السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما بعد الدَّهرنة.. أو السلطة المطلقة

ما بعد الدَّهرنة.. أو السلطة المطلقة
19 يناير 2012
في كتابه الموسوم بـ “المجتمع والدولة” يقارب الأب باسم الراعي، الذي وضع نصوصه في حقبات مختلفة، موضوع المجتمع والدولة والتحولات التي طرأت عليهما وأشكالهما في مرحلة تاريخية توصف بزمن ما بعد الدهرنة. ويقصد المؤلف هنا نوعاً من قراءة تحليلية لصيرورة المجتمع والدولة في تجلياتها في النقاش المعاصر، بعد مسيرة تاريخية طبعتها فلسفة الأنوار بطابع العقل الطبيعي والعقل الوسائلي، الذي يستمد مقدماته من التجربة الحسيّة العينية ومسار الأحداث التاريخية، بمعرفة مسبّباتها الطبيعية بعيداً عن أي تفسير ميتافيزيقي أو “ما قبلي” لها. قطيعة مع التراث ويقول بأن النتيجة الحتمية لهذا المسار التاريخي كانت حصر مصادر المعرفة البشرية بنتائج العلم، حتى إنه بات كل مصدر يخالف النظرية المعرفية ولا يخضع للعقل مشككاً به مرفوضاً جملة وتفصيلاً من دون البحث في شأنه. هذا الواقع أحدث قطيعة معرفية كاملة مع المصادر الموروثة. ومن نتائج هذه القطيعة، في المجتمعات الأوروبية، ظهور حركة الدهرنة (séc larisation). وهو يفضّل استعمال هذا المصطلح على سواه من مثل العلمنة أو “الدنيَوة”، لأنه أقرب إلى حركة العقل العلمي التاريخي ونتائجه. ذلك أن المجتمعات خرجت عن مسيرتها التاريخية التي قرنت النظرات للوجود، ومن بينها الدين، بهويتها المجتمعية وبأطرها السياسية. وظهر هذا التحول على الصعيد السياسي من خلال قيام الدساتير التي اعتمدت الدَّهرنة خياراً أساسياً بهدف إرساء حكم حيادي تجاه مكوّنات المجتمع، وذلك باعتماد التسامح كركن أساسي من أركان الدولة. فأدّى هذا التطور إلى تهميش النظرات إلى الوجود عن دائرة الحياة العامة وترحيلها إلى دائرة الحياة الخاصة. بهذا أصبح المجتمع والدولة سيدين مطلقين على ذاتهما. سقوط فكرة المرجعية أدت نتائج التطور العلمي التي ظهرت فظائعها في الحربين العالميتين إلى نوع من حركة انقلاب على المعرفة بلغت مبلغها في اللاأدرية وسقوط فكرة المرجعية وحتى مفهوم السلطة أصابه ما أصابه من جرّاء ذلك، إذ بلغت النسبية مضرباً أصاب النظرية المعرفية في الصميم. ورغم هذا الشك فُتحت الطريق إلى إعادة السؤال عن المعنى، معنى كل ما يقوم به البشر. وكل ذلك لا ينفصل عن قضية السلطة التي تتصل اتصالاً راسخاً بتطور العلوم، فثورة 1969 كانت نعياً للمعرفة والسلطة على السواء. وهذا ليس بغريب ما دام الشعار الذي تبنته فلسفة الأنوار كان “تقدم المعرفة هو تقدم في السلطة” ، بمعنى سيطرة الإنسان على الكون. يضاف إلى هذه العوامل عناصر أخرى ترافقت مع الانتقال الجغرافي للبشر من مكان إلى آخر أو من بلد إلى آخر، عبر هجرات دائمة أو مؤقتة، أدّت إلى تداخل حضاري حمل معه أيضاً أسئلة جديدة في موضوع التعايش المجتمعي وتأمين العدالة والحقوق الخ. فكان أن ولدت توجهات جديدة على الصعيد السياسي منها طرح قضية الهوية الوطنية في الدولة والانتماء والاندماج الخ. هذا التبدّل في بنية المجتمعات حمل معه قضية مفهوم الدولة، فلم تعد الدولة – الأمة من السهل تحديدها كما عرفها التاريخ الحديث، إذ وجدت نفسها أمام تحديات وتعقيدات لم تعرفها من قبل. وزاد على هذه التحديات دولنة وعولمة الاقتصاد والثقافة الخ. فلم تعد المجتمعات والدول بمقدورها البقاء على ما كانت عليه، إذ أجبرت على الانفتاح والتفاعل. وكانت النتيجة أنها أجبرت على إعادة النظر بالكثير من المسائل أبرزها السؤال عن التعامل مع الأشكال الجديدة للمجتمعات والمهام المطلوبة من الدولة لتستطيع أن تتأقلم مع الواقع الجديد. هذا معناه أن المجتمع والدولة صارا مجبرين على إعادة تقويم لمسارهما التاريخي وإعادة النظر بأساليب التعاطي مع الواقع المجتمعي المستجد. فلا يمكن مثلاً البقاء على شكل موروث من حيادية الدولة، لأن التعدّد الثقافي يجبر على التفكير بنوع جديد من الحياد. والعمل السياسي في الدولة لم يعد يقف على حدود التصور التقليدي للسلطة والآليات التقليدية في عملية وضع السياسات وتقريرها. وفي إثر الأهوال التي نتجت عن الدمج الكامل بين السلطة والسياسة، ولم يعد مسموحاً، اعتبار السلطة والسياسة متلازمتين بشكل متكامل. هذه القضايا جميعها طرحت مسألة تطوير الحكم السياسي في ضوء توسيع النظرية الديمقراطية وتطويرها. علامات التحول الديموقراطي يشير المؤلف ايضاً إلى أولى علامات التحوّل الديمقراطية وتشعّب اتجاهاتها بسبب تمييز السياسة من السلطة. فكانت النتيجة صعود العقل التواصلي الذي حمل معه مقاربة جديدة للشأن السياسي تقوم على أن قضايا المجتمع لا تختصرها السلطة السياسية، بل هناك تضافر بين السلطة السياسية، بكونها ضرورة وظيفية في الدولة، والمجتمع باعتباره مبدأ السلطة ومصدر مشروعيتها. إذاً لا سلطة تفوق المجتمع بشكل استبدادي وإن كانت تعلو على المجتمع بمعنى أنها قوة ناظمة لما تعاقد عليه المجتمع وتعارف عليه. هذا التطور يعكس تبدلاً في مفهوم العلاقة بين الدولة ومكوناتها، إذ لم تعد الدولة “كلاًّ” منعزلاً عن المجتمع أو صانعة له من فوق وتعمل بطريقة حيادية ضاربة عرض الحائط ