السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خورفكان.. سرُّها بين فكّين

خورفكان.. سرُّها بين فكّين
18 أكتوبر 2017 03:01
لم نفهم مجدداً سر هذا المكان، بل تلذذنا بالاكتشاف ذاته، الذي ابتدعناه بإرادتنا حين يعاد روتين صبحنا ومسائنا برغبة نتصنعها ونفرح بها، نستيقظ صباحاً ونتبع أغنية الصباح لنرقص على إيقاعها، المدينة التي تعددت وجوهها واختلفت لتكون الوجه الواحد لكل أهلها. كان علينا أن نعرف ذلك مسبقاً من ذاكرة الأشياء التي تطرأ علينا في الشوارع، والبيوت، وقاعات الانتظار، وأزقة الشوارع القديمة، شرق بذكريات عوائلنا ومقبرة أحبابنا، اليرموك وبيوت أجدادنا وجداتنا، شارع طويل ودَوّاران، إشارتان قبل الولوج إلى الكورنيش. لم نفهم مجدداً سر هذا المكان، وهي المدينة الصغيرة جداً، والكبيرة بقلوب أهلها التي وسعت الغريب والقريب، حين تتأملها عن قرب لا تجد فيها سوى الملمس الترابي الذي يجعلنا ننسى اللحظة ونلتقط الملامح التي سقطت مع الأيام ورحاها الذي يدور دون توقف، ومن البعيد تبكي الوقت الذي يضيع بين يديك عاجزاً عن فعل شيء، تلمح خوفك في الصور الملونة التي تملأ مواقع التواصل الاجتماعي لصغار المصورين وفي أحاديث سكانها الذين زهدوا الكلام لفرط الحب. بعد خطوات قليلة تجد نفسك هنا، وأمام كل بيت ووجه في المدينة. هي الصورة النمطية التي تسمعها بصوت أبنائها، وأغاني أحبابها، وقصيد شعرائها، وكلام الجميع، كلامهم العادي جداً والمكرر عند كل حل وترحال، جلسة ووقوف، بترنيمته الحقيقية، وإحساسه الدائم. ذاكرة التاريخ خورفكان برائحتها التي هبت من جميع الجهات، مسافاتها التي فاضت وتحولت إلى بحر هائج لا يهدأ، أنهار طويلة لا حد لها، ريح تغني الحكايات القديمة، الأسطول البرتغالي الغازي، الساحل الذي شهد صيحات رجال، وأصوات نساء، وصدى أطفال، الساحل المتدفق بالضوء والحياة. الحياة التي ظلت تركض بأهلها حتى اقترب الأسطول منها رويداً رويداً. الساحل الذي حمل السهام والحجارة، القوس والنشاب ودافع عن نفسه حتى آخر نفس وقطرة. الحكايات التي تحتاج بياضاً واسعاً حتى تستطيع سرد نفسها لتشفى ولن تشفى، لتهنأ ولن تهنأ. أصوات قصف المدافع التي لا زالت ترن محدثة ضجيجاً هنا وهناك. البوكيرك ومدافع الهاون، جيشه وهو يحطم ويقتل ويرشق ويتقدم ويعود. يتقدم مجدداً بالهاون والمدافع الثقيلة والقوية. يتقدم ليحرق وينهب ويقطع الأنوف والآذان بلا رحمة. بعدها بفترة طويلة.. سفر وغربة إلى الكويت طلباً للعلم والعمل، بحثاً عن الرزق، تاركين الولد والتلد والزوجة داخل المدينة، مطلقين أرجلهم، باحثين عن الشمعة التي تتأرجح في النفوس، الأجساد الممتدة على طول الساحل تركت جمال الحياة وراحتها، وانطلقت واستغرقت وتنهدت، وبكت مراراً وحيدة في غرف صغيرة هناك. في الكويت عاصروا العلم والتطور، شاهدوا المدارس والمستشفيات، انخرطوا في هذه الحياة، عملوا بجد حتى قيام الاتحاد في الإمارات، وبرقية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حتى يعود من يريد العودة إلى حضن الوطن. ذاكرة الاسم ها أنا أستعيد