الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كازو إيشيغورو حَفّار الذاكرة العميقة

كازو إيشيغورو حَفّار الذاكرة العميقة
18 أكتوبر 2017 02:56
تبدو جائزة نوبل بمثابة تتويج لمسيرة أديب خرج فجأة عن التوقيع المحلّي أو القومي، وتحوّل إلى «كاتب عالمي». وهكذا وصف كازو إيشيغورو نفسه حين سئل عن رأيه في أدبه، ولكن سنة 2005، قبل سنوات طويلة من الجائزة الكبرى. إنّ الأدب العظيم يحمل إذن استعداده أو أهليّته للجائزة «العالمية» قبل وقت طويل من الحصول عليها. وأوّل ما يبدو لنا من هذا الكاتب العالمي هو كونه يشبه إدوارد سعيد عندنا في ازدواجيّة أصلية في هويته وفي تعدّد ذاكرته: إنّه بريطاني ولكن من أصل غير غربيّ أصلا. إنّ اسمه يبعث نبرة يابانيّة، ولكن في لسان انجليزي. هو الذي ولد في ناغازاكي في 1954 لكنّه صار من سكّان غلدفورد في جنوب لندن منذ 1960، وتحوّل بسرعة مثيرة إلى كاتب مشهور بلسانها. متفرّغٍ للكتابة منذ 1982، السنة التي تحصّل فيها على أوّل جائزة، وكانت حول أفضل تعبير عن معنى المكان عن روايته الأولى «منظر شاحب للتلال». أكثر الجوانب طرافة في أدب إيشيغورو هو أنّه يتميّز بسرديّة روائية تقوم في نواتها الخاصة على استراتيجيّة مثيرة في الجمع بين سياسات الذاكرة وسياسات الهوية: إنّ هويات الناس هي شيء يُبنى بناءً بوساطة أنواع معيّنة من تشغيل الذاكرة، ولكن في معنى «ضد- طوباوي» (dyspotique)، حيث أنّهم لا ينجحون غالبا إلاّ في السيطرة على جزء فقط من قدرتهم على الانتماء إلى أنفسهم العميقة. هذا النوع من السردية يخترق كلّ نصوصه، ويحوّلها إلى ما يشبه الورشة الواحدة، ولكن بشخصيات مختلفة في كل مرة. مثلاً: إنّ روايته «منظر شاحب للتلال» تتناول موضوعة الشعور بالذنب لدى الآباء، ولكن بوصفه ذنباً قاهراً متأتّياً من الصدام بين ذاكرتين وهويّتين، أي بين عالمين وجغرافيتين للروح. كما تتناول روايته «فنّان في عالم طليق» مسألة الانتماء إلى جيل النزعات القومية الكليانية. أمّا «بقايا اليوم» فهي سفر في الذاكرة حيث يختلط أرشيف الفرد مع تاريخ الدولة. أمّا روايته المثيرة «لا تتركني أذهب أبدا» فهي عودة إلى الماضي العميق، حيث لا يمكن تجاوز جروح الذاكرة لدى أطفال معزولين يتبّين في نهاية المطاف أنّهم مستنسخون أو «كلونات» لا شيء يميّزها عن البشر. لكنّ سياسات الذاكرة لا تؤدّي بالضرورة إلى بناء هوية مستقرة. ولذلك لا يبدو إيشيغورا م جرّد كاتب آسيوي ما-بعد- كولونيالي في بريطانيا يعاني هموم الهوية. فهو ما فتئ يؤكّد أنّه ليس يابانيا بالمعنى التاريخي. إنّ اليابان الذي يتعلق به هو يابان خيالي أو سردي هو يعمل على إعادة اختراعه في كل رواية. قال عن اليابانيين:« أنا لا أفهم ثقافتهم، ولا أتكلم نفس اللغة، ولا أعيش حياتي بنفس أسلوبهم. ليس هناك ما يربطني بهم سوى أصلي». اختراع الوطن ثمّة مفارقة عجيبة هنا يشير إليها إيشيغورا: كيف يمكن اقتسام نفس الذاكرة، ولكن بهوية مختلفة؟ وهو يفرط في رسم الفوارق الثقافية، لكنّه سرعان ما يحطّمها قائلاً: ليس هناك ما يربطني بهم سوى «أصلي»، ولكن بأيّ معنى يكون «الأصل» مجرد رابط خارجي يمكن استثناؤه في هوية ما؟ ربما كان هذا النوع من الكلام الرسمي مفيدا لأسباب تتعلق بالتأقلم الهووي في المجتمع البريطاني أو الغربي. قال أحد النقاد: «إيشيغورا هو بلا شك، كاتب انجليزي حقيقي، شخص متجذّر بشكل عميق في اللغة والثقافة الانجليزية». لكنّ التجذّر في «اللغة» الانجليزية لا يعني التجذّر في «الثقافة» الإنجليزية. وهذه هي المفارقة التي يشتغل عليها أدب إيشيغورا. قال:«عندما كنت طفلاً صغيراً (...) كنت أتوقع أن أعود إلى اليابان، لكنّ العائلة استمرت في تمديد فترة الإقامة. وعلى مدى كامل طفولتي لم أستطع نسيان اليابان، لأنّني كنت أهيّئ نفسي للعودة إليه». يقف الكاتب على أهبة للعودة إلى الوطن، لكنّه لا يعود إليه، بل يعيد اختراعه سرديا من خلال سفر معقّد في الذاكرة العميقة. لقد تحوّل الوطن من مكان جغرافي إلى مكان روائي، وعلى حدّ عبارته إلى «أرض للتأمّل والتخيّل والذاكرة». طبعا، هذا موقف عرفه أدباء آخرون، وأوّل مثال يخطر ببال إيشيغورا هو سلمان رشدي الذي كتب عن الهند كأرض روائية وكمكان للذاكرة العميقة، إلاّ أنّه يميز نفسه عنه من جهة أنّ نجاح سلمان رشدي في أوّل أعماله سرعان ما تناساه النقاد وانصرفوا للبحث عن «رشد» أو «رشديين» آخرين. أمّا هو فقد توالت نجاحاته الروائية منذ أوّل أعماله، وهو يفسّر هذا الاختلاف على هذا النحو: «وقع هذا الأمر لأنّني أحمل هذا الوجه الياباني، وهذا الاسم الياباني، وذلك ما كان ينبغي أن يغطيه الإعلام وقتئذ». هذا النوع من النجاح يحمل توقيعاً أخلاقياً إذن، لكنّه توقيع ينبغي اختراعه روائيّا. وهو ما فعله إيشيغورا في كل أعماله: إنّه يعيد اختراع اليابان ويحوّله إلى وجبة سردية انجليزية، دونما حاجة حقيقية إلى سرد قصة تاريخية. وهو يصرّ دوما على أنّ ما يكتبه هو سرديّة لها إشكاليتها الخاصة التي تتمثّل في الحفر في الذاكرة العميقة لشخصيات صار يتعسّر عليها أكثر فأكثر أن تتعرّف على هويتها من الداخل. قال إيشيغورو:«أحب الذاكرة، على مستويات عدّة. فعلى مستوى تقني بحت، أحبّها بوصفها منهجا لسرد قصّة- تمنحني حرية كاملة... ثمّ إنني أحبّ نسيج الذاكرة أيضا.