السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الكتابة فعل ابتهال ومحبة

الكتابة فعل ابتهال ومحبة
12 يوليو 2014 00:53
أنور الخطيب الكتابة الإبداعية فعل روحاني لا يتحقق إلا في حالة التوحد مع الصوت القادم من الأعماق، فيهيئ المبدع نفسه ليعانق ذاته بكل ما فيها من خطايا وفضائل وأفراح وأحزان وغضب وعتاب، وما اكتسب من معارف روحانية ومادية وما نزّ من عرق الأولين، فإذا ما تم التوحد والتهيئة يستسلم المبدع استسلام الطفل لكفي سلطان النوم، أو استسلامه لنوبة فرح لا يعرف مصدرها، فيبكي ويضحك ويصمت ويعبث، حتى إذا ما ألقى نفسه في بحر أصبح موجة جديدة، بذاكرة تتزاحم فيها أغاني البحارة والغرقى والمسافرين والصيادين، هنا يتفرّد في التقلّب بين ذاكرة الموج، ويكتب على الماء قصيدته، وعلى الساحل قصته، وعلى الهواء أحلامه التي لم تتحقق بعد، ويرسل أفكاره للعمق ليودعها في مختبر المرجان والأصداف والتأوهات والحكايا، فيمنحها سكان الأعماق أسرارهم، لتخرج كما شاء لها الصوت القادم من الأعماق. قد يبدو الأمر معقداً لكنه ليس كما يبدو، فشرط الكتابة الإنصات لصوت الكائن الداخلي المتمتع بحرية مطلقة، إذا لا سلطان للكاتب عليه، إلا في التمثّل والتجسيد والابتهال وتحويل الصوت إلى كائنات تتحرك على الورق، راقصةً متمردةً منسابةً خاشعةً ناحبةً ضاحكةً عاتبةً جريئة، وواضحةً وضوح تحية الصباح، ومركّبة كالدهشة، والمبدع الحقيقي منصتٌ محترف كذاك البدوي الذي يسمع دبيب الخيل حين تلامس أذنه الرمل. الكتابة في شهر الروحانيات لها وهج الاستيقاظ عند الفجر، والانصات لموسيقى موكب الصباح، القادم على أجنحة الأحلام ونبضات قلوب القلقين، ومن يستطيع التقاط قرع الدفوف الناعم القادم من أكف نساء العتمة تُفتح له أبواب النهار ليطل على ما أوحى له نور الانبلاج والشروق: كتابة لها مذاق الأمل والألم؛ أمل الصباح المبشّر بالحب، وألم سكاكين الوقت التي تشاكس توق المبدع للخلود. الكتابة فعل روحاني لأنها ضد التخمة، ومع صفاء الشرايين من سموم النوايا، فاقتناص الصوت لا يتم بحضور التجشؤ والتلمّظ والطحن والهضم، هذه الأصوات تشتت المعنى على سطح موجة رعناء، ويحاول المبدع لاهثاً لملمة ما ذاب في الماء وما ترسب في العمق، فيحصل في النهاية على شكل مرتبك للصورة الشعرية والجملة السردية، وتأتي الفكرة على استحياء فتومض مرةً وتخبو مراراً، وبين هذا وذاك تهرب الذات إلى مخدعها في انتظار لمسة عاشقٍ صافٍ مصفّى، فتمنحه دفئها الخالص المخلص، ويتحقق الخلاص. الكتابة فعل روحاني لأنها تنشد الخلاص والتحرر من قيود التراب لتعانق فراشات المدى المفتوح والمنفتح والمتفتح، فلا كتابة بدون مدى ثريّ بالرحابة، يمنح الحرف أناشيد الحرية والانعتاق، وصاحب الحرف سمواً وتألقاً وتدفقاً، حتى يصبح جزءاً من المدى، فيجمع الصدى من المستقبل، ويعيده إلى الذاكرة الموشومة بالحناء، حيث تحتفل طفلة بدخولها عالم الأنوثة الفخم، المفضي إلى الأمومة، حيث الجنة تحت أقدام أمهات استثنائيات. الكتابة فعل روحاني لأنها ترتقي إلى مقام الابتهال، حيث المقال خلف حدود ما تعارف عليه من معانٍ وأفكار وصور وحقائق، يبتهل المبدع كي تُكتب له الرحمة بعد طول شقاء، وليصل إلى شرفة النقاء، يطل منها على مرج حروف تتسابق لتزرع أزهارها، وتسقي هاماتها، وتستقطب طيورها، لتشاركها جلسة الابتهال، فإذا ما اقتنص المبتهل بصيص إضافة ابتسمت أنامله، وسال على ورق الدنيا ليكتب حكايته مع ذاته، ويبتهل أكثر كي تدفق سيوله وتغمره، حتى يتماهى مع أعماقه. هذه الكتابة ليست حروفاً تأتي وحدها مع قوافل التمور والعطور، وإنما يستدعيها سر ساكن في الخافقين، ولا تحضر إلا حين تُفرش لها سجادة نظيفة نقية من الضوء، تمشي عليها قلوب مضمخة بالحب، فالكتابة فعل محبة أولا وأخيرا..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©