمى تعبير لم يعد فقط يُطلق على ذوي القوة العسكرية، ولكن يطلق أيضاً على ذوي القوة الشرائية. وفي عصر الاحتراف الذي جعل كل شيء قابلاً للبيع، وجعل كل شيء سائلاً وفقد العالم فيه الصلابة والثبات، أصبحت قطر قوة عظمى. فلا اعتبار للجغرافيا أو التاريخ أو الزيادة السكانية وكل الاعتبار للقوة الشرائية.. شراء المواقف والأصوات والأندية الرياضية ونيمار.. بل وشراء مواطنين من دول أخرى يتم منحهم الجنسية. وطول الأزمة القطرية رغم الوثائق والمستندات والتسجيلات التي تدينها بدعم وتمويل الإرهاب راجع إلى قوة قطر الشرائية لا السياسية ولا العسكرية ولا القيمية ولا الدينية ولا الجغرافية ولا التاريخية ولا الديموجرافية. وطول الأزمة سيجعل قطر البقرة الحلوب لمن يريد أن يبيع المواقف والمبادئ في السوق القطرية.. ولمن يريد أن يبيع السلاح. والناس كلما باعوا أنفسهم لمن يدفع أكثر يقولون بكل فخر «نحن في عصر الاحتراف». واللاعب والإعلامي والسياسي والداعية.. كل منهم يقول: «أنا أبحث عن مستقبلي.. وولائي لمن يدفع أكثر..» حتى إذا ترك اللاعب فريقاً يلعب فيه أساسياً. إلى فريق يجلس فيه على مقاعد البدلاء طوال مسيرته. المهم أن الأجر أكبر والثمن أعلى والمكافآت تنهال. لذلك يبدو من العبث والمثير للسخرية أن نتحدث عن القيم والمبادئ والفضائل والوطنية والولاء والانتماء والفن الهادف والرسالة الإعلامية والتعليمية. وحتى المعلمون كثير منهم دخلوا عصر الاحتراف، فهناك نجوم في الدروس الخصوصية، حتى الأطباء طالهم الاحتراف، وأصبحت قيمتهم في أسعارهم، فلا المحامي تؤرقه القضية ولا الطبيب تؤرقه الحالة المرضية، ولا السياسي معني بوطن أو هدف، ولا الإعلامي تؤرقه الرسالة. كل امرئ إلا من رحم ربي وقليل ما هم مشغول بثمن ما يعمل لا بقيمة ما يعمل. وهنا تبدو بجلاء صحة المقولة الشيوعية ولو في هذا العصر. وهي أن العامل الاقتصادي هو العامل الفوقي، وكل العوامل بعد ذلك تابعة مثل العوامل العقائدية والدينية والقيمية. هذا ما يقوله الواقع الآن. وهذا هو قول عصر الاحتراف وهو جالس على كرسي الاعتراف! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©