أحبّ أن تكون المشاهد ضبابيّة بالضرورة في حوافّها، لأنّها مفتوحة على التلاعب بها، ومفتوحة على خداع النفس وإعادة التطريز. وهي غالبا ما تكون مشوبة بالحنين، وبنمط من المشاعر القويّة. أحبّ كلّ تلك الطيّات التي تأتي مع المشهد. ومن حيث الموضوعات، أنا كنت مهتمّا بالذاكرة بحدّ ذاتها». الحفر في الذاكرة علينا أن نرى الفرق الحاسم بين الذاكرة والتاريخ. إنّ الذاكرة هنا شخصيّة دائما، أمّا القصة التاريخية فهي تعبر الرواية دون أن تنتمي إليها. ولذلك يؤكّد النقاد على أنّ نصوص إيشيغورا هي سرد تحرّكه مسارات علاجيّة للقارئ كما للشخصيات. هي لا تهدف إلى استرداد الماضي كما وقع، بل متابعة كيف يكون من شأن الأفراد أن يؤوّلوا وأن يعيدوا بناء ماضيهم الخاص بوصفه ذاكرة عميقة لا تكون الهوية غير استعمال غير مستقرّ لها. في كل مرة يعمل إيشيغورا على تنشيط نوع من الذاكرة واستعمالها من أجل مراقبة هوية مهتزة لدى أشخاص يعيشون غالبا بين عالمين أو حتى بين منطقتين مغلقتين في بلد واحد. إنّ عمل الذاكرة عندئذ هو إنتاج متواصل لقدر من الاتساق بين وعيين مختلفين بالزمن: وعي بالماضي كما نودّ اختراعه ووعي بالحاضر كما يقع لنا. وهذا التراوح المؤلم والغامض بين طورين زمنيين في ذاكرة واحدة هو الذي يغذّي تردّدات الهوية ويحوّلها إلى ورشة سردية متحوّلة، تدور في الغالب حول استحالة عزل أيّ منطقة والتحكّم فيها. لا يمكن التغلّب على الماضي إلاّ سرديّا. وإنّ إعادة بناء الماضي سرديّا هو أساس كل هوية تريد أن تتصالح مع نفسها. وهو ما فتئ يشتغل في رواياته على هيكلة الماضي بوصفه جملة من المقاطع السردية يمكّن الناس من تجميع حياتهم في قالب أخلاقي واحد يطلقون عليه اسم الهوية. يبدو أدب إيشغورا بمثابة تمارين متواترة على تحويل الذاكرة الخاصة إلى نوع من الهوية السردية، على حدّ عبارة ريكور. ليست هويّة الناس حسب إيشيغورا غير طريقتهم في الشعور بنوع من «خيبة النفس» ومن «حماية النفس» في العلاقة بذكرياتهم العميقة. كلّ استراتيجية السرد عنده تحوم حول دفع الشخوص الروائية إلى الحديث عن أشياء هم يعجزون عن مواجهتهم في الحاضر، لكنّهم يجدون عزاءا سرديّا مريحا في الحفر عنها في الماضي. وذلك يقوده إلى محاولة استكشاف طريقة الناس في استعمال اللغة من أجل مخادعة النفس وحمايتها من نفسها في آن. إنّ الرواية عند ايشيغورا هي طريقة لمعرفة كيف يعمد الناس إلى السفر في ذاكرتهم الخاصة، كيف يتحاشون وكيف يأخذون الطريق داخل ذاكرتهم العميقة. وهم في الغالب يشعرون بإساءة الماضي إليهم، لأنّهم لا يجدون أي شيء مريح هاهنا. قال: «الذاكرة هي هذه التضاريس الغادرة بشكل رهيب، والالتباسات الحقيقية للذاكرة هي التي تغذّي خداع الناس لأنفسهم». وهكذا يكتنف أدبَ إيشيغورو خيطٌ إشكالي لكنّه متين بين الهيكلة السردية للذاكرة من أجل منح معنى ما للماضي، وبين طريقة الناس في بناء هوياتهم بوصفها مؤلفة من مقاطع سردية يجب عليهم أن يبذلوا جهودا جمّة من أجل تجميعها في حياة واحدة. ومع ذلك ثمّة رسالة أخلاقية صامتة سرعان ما يشعر بها قارئ نصوص إيشيغورو، ألا وهي أنّه لا يجب أن نيأس من ذاكرتنا، بل هو يجتهد من أجل أن يبيّن كيف أنّ الذاكرة بمقدورها دوما أن