الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيلاّ أخمدولينا.. حسناء الجماهير الثائرة

بيلاّ أخمدولينا.. حسناء الجماهير الثائرة
18 أكتوبر 2017 02:52
كتابة الشاعر الفرنسي جيل براسنيتزار الملف ترجمة وإعداد: أحمد حميدة لقد كانت بيلاّ أخمدولينا، هي تلك الحسناء الفاتنة ذات العيون التّاتريّة الآسرة. وكما ذكّر بذلك زوجها الأوّل إفتوشنكو، امرأة سابية الجمال، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، شاعرة عارمة.. وقورة، ووريثة خليقة بإرث آنّا أخماتوفا ومارينا تسفيتاييفا. وبقدر ما كانت هذه الشّاعرة مليحة وصبوحة، بقدر ما كانت متمرّدة وشرسة، حتى أنها غدت في منعطف الستينيات من القرن الماضي، مُلهِمة «ذوبان الجليد» في الاتّحاد السوفياتي زمن خروتشوف، ومعارِضة عنيدةٍ.. مريدة، مناوئة لبروز «عصر جليديّ» جديد معه. مع زوجها إيفغيني إيفتوشانكو، كانت قد شاركت في أمسيات شعرية عظيمة بمتحف البوليتكنيك بموسكو، كما ساهمت في قراءات شعريّة حماسيّة ملتهبة بالملاعب، عبر مضخّمات صوت مزمجرة، كانت تجمع حشوداً من الشّباب المهووس بالشّعر وبالكلمة المجلجلة. وقد أضحت أخمادولينا علامة بارزة في كوكبة الشعراء الذين عرفوا يومذاك «بشعراء المنابر»، أولئك الذين رفعوا بأشعارهم واندفاعهم واتقاد حماستهم الأمل عاليا، في بلد أثخنته الحروب ونوائب الزّمن البلشفلي. وبوصفها شاعرة غنائيّة أكثر منها مبشّرة بشعر جديد، كانت بيلاّ أخمادولينا مع زوجها إيفغيني إيفتوشانكو، مبدع الرّائعة الخالدة «بابي يار» التي لحّنها شوستاكوفتش سنة 1962، من الأصوات المجلجلة التي قادت إلى إذابة جلمود جليد الفنّ الرّسمي، فثلمت بذلك جدار التسلّط والاستبداد قبل أن تخترقه. لقد غدت أخمادولينا في نظر الشّباب الرّوسي والأحرار في العالم، الصورة المجسدة لذوبان الجليد بالاتّحاد السوفياتي، ومن تلك الأصوات الإنسانية الشّامخة التي أحدثت شرخا عميقا.. واسعا، في عالم بات جامدا، متيبّسا ومحنّطا. شاعرة وكاتبة سيناريوهات وممثّلة مقتدرة، ستظلّ أخمادولينا الأيقونة الشاهدة على زمن تلاشي الستالينيّة، ورفيقة بردجانوف، بسترناك، ساخاروف وفلاديمير فيسّوتسكي، هذا الذي كانت بيلاّ شاعرته المفضّلة، وأحيانا كان يقرأ قصائدها في مسرحه «لا تغانغا». ويمكن أن نذكر ما أسرّت به لباردجانوف «خطئي الوحيد أنّني كنت دوما حرّة». ولدت أخمدولينا شعريّا حي اختفى ستالين، وفضلا عن كونها شاعرة، كانت مترجمة مقتدرة، نقلت كمّا هائلا من الأشعار الأجنبيّة إلى اللّغة الرّوسيّة. حياة بملء الصّوت ولدت يلاّ (إيزابيلاّ) أخمدولينا في العاشر من أبريل 1937، من أب تاتاريّ، موظّف سام في مصالح الجمارك، وأم روسية ذات أصول إيطاليّة، ندجدا مكروفنا لزاريفا، التي كانت تشتغل حسب البعض كمترجمة لدى الـ»كي. جي. بي». بدأت تكتب الشّعر في سنّ الخامسة عشرة، وهي لا تزال في المدرسة الإعداديّة، ولفتت حينها أنظار بعض نقّاد الأدب. وبعد استكمالها دراستها بكليّة الآداب غوركي سنة 1960، سافرت إلى آسيا الوسطى حيث اكتشفت الشّعر الجيورجي والتّاتاري.. اشتغلت لمدّة سنة في صحيفة كثيرة الرّواج «صانع الميترو». تزوّجت سنة 1954 الشّاعر إيفجيني إفتوشنكو، وفي سنة 1955، التحقت بكلية الآداب غوركي حيث، وهي تواصل دراستها، نشرت عديد القصائد والمقالات في صحف كثيرة. سنة 1959، وحين بلغت الثانية والعشرين، نشرت قصيدتها التي غدت الأكثر شيوعا «على عذار طريقي». وفي سنة 1959، تمّ تأنيبها حين أعلنت معارضتها لاضطهاد بوريس بسترناك، ورغما عن ذلك أتمّت دراستها سنة 1960، وفي ذات السّنة انفصلت عن افتيشنكو وتزوّجت القاص يوري نافجين، في فترة كانت خلالها عضوة في حركة «المدرسة الأدبيّة الجديدة»، التي ضمّت كتّابا متحمّسين للفكر الغربي. نشرت أولى أشعارها وهي في سنّ الثّامنة عشرة، في المجلة الرسمية «أكتوبر»، فيما كان نجاح ديوانها «الحبل» مدوّيا، ليثير هذا العمل شجب السّلطة الرّسميّة، ويجعلها تواجه معرقلات كثيرة لنشر ما كانت تكتب. وخلال نفس الفترة، انضمّت إلى حركة «المنابر»، التي كان هدفها، إلقاء الشّعر أمام آلاف المستمعين بملعب لوجنكي، وجامعة لورمانسّوف بموسكو، وبمتحف البوليتكنيك، وأماكن أخرى كثيرة، وذلك بصحبة إيفغيني أفتوشنكو وشعراء آخرين. بعد 1964، وخلال الفترة التي أعقبت «ذوبان الجليد» في عهد نيكيتا خروتشوف، وانتقال السّلطة إلى ليونيد بريجنيف، سوف تدخل هذه المعارضة المتقَدة، المنبوذة رسميا «لنزعتها الأنانية في الكتابة»، طور الانشقاق الفعلي عن الحزب والسّلطة القائمة، وكانت ممّن وقعوا عريضة دعم ومناصرة للمعارضين للنظام السوفياتي، أمثال أندريه سخاروف، ولاف كوبيلاف، وجيورجي فلاديموف، وفلادمير فولنوفيتش وغيرهم.. لتكون أبرز مقاومِةٍ للنّظام السّوفياتي، وإن لم تكن لها مكانة جوزيف برودسكي الذي ستدافع عنه فيما بعد. وفي سنة 1968 انفصلت من جديد عن زوجها الثّاني، لتتزوّج سنة 1974 الفنّان بوريس ميسرار وتنجب منه ابنتين، إليزاباث وآنّا. وفي السّبعينيات، ثمّ في الثّمانينيات، ودون الحديث عن ندواتها الشعرية التي كانت بالكاد مرخّصة من قبل السّلطة، أصبح لإخمادولينا نشاط مكثّف. فبعد أن منعت من النّشر وأقصيت من اتحاد الكتّاب، غدت لاحقا سكرتيرة هذا الاتحاد. وقد نقلت أخمادولينا إلى اللّغة الرّوسيّة أعمال شعراء جيورجيين وأرمن وكازاك وتشوفاك وفرنسيين وإيطاليين وشيشانيين وبولونيين ومجريين وبلغار.. أما أشعارها فقد نقلت إلى الفرنسيّة، والألمانيّة، والإنجليزيّة، واليابانيّة والإيطاليّة والعربيّة والبولونيّة والتّشيكيّة والدانمركيّة، والأرمنيّة والجيورجيّة واللتوانيّة والكرديّة والرومانيّة. وفي 1993، وبعد انهيار نظام السّوفيات، وقعت على «الرسالة رقم 24» التي طالبت بمنع كلّ الحركات والأحزاب الشيوعيّة والقوميّة في