الأغنية والقصيدة، متلمسة البيوت الجميلة، الواسعة بصوت من يسكنها، الميناء الذي اكتظ بالروايات والأسماء، الذاكرة ورائحة النخيل والنعناع والبرتقال فيها. وفي الطرف الآخر رائحة السمك التي تقيم بكل فرد فينا، ولعلها القصيدة الأولى لكل ولادة. ولادة الاسم ومعناه، ولادة السفر الطويل للبعيد، للبحر الذي ملأ حقيبته بالمجهول فكانت البداية، بداية الوجود الذي لم نعرف له وجهاً، فتعدد وكان ذاكرة الأيام الندية. ذاكرة الجبلين الممتدين في البحر، والقرية التي امتطت التاريخ وتجاوزته لتبقى بشبابها وشعرها وشاعريتها، بلحظتها الريفية، ولحنها الذي تفتح بجمالها. هي التي ظلت متحصنة بأبنائها، وإن لكزها الغريب، وزارها الباحثون والمؤرخون. من استقبلت الجميع ببشاشة ووداعة. خورفكان الواقعة على خليج عمان، في الساحل الشرقي لدولة الإمارات، بجبالها المحيطة بها من ثلاث جهات، وزرقتها التي أخذت من الحلم طفلاً وزحفت به ولوحت وأشرعت وأشرقت. أفق مجازي يزهر، ونغادر المكان ولا يغادرنا، سره الذي بقي عصياً على الجميع حتى يومنا هذا، مسيطراً ببحته، تاركاً المجاز، متجاوزاً السياق إلى معنى السكون بالضجة. لكل زاوية فيها قصة، ولكل بيت اسم، ولكل واحد منا لحظة وتفاصيل تعود بنا كلما هممنا الرحيل وتجولنا في المطلق، وتحدثنا عنها أمام النفس والآخر، وكأنها تنتحب هذا الحديث ولا تريده. ونتمسك به رغماً عنها، أملاً بالصفاء والنقاء الذي نوده ونرجوه، رجاءً بالأغنيات التي يرددها الجميع بصوت واحد، وإن اختلفت الأصوات واللغات واللهجات والجنسيات والأديان. ذاكرة الرمل بالرمل نعود، لنجلس وندرك البدايات ومتوسط الصعود والتوقف، البدايات التي نعيد تكرارها في النص ألف مرة ولا نجد مفردة تغنينا عنها، بداية اللحن في كل أغنية، وبداية الصوت قبل الحديث، بداية ومستهل الديوان والقصيدة، بداية لحظة التعارف قبل أي علاقة حب، بداية الأهل والوطن، بداية الشمس التي تشرق في أعيننا وتغرب على شفتينا، بداية الناس وتكاثرهم، الأحاديث، الغيبة والنميمة، الحسد في العائلة الواحدة، والجار الذي ينهش جاره. بالسيرة نعود، بالعمر الأجمل، والقدر المكتوب ذات فجر، والكتابة التي راحت تخط كتابة أخرى رغم طولها، خورفكان التي أربكت النوافذ شبه المفتوحة، بأرضها التي تشكلت، وبهجتها الصادحة، وفرحها الدائم وحزنها الغائب، روعتها لكل ضيف عابر، وكل مارٍ مسافر، وكل راحل مهاجر. بها وحدها نعود، ساعاتها المتأخرة من الليل، ولفرطها تفقد نفسك وتنصهر في تكرارها الذي يعاودك بالصمت والمجاهرة، تكون أكثر شفافية من الماء، وأكثر حساسية من كل شيء. تقف على حدودها ظاناً أنك مغادرها فتسكنك ملياً ولا تنفك من تذكيرك بذلك. ذاكرة الطفولة لصغر سنك لا تعرف تلك الحكايات التي تراها في وجه أمك وأبيك وأخوالك وأعمامك، لا يقول الكبار الكثير وتطالب بالمزيد، تتلهف التفاصيل وتبتسم حين تسمع قصة أمك في السينما حين كانت تصلي في وسطها، حتى لا تفوت فرضاً وهي التي تنهيك الآن من دخول هذه القاعة، وجدك الملهوف بالبحر، وإحدى عينيه التي فقدها بلحظة خاطفة بسبب آلة حادة حين