تُستعمل بوصفها وسيلة سردية لتحقيق كرامتنا ومن أجل الحفاظ على معنى مقبول لأنفسنا. قال:«أنا أهتم بالذاكرة، لأنّها بمثابة مصفاة عبرها يمكننا أن نرى حيواتنا، ولأنّها ضبابية ومبهمة، فإنّ كلّ المناسبات من أجل خيبات الأمل هي موجودة هناك». لا يملّ الناس من سرد قصص حياتهم وكأنّها شيء يمكن أن نؤرّخ له بشكل صلب. لكنّ روايات إيشيغورو تبيّن بشكل مثير أنّ الناس يسردون ماضيهم، ولكنّهم يفعلون ذلك دوما بوساطة ذاكرات هشّة مثقوبة. وهي هشّة، لأنّها تصطدم دوما بما يقوله التاريخ عنهم. هذا التوتّر هو خيط الرواية لديه: هو المصفاة التي تعبر من خلالها لعبة معقّدة ودقيقة بين سياسات الذاكرة التي لا تقول لنا ما جئنا نبحث عنه وسياسات الهوية التي لا تحتمل حاضرها إلاّ بقدر ما تبني عن معنى «ذاتها» خيبات أمل يمكن احتمالها. جروح الماضي هويات الناس هي شيء يُبنى بناءً بواسطة أنواع معيّنة من تشغيل الذاكرة، ولكن في معنى «ضد- طوباوي»، حيث إنّهم لا ينجحون غالبا إلاّ في السيطرة على جزء فقط من قدرتهم على الانتماء إلى أنفسهم العميقة. هذا النوع من السردية يخترق كلّ نصوصه ويحوّلها إلى ما يشبه الورشة الواحدة، ولكن بشخصيات مختلفة في كل مرة. مثلاً: إنّ روايته «منظر شاحب للتلال» تتناول موضوعة الشعور بالذنب لدى الآباء، ولكن بوصفه ذنباً قاهراً متأتّياً من الصدام بين ذاكرتين وهويّتين، أي بين عالمين وجغرافيتين للروح. كما تتناول روايته «فنّان في عالم طليق» مسألة الانتماء إلى جيل النزعات القومية الكليانية. أمّا «بقايا اليوم»، فهي سفر في الذاكرة حيث يختلط أرشيف الفرد مع تاريخ الدولة. وفي روايته «الذي لا عزاء له» يلاقي القارئ شخصية قلقة يتماهى فيها غرباء المدينة مع أشباحه الخاصة. وفي روايته «عندما كنا يتامى» هي رحلة بحث عن والد مفقود. أمّا روايته المثيرة «لا تتركني أذهب أبدا» فهي عودة إلى الماضي العميق حيث لا يمكن تجاوز جروح الذاكرة لدى أطفال معزولين يتبّين في نهاية المطاف أنّهم مستنسخون أو «كلونات» لا شيء يميّزها عن البشر. اقتسام الذاكرة بهوية مختلفة يؤكّد إيشيغورو أنّه ليس يابانياً بالمعنى التاريخي. إنّ اليابان الذي يتعلق به هو يابان خيالي أو سردي هو يعمل على إعادة اختراعه في كل رواية. قال عن اليابانيين:«أنا لا أفهم ثقافتهم، ولا أتكلم نفس اللغة، ولا أعيش حياتي بنفس أسلوبهم. ليس هناك ما يربطني بهم سوى أصلي، وأعيش هنا كما يعيش أي روائي إنجليزي». ثمّة مفارقة عجيبة هنا يشير إليها إيشيغورا: كيف يمكن اقتسام نفس الذاكرة، ولكن بهوية مختلفة؟ وهو يفرط في رسم الفوارق الثقافية لكنّه سرعان يما يحطّمها قائلا: ليس هناك ما يربطني بهم سوى «أصلي»، ولكن بأيّ معنى يكون «الأصل» مجرد رابط خارجي يمكن استثناؤه في هوية ما؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©