روسيا. وقد توفّيت في 29 نوفمبر 2010، في سنّ الثّالثة والسّبعين، إثر نوبة قلبيّة، في بيردالكينو بضواحي موسكو حيث عاش أيضا بوريس بسترناك. صوت أسطوريّ تعد بيلاّ أخمدولينا من أكثر الشّاعرات الرّوسيات رقّة وغنائيّة، وتظلّ أعمالها حقيقة ثابتة ومتماسكة في الأدب الرّوسي، وقد عرفت كيف تضفي جانبا من الطّراوة والرّشاقة على الشّعر، فجاء هذا الشّعر ملامسا النّفس الشّعري لبوشكين، أخماتوفا أو تسفيتاييفا، مرورا ببسترناك، لتبقى أخمادولينا، وبلا شكّ، من أبرز أعلام الشّعر الرّوسي الحديث. فكتابتها الكلاسيكيّة المتماسكة، جعلت شعرها ينتشر بين النّاس ليكون في متناول قطاعات عريضة من المجتمع الرّوسي. لقد تطوّرت كتابتها ما بين 1970 و1980 نحو أسلوب أكثر تعقيدا واستلهاما للاستعارات، ليطال الأعماق الخبيئة في باطن الإنسان، وهي كتابات موسومة باللّهفة والشّجن. تستعمل القافية المتعدّدة والموسيقى الطّييعيّة للّغة الرّوسيّة، وتريد أن تكون في آن، امتدادا للعصر الفضّي للشّعر الرّوسي، ومتماهية في نَفَسها الشّعري مع كبار شعراء ذاك العصر، وقد أهدت لهؤلاء الكثير من قصائدها. ولعلّ من الأسباب التي جعلتها غير معروفة خارج حدود روسيا، أنّها غالبا ما كانت تكتب قصائد مطوّلة، كثيفة.. ومشبعة باستعارات مذهلة.. غامضة، أحيانا ما كانت ساخرة. في قراءاتها أمام جمهور المستمعين، ومن منطلق التزامها الجريء، بل المتهوّر، بنضالات تلك الفترة من أجل حريّة التّعبير، كانت تتحدّث مباشرة إلى الشّعب عن الحياة البسيطة، عن الفرح، عن البلاء والمعاناة، عن المرض.. وعن دور ومسؤوليّة الشّاعر في المجتمع. وحتّى نفهم جيدا الصدمة الهائلة التي أحدثها جيل ما بعد «ذوبان الجليد»، ينبغي أن ننغمر من جديد في أوضاع روسيا سنة 1953، قبيل وفاة ستالين. حينها كان أغلب الشّعراء قد عرفوا، إمّا النّفي أو التّصفية (بلوك، زابلوتسكي، سملاّكوف..)، أو أنّهم منعوا من النّشر ليعيشوا من الترجمة عيشة بئيسة، أو أنّهم منعوا من كلّ شيء، فيما كان الشّعر الرّسمي للواقعّة الاشتراكيّة يملأ الكتب والصّحف والمجلاّت. وتدفقت الموجة الأولى لـ»ذوبان الجليد» مباشرة على إثر وفاة الطّاغية ستالين سنة 1954. وقد شهد هذا الذّوبان رفضا كليّا للشّعر الرّسمي وسمح بإعادة اكتشاف الشّباب لشعر إيسنين مثلا، فيما امتدّت الموجة الثانية من هذا الذّوبان ما بين 1955 و1956، مع بداية حكم خروتشوف الذي شهد انفتاحا نسبيّا، إذ تمّ الاعتراف بـ»ليل الشّعراء» الذي كان يتلى فيه شعر كتّاب جدد، وطباعة أشعارهم موشومة بإهداءاتهم للقرّاء. هكذا بدأ الشعر يشهّر بالاستبداد الستاليني، وإن كان ذلك تحت عباءة المثل الأعلى للثّورة. وكان أفتوشنكو وأخمادولينا رموز هذه التحوّلات المتسارعة، وأحدث ديوان «المحطّة الشّتويّة»، وسلسلة من القصائد لأفتوشنكو دويّا عارما لدى القرّاء، ولكن عصا القمع سرعان ما انتصبت من جديد، فيما مثّل سحق انتفاضة بودابيست في خريف 1956، نهاية الانفتاح وسياسة إرخاء الحرّيات. ثمّ جاءت قضيّة بسترناك سنة 1957، لتزيد في تبديد أوهام أولئك الذين آمنوا بحريّة ممكنة. وفي ظلّ حكم بريجنيف (1964 1982)، ارتفعت عصا الرقابة من جديد، لتتجمد بفعل وعيدها مرة أخرى الحياة الثّقافيّة، ولكن دون أن تبلغ درجة الرّعب الستاليني، وغدت النوادر والمُلح متنفّسا للمثقّفين لمواجهة مواقف لبريجنيف كانت مثيرة للسّخرية. هكذا تبدّت حدود تغيير الواقع الستاليني، بشكل محتشم في بداية الأمر، ثم بشكل شرس بعد 1968، غير أن موجة التحرّر أمعنت في التدفّق، في السريّة أحيانا، وبالنّشر خارج روسيا في أحيان أخرى. وسوف ينتعش هذا الصّراع من أجل الحريّات في ظلّ «الغلاسنوست» مابين 1985 و1991، ليعجّل في احتضار النّظام وإصابته بالإعياء والخمود. بيلاّ أخمدولينا هي إذن من تلك الأصوات الصّارمة والحرّة، التي بفضل مواجهتها الجسورة، هزّت ركيزة النّظام الستاليني وأعمدته المهترئة. لن يشاركني أحد في قمري شعر: بيلاّ أخمدولينا رنين ملحاح أيّها الرّنين الملحاح، منذ عشرة أيام وأنا أنتظرك عند مسلك ريفيّ، ولا أزال أنتظرك مع اكتمال البدر. أيّها الرّنين الملحاح، إنّك لقريب من ههنا. تعال وتهاوى في جرحي الخصيب فلماذا تراك تتخفّى وترصدني؟ أيّها الرّنين الملحاح، كلّما عدمَ صوابي، كبر وجعي. أيّ مسمع تستعذب، غير مسمعي أنا؟ البدر في تمامه يسامحني ولكن.. لا رنين يدركني فيرشدني. إنّه شارد، فلماذا تراني وُهِبْتُه؟ لن يشاركني أحد في قمري فهو أبدا.. لن يحبّ غيري. يكتشف القمر أنّه إرهاصة موت، فيا أيّها الرّنين الملحاح، إنّي لأهوى المرح مع غيابك القمريّ. فلتسامحني أيّها الرّنين الملحاح. .............................................. وداعا.. وداعا.. وداعا.. لسوف أمحو من على جبيني هذه الذّكرى: رطيب ولطيف هو البستان الغارق في جميم جماله كما في رقشة رائعة. وداعا.. كلّ شيء سوف يمضي: البستان والبيت الشّقاق الغريب بين روحين زفرة المحبة.. الوئيدة لزهر العسل قرب الشّرفة. بالدّاخل كما بالخارج وهو يستنبت رغد الحنين كان زهر العسل يلهم الرّوح خواطر سديميّة عن بروست. نتأمّلها كنار متوهّجة في العراء حدّ إغفاءة العيون، حدّ غشية الضّباب وتأمّل تلك الأيكة يعادل السّياحة في كتاب خياليّ.. رائع ما بين قلبينا.. يجيش الضّباب.. والنّدى وزهر العسل الطّلاء وبستان سوان يذكّران بنفس الوجع ما بين سوان والبستان، وفي رؤى متواردة كنت أحلم بقبّعة بطانتها خضراء بغرب الشّمس في كومبراي وبصوت جدّة عاشقة. وداعا.. ولكن كم من الكتب والأشحار إئتمنتنا على براءتها حتّى يُلقي بها تهيّج وداعنا في سديم الزّوال والخمود. وداعا.. نحن إذن من أولئك الذين يدمّرون المكتبات والغابات. لنمكث على قيد الحياة ونحن أموات بلا حنوّ ولا شغف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©