الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شمس الذكريات

10 يونيو 2006

لإشراقة الشمس معنى كبير لدى من هم خلف القضبان لذا يحرص أغلبهم على معايشة هذه اللحظات بتفاصيلها، لا أدري لماذا ؟ ولكن قد يرجع السبب الى أن الاشراقة تبث في نفوسهم الأمل وهي تعني انجلاء ليل طويل وتعلن ميلاد يوم جديد قد يكون أفضل من أمسه، ولكن صاحبي الذي أنا بصدد التحدث عنه له قصة أخرى مع الاشراقة فهي تحيي في نفسه الكثير من الذكريات وتثير فيه الشجون فهو مع كل إشراقة يسافر عبر الخيال معها إلى تلك الأزقة التي تعودت قدماه على مسالكها وتعرجاتها ويقوده الشوق إلى زاوية معينة في تلك الأزقة رغم مرور سنوات طويلة على اختفاء تلك المنطقة وأزقتها عن وجه الخريطة بسبب التطور العمراني وحلت مكانها المباني والأبراج الشاهقة، ولكن من يمنع النفس عندما ترغب في السفر عبر الماضي وإحلاله بدل الحاضر؟ فصاحبي كذلك يطلق العنان لنفسه بالتجول واثناء جولته يرجع لصباه وشبابه وتختفي معالم الشيب من وجهه وتحل الابتسامة على شفتيه ولو كانت هذه الابتسامة مؤقتة، يقول صاحبي: مع إشراقة الشمس في كل صباح أسمع صوتاً تطرب اذناي لسماعه إنه صوت تلك المرأة التي كانت تخرج من منزلها في الصباح الباكر وهي تحمل على رأسها 'قدرين' وتصرخ بأعلى صوتها تنادي على بضاعتها المكونة من فول وحمص وما نطلق عليهما باللهجة المحلية 'باجيلا ودنجو' وهذه التجارة هي مصدر رزقها الوحيد بالإضافة إلى بيت آخر تملكه غير الذي تسكنه مع ولدها الوحيد وتعتاش من إيجاره بعد أن رحل زوجها عن الدنيا واضطرت هذه المرأة والتي هي 'أمي' أن تمتهن هذه المهنة حتى تحسن من ظروفنا المعيشية، مضت الأيام على نفس وتيرتها، كانت والدتي خلالها تصحو وقت السحر وتقوم بتجهيز بضاعتها وعندما تنتهي منها توقظني وتقوم بتجهيزي لأجل الذهاب للمدرسة، وكنت أرافقها عبر تلك الأزقة حتى نصل إلى زاوية معينة تودعني عندها بابتسامة ولسانها يدعو لي بالخير والصلاح، حيث تجلس حتى انتهاء بضاعتها وترجع بعدها للمنزل لإنهاء واجباتها الأخرى·· لم يكن لديها سواي لذا كان الدلال الزائد سمة من سمات تربيتها لي، كم تمنت بينها وبين نفسها أن ترى اليوم الذي أصبح فيه رجلاً أتحمل مسؤولية نفسي وإياها، ولكن امنياتها تحطمت على صخرة الواقع المرير وأصبحت أحلامها سراباً، فالرجل الصالح والقوي الذي تمنت أن تراه أصبح فاسداً وضعيفاً ·· أصبح عبداً للمخدرات بعد أن أطاع نفسه الدنيئة 'كما يصفها' فكان جزاء الاحسان هو العقوق والاساءة والسب وفي بعض الأحيان الضرب، فكم من مرة تدخلت الشرطة والجيران بيننا، ولكن في كل مرة كانت الأمومة هي الغالبة رغم الوعود والعهود التي كانت تقطعها على نفسها أمام الجيران بأنها ستتبرأ مني للأبد ولكن وبعد أسبوع من حبسي أجدها أمامي في أوقات الزيارة بدموعها وكان السيناريو لا يختلف عن غيره في السابق·· مجرد وعود كاذبة مني لها بإصلاح نفسي ولكن ما أن أضع قدماي خارج هذه الأسوار حتى أعود لحالي وأسوأ منه، مضت الأيام وكان العمر يجري سواء بالنسبة لي أو لها وكان كلانا يزيد وهناً وضعفاً أنا من المخدرات والسموم التي اتعاطاها وهي بسبب السن والأمراض المصاحبة لها، في هذه الأثناء كانت ظروفي المادية صعبة فأرغمتها على بيع البيت والسكن في المنزل الآخر والذي كان إيجاره مصدر رزقنا الوحيد بعد أن تقاعدت من مهنتها الأساسية إجبارياً بسبب المرض، وخلال ثلاثة أشهر انفقت قيمة المنزل على شهواتي وعدت مفلساً ولم يبق أمامي غير المنزل الذي نسكن فيه وأرغمتها أيضاً على بيعه وهنا كانت القشة التي قصمت ظهر والدتي فدخلت في غيبوبة لم تفق منها حتى اليوم ولن تستفيق أبداً·· ماتت والدتي ودفنها الجيران وبعض الأقارب لأني كنت قد تركتها وهي في الغيبوبة وسافرت إلى حيث المخدرات والسعادة الوهمية·· ماتت في لحظة كنت فيها تحت تأثير المخدرات على بعد آلاف الأميال منها، وعندما رجعت وعلمت بالخبر لم أحزن كثيراً فالمخدرات كان همها أكبر من هم فقداني لوالدتي واليوم لم يبق لي غير إشراقة الشمس تذكرني بها بعد أن أفلت شمسي للأبد ولن تشرق أبداً·
محمد البلوشي
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©