الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجسد كوثيقة حربية

الجسد كوثيقة حربية
18 أكتوبر 2017 02:57
سامي داوود الجسد نظام علاقات. يخضع ويقلد ويهيكل المؤسسة التي تمده بروابط حركته. إنه الأثر الذي يُمرر إلينا التاريخ ملموسا في وضعية الجسد التي بها يكشف المؤسسة التي تعتقه وتمتلكه. لم يكن الجسد منطوقاً إلى أن تمكن مارسيل موس من إبعاد اسم المنوعات المعرفية عنه، وإجمال ما يمتلكه الجسد من حركات ورموز متباينة المصادر، تمده بعلية الحركة ووضعيتها وتخضعه لشعائرها وطقوسها، تحت اسم «تقنيات الجسد». اجتهد موس ليُلمْلم مجموعة منوعة من الحركات الجسدية والوضعيات المختلفة التي جمعها في حزمة مركبة تحت اسم التقنيات. منتبهاً إلى تعددية المصادر التي يعتمدها كل مجتمع ليبني جسداً مميزاً لأفراده. خِتمٌ ملموس في الوضعية الجسدية التي أسستها سياقات متباينة، تمنح تفصيلاً هنا وآخر هناك لمعرفة الطبع الاجتماعي وجذوره التي تمنح المجتمع عبر الجسد تماسكاً مضاعفاً ومؤشراً مضاعفاً لتعرفه على نفسه. المشي والجلوس والرقص والانحناء.. إلخ من التقنيات الجسدية التي تؤسس من حركية الجسد بنية دلالية. هيكلة معمار القبر طرأت تغيرات شبه جذرية على وضعية الأجساد التي حصرتها الحرب في موقعين لا يمكنها أن تجد لها فكاكا منها. داخلياً: عبر الأجساد التي تجرها الحرب إلى اشتراطاتها: ابتهال قسري بأصحاب البنادق، ودروع بشرية، وبقايا جسدية مبتورة أو منفلتة من الأنقاض التي أعادت هيكلة معمار القبر في كتل إسمنتية تطبق سقفاً على سقف. مظهرة بعض الأطراف المتدلية كعلامات على مقبرة عمودية لاسلالية. وخارجياً من خلال الافتقاد الجذري لتقنية الجسد التي بنَتْه. عبر طوابير انتظار اللاجئين تحت حراسة هراوات رجال الأمن التي تعصْرِنُ مشاهد العبودية في جدلية العلاقة بين السيد والعبد، كما يقول هيغل. والانكماش الذي يميز عوائل اللاجئين في مديريات الإقامة، حيث يربط الأب أطفاله بأطرافه لئلا يضرب الأفراد أمام عوائلهم، وحظر التجول في الأماكن التي يسكنها أهالي البلد. ونبرة الصوت التي تجعل اللاجئ منخفضا دون مستوى قامته. والنظرة التي يمنع على اللاجئ أن يستخدمها. النظرة المباشرة التي تستبدل بالتحديق في الفراغ أو الأرضية. تفكك الحرب بنية الجسد وتعيد ربطه في وضعيات لا إنسانية غير قابلة للاختزال. ولعدم القابلية للاختزال هذه تاريخ يمكن ترتيبه في أربعة مستويات. هي: الحجر والإبادة ورحلة الماء السوداوية والإقصاء بالحواس وفقاً للآتي: فَطنَ كل من آدورنو ودوركهايم إلى مركزية حاسة الشم التي افتتحت بها النازية عملية إقصائها للآخرين الذين وضعتهم في قائمتها للتنقية. في الشم يختلط الإنسان بالآخر وبالشم يُعزل أيضا. كانت الدعاية تركز على تخصيص عرق ما برائحة نتنة لأجل ترسيخ الوهم بوجود النتانة في ذلك العرق. وربطا ذلك بأفكار التنوير التي يمكنها أن تنتج عبر الجسد ما غَفِلَ عنه العقل. وكان كارل إبراهام وفرويد قد سبقاهما في الإشارة إلى النوازع الفموية الحديثة التي يمكنها أن تجرد الزيف الحضاري في تجريدات جسدية تكشف عري السلوك وهيكله الوحشي. فرغبة التمزيق والتهام الموضوع وتدميره لا تتوقف عند الإيحاء الجسدي بين طرفين تكون فيها القوة غالبة لدى أحدهما، بل وأيضا تترجم إلى عنف لغوي مجسد في عبارات لا تعني شيئاً سوى تدمير الآخر لاحتواء هويته. وهذا يشمل خطب السياسة والدين على السواء. المرجعان اللذان يغذيان الحركات الشعبوية باللغة وبمسوغات النزوع إلى التدمير وتبجيل الموت. وقد وَفّرَ لنا الإعلام المعاصر البيانات الكافية التي دونتها جدران الشوارع وأوامر البلديات التي حرضت على تحويل اللاجئ إلى آفة. وكما يكرر زيغمونت باومان، فإن الإرهاب يتكفل بتأمين حجة هذه السلطات لجعل إقصاء الآخر مباركاً. الإنسان المستباح أسهمت حركات النزوح المعاصرة في ظهور تعديل جديد في وضعية الجسد ورمزيته. تعديل منفتح على عدة مستويات. اللجوء والهجرة المرتبطة بالعنف وأثرها في إعادة إحياء مفهوم «الإنسان المستباح» الذي يمكن أذيته دون عقاب. وعلاقة متعالية بالمعنى الكانطي، تربط قرارات الحجر المعاصرة بتاريخ الحجر الصحي في القرن السابع عشر. والتي قدمها كل من ميشيل فوكو في «تاريخ الجنون» حينما كانت المشاقي مؤسسات عقابية. والمؤسسات البيروقراطية التي ظهرت لتدير وتنظم عملية الإبادة على درجة عالية من عادية العمل. والتي يقدمها زيغمونت باومان في عمليه» الحداثة والهولوكوست» و«الحب السائل». إلى جانب الدور الذي وظفه الإعلام في إظهار البعد التراجيدي للماء في الرحلة التي مشهدتها أجساد الغرقى والحطام وحُلمية الضفة الأخرى. يشير فوكو في وثائقيته المتعلقة بالجنون إلى التنكيل الجسدي البعد ذاته يظهر في مؤلفه المراقبة والمعاقبة الذي تمأسس مع المرسوم الخاص بإنشاء المشفى العام في باريس سنة 1656. والذي جاء بعد ثلاثة قرون على انتهاء مرض الجذام المؤسس لنظام الإقصاء وفكرة الثواب المتعلقة به. أي مكافأة المواطن على إقصاء المجموعة المنبوذة التي تحددها المؤسستان الدينية والسياسية. وإنشاء سفينة الحمقى التي ربطت المقصيين بمجرى النهر وفرضت عليهم الحظر التالي: «الحرمان من التسكع في أطراف المدن. وذهابه بعيدا معناه أنه يصبح مسؤولا عن رحيله. إذ لا فكاك له من السفينة». حظر عتيق ومستأنف من قِبل المجتمعات المعاصرة التي التقطت المهاجرين وأخضعتهم لنظامها الخاص. العزل في مخيمات رثة لترتيب مجانية الموت، وتنظيم حركة القهر في الأجساد التي باتت بلا تحديد. إذ لا مكان يمكنها أن تعود إليه أو أن تغادر إليه. لا هوية يمكنها أن تتمثل فيها لخطورة التمثل في هويتها التي كانت لها وتخضع للحجر بناء عليها. ومنع ظهورها في هوية المجتمعات المضيفة دون التطهر من كل ما ساهم في تأسيسها ثقافيا ونفسياً. مع وشمها بإشارة مبهمة كونها لم تلد في الأرض الجديدة وليست جزءاً من جسد الأمة/‏‏ الأرض. يقول فوكو ببساطة إن الأشكال الحية من الإقصاء انتقلت من المرضى إلى المجانين ومن ثم إلى المشردين والفقراء. ويمكن الإضافة في بنيتها المعاصرة إلى اللاجئين. ظهرت مؤسسات إدارية لترتيب اللجوء وإحكام آليات الحجر فيه. أسماء إدارية مجردة ومديريات لإصدار وتجديد الإقامات. إلى جانب القسوة المفرطة التي يستمدها رجل الأمن من غياب أي قانون يمكن أن يحاسبه على العنف الذي يمارسه ضد اللاجئين. يمكن لرجل الأمن أن يلتهم اللاجئ ويصور أفعاله ويتباهى بها أمام رفاقه. دون استبعاد إمكانية ترقيته وظيفيا. يشعر المجتمع المضيف أن ما يحدث داخل هذه المؤسسات هو محض إجراء قانوني لحسن سير عملية الحجر التي يسندها المجتمع ويعيد تطبيقها في تعامله مع اللاجئ كشخص خاضع بالضرورة. يتقاطع عمل هذه المديريات في طبيعتها الفرق فقط في الدرجة مع «قسم الإدارة والاقتصاد» الذي يعرضه باومان في معرض حديثه عن المشاركة الجمعية في الاضطهاد دون الإحساس بتأنيب الضمير. هذه الفكرة التي يجدها متسقة مع الترشيد البيروقراطي الذي ظهر مع الحداثة الرأسمالية. دون استثناء. عملت الدول المضيفة على تعقيد الإجراءات المتعلقة بحركة اللاجئين وأماكن سكنهم. وربطت كل تفصيل بالجانب الأمني. إذ يجب عزلهم لئلا يختلطوا بالمجتمعات المضيفة. لا تتوافر مؤشرات كافية لفصل المجتمع عن الإجراءات الإدارية العقابية التي تهندسها مؤسساته ضد اللاجئين. نبرة الصوت المستخدمة في دوائر الأمن هي ذاتها المستخدمة في المشافي والمقاهي والشارع. النظرة هي ذاتها. الإحساس بغياب العقاب على الإيذاء هو ذاته. وتحول تأنيب الضمير إلى إرشاد بيروقراطي هو أيضا ذاته داخل المؤسسات العقابية لترويض اللاجئ وخارج هذه المؤسسات. حرج أخلاقي ألا يستدعي ذلك حرجاً أخلاقياً؟ إنها تعرية خالصة، حيث يكون اللاجئ في وضعيته الحسية بمثابة مرآة ليرى المسخ ذاته. الجسد في يوتوبيا ميشيل فوكو مرآة حينما يكون موضوع رؤية. لذلك يقول: «لكي أصبح يوتوبيا يكفي أن أكون جسداً». إلا أنني أعدل هذه الصيغة لتكون دقيقة في هذه الوضعية التي نلمسها. في انحناء جسد اللاجئ أمام سيده الموظف الإداري. في نظرة السيد له. في حركة يديه التي بهما يضم قدر ما يستطيع أطفاله على جسده. في الخفوت الحيواني لنبرة صوته التي يتلو بها اسمه. في قبوله الذي لا خيار له سوى بقبوله للإهانة التي يعتبرها طابعا صوتيا في معاملته الإدارية. وفي جلوسه الذي لا ينتمي إلى ذاكرة جسده في الجلوس. هكذا تكون صورة المرآة هي صورة المدينة المطبوعة في جسمانية حضور اللاجئ في المجال العام. منحتنا الحرب وحالة اللجوء فرصة للتفكير في نظام التحريم الغذائي. فباومان مرة أخرى، يستشهد بمذكرات كلود ليفي شترواس «مدارات حزينة» ليعيد إلى فكرة الالتهام ثراءها السلوكي. آكلو لحوم البشر ليسوا أشباحا أو كائنات خرافية. بل هم مجندون أوفياء لأفكار تعمل على أكل الآخر بتقنيات جديدة. ارحل إذن. عبر الماء موطن الموت الشامل. يضيف غاستون باشلار في «الماء والأحلام» تفصيلاً مضاعفاً إلى المعنى الأسطوري لتجنب ملامسة الأطفال الشريرين الأرض، والذي كشفته ماري دلكور. إذ كان يرمى بهم في البحر. يضيف باشلار أن تصنيف هؤلاء الأطفال كأشرار كان يجعلهم لا ينتمون إلى الأرض. أطفال بلا أرض. لذلك كانوا يعيدونهم إلى الماء لتعيدهم طهراء إلى الأرض. وإن تمكن بعضهم من النجاة كانوا يصبحون كائنات خارقة لتجاوزهم للماء/‏‏ الموت. نشرت منظمة أطباء بلا حدود تسجيلاً مصوراً لقارب مكتظ باللاجئين المتروكين وسط البحر. الإيحاءات متشابهة. وجوه شاحبة مكسوة بالموت. أذرع ملوحة للسماء حيث الطائرة التي تصور فم الماء وهو يبتلعهم ببطء كأنما الماء/‏‏ الموت ُ ينقذهم من اللامكان اللاتحدد. مشهد غريب يتقاطع مع مشهد آخر صغير جدا يقدمه توماس مان في « موت في البندقية» حينما يتأمل بطل القصة «آشنباخ» البحر من حوله دون وجود أي مؤشر على وجود جهة في الفراغ اللانهائي الذي مَدّه البحر أمامه وأفقده الإحساس بالزمان والمكان. لا أرض لهؤلاء الأطفال الأشرار المقذوف بهم في الماء. لا مكان ولازمان لهؤلاء الغرقى في عرض البحر. هي المادة الكافية لتأسيس ما وصفه دريدا بالحالات المبهمة التي يستعصي تحديدها. حالات غير منطوقة دون اختزال. أجسام مكتومة ترحل عبر الموت بملاحها المائي إلى الضفة التي تحلم أنها ستمنحها أرضا تستقر عليه. يصف العلم إحساس الإنسان بأطرافه المبتورة بـ«الأعضاء الوهمية». يفقد الجسد جزءاً منه دون أن يتفهم العقل هذا الغياب فيستمر في إرسال رسائل الحركة إليه. يفقد الأب والأم أطفالهما. ويستمران في انتظار عودتهم من المدرسة على عطفة الشارع. تقول الفتاة في مقطع نثري لووردوورث يستشهد به باشلار: «نحن سبعةٌ، خمسةٌ على قيد الحياة، والاثنان الباقيان لا يزالان في المقبرة. بإمكاننا أن نذهب نغزل قربهما، ومعهما». لتغدو المقبرة مسكناً والموتى سكانه الذين لا يغيبون. غير أن اللاجئ لا يمتلك قبراً. والأنقاض التي ترمس أجساداً كثيرة ليست مزاراً. الجسد هنا مقبرة متنقلة. والموتى مجرد أعضاء وهميين داخل جسد الأحياء. والعقل عاجزٌ تماماً عن إدراك غيابهم. اللاجئ دون مستوى قامته طرأت تغيرات شبه جذرية على وضعية الأجساد التي حصرتها الحرب في موقعين لا يمكنها أن تجد لها فكاكا منها. داخليا: عبر الأجساد التي تجرها الحرب إلى اشتراطاتها. وخارجيا من خلال الافتقاد الجذري لتقنية الجسد التي بنتها عبر طوابير انتظار اللاجئين تحت حراسة هراوات رجال الأمن التي تعصرن مشاهد العبودية في جدلية العلاقة بين السيد والعبد. والانكماش الذي يميز عوائل اللاجئين في مديريات الإقامة، حيث يربط الأب أطفاله بأطرافه لئلا يضرب الأفراد أمام عوائلهم، وحظر التجول في الأماكن التي يسكنه أهالي البلد. ونبرة الصوت التي تجعل اللاجئ منخفضاً دون مستوى قامته. والنظرة التي يمنع على اللاجئ أن يستخدمها. النظرة المباشرة التي تستبدل بالتحديق في الفراغ أو الأرضية. تقنيات الجسد اجتهد موس ليُلمْلم مجموعة منوعة من الحركات الجسدية والوضعيات المختلفة التي جمعها في حزمة مركبة تحت اسم التقنيات، منتبها إلى تعددية المصادر التي يعتمدها كل مجتمع ليبني جسدا مميزا لأفراده. خِتمٌ ملموس في الوضعية الجسدية التي أسستها سياقات متباينة، تمنح تفصيلاً هنا وآخر هناك لمعرفة الطبع الاجتماعي وجذوره التي تمنح المجتمع عبر الجسد تماسكاً مضاعفاً ومؤشراً مضاعفاً لتعرفه على نفسه. المشي والجلوس والرقص والانحناء.. إلخ، من التقنيات الجسدية التي تؤسس من حركية الجسد بنية دلالية. شرط للإنسانية الانفتاح على الآخر هو الشرط المسبق للإنسانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فالحوار الإنساني الحقيقي يختلف عن مجرد الحديث، بل و حتى عن النقاش، فهو يزخر تماماً باستمتاع بالشخص الآخر وبما يقوله. هانا آرندت إقصاء مبارك الإرهاب يتكفل بتأمين حجة هذه السلطات لجعل إقصاء الآخر مباركاً. زيغمونت باومان
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©