كان يختلس النظر داخل سفينة من السفن الراسية. والدك الذي عاش في الكويت ودرس فيها وعاد إلى المدينة الصغيرة بدراجة لم يعرفها من هم حوله فكسب نظرات إعجابهم. أطفالاً كنا وأطفالاً نعود في المدن، ضعافاً نقف أمامها لا نستطيع الهرب من قبضتها، تحكم صوتها ورائحها حتى لا تعيش بعيداً عنها، وإن اتخذت من حدود غيرها وطناً لك، أعادتك لها في حب وشوق مفاجئ. أعادتك بتجليها وعناقها المستمر لكل ما هو بعيد وتائه. أعادتك بروحها التي اخترقتك وسحقتك ولم تملك حيلة أخرى سوى العودة مجدداً والاتكاء عليها. لا نستطيع مغادرة هذه البدايات وإن حاولنا، فهي فينا ولنا وبنا تعود- اللحظة التي تتجول وتضيع في نصف إغماضه، بداية المدينة التي فتحنا أعيننا عليها ولم نُفْطَم منها بعد. نتساءل دائماً لو تعود طفولتنا مجدداً لنلهى فيها، ونلتصق بسمائها ونتمرغ فوق أرضها، نندفع بوسعها وكأن نبوءة العيد فيها تحققت عند كل دقيقة. هذه الضجة المبعوثة من كل شيء، اليوم العادي فيها وكأنه استثنائي، بصوتها المولود في أحبالنا منذ يومنا الأول عليها، حريتها المجبولة على عاتقنا، بلاغتها في صمتها الذي لزمنا، جناحيها الملتصقين بأجسادنا، أحلامها، مائها، واحتمال صرخاتها التي سكنتنا دهراً. ضجة الجمال التي انتشرت بقصائد أهلنا، وأحاديثهم العادية التي تحولت إلى أغاني لم نسمعها أبداً وسمعها الغريب بصمتنا وحزننا، وملامحنا المائلة للهدوء والسكينة، لونها الذي أحدث دوياً صامتاً لم نشعر به ولم نفقه. ذاتها الأغنيات التي كانت بمثابة هويتنا للآخر الذي لم يطالبنا التعريف، بل اكتفى بالنظر في أرجاء المكان وفينا، نحن الذين سكنا الساحل بهدوء واتخذنا من الحياة بحراً وعصفوراً وشجراً ونخلاً وأرضاً وكتاباً وشعراً وحباً وقارباً وصيداً وضوءاً شارف الخفوت، وفسحة وربيعاً وضحكة تعلو فتعلو، وعيون تشع اخضراراً وازرقاقاً، فرحاً وضحكاً. كانت ظلال الأشجار هي لحظتنا الأخيرة، فكتبنا ما حلمنا به كشمس ساطعة لا يستطيع أحد دحض نورها وشعاعها. أبصرنا السر ولم نبصره، كانت جدائل الصغيرات هي دليلنا، ورائحة الحناء برهاننا. لذا لم نصمت ولم يصمت العالم كذلك. ريح التاريخ العتيقة خورفكان برائحتها التي هبت من جميع الجهات، مسافاتها التي فاضت وتحولت إلى بحر هائج لا يهدأ، أنهار طويلة لا حد لها، ريح تغني الحكايات القديمة، الأسطول البرتغالي الغازي، الساحل الذي شهد صيحات رجال، وأصوات نساء، وصدى أطفال، الساحل المتدفق بالضوء والحياة. الحياة التي ظلت تركض بأهلها حتى اقترب الأسطول منها رويداً رويداً. الساحل الذي حمل السهام والحجارة، القوس والنشاب ودافع عن نفسه حتى آخر نفس وقطرة. الحكايات التي تحتاج بياضاً واسعاً حتى تستطيع سرد نفسها لتشفى ولن تشفى، لتهنأ ولن تهنأ. أصوات قصف المدافع التي ما زالت ترن محدثة ضجيجاً هنا وهناك. البوكيرك ومدافع الهاون، جيشه وهو يحطم ويقتل ويرشق ويتقدم ويعود. يتقدم مجدداً بالهاون والمدافع الثقيلة والقوية. يتقدم ليحرق وينهب ويقطع الأنوف والآذان بلا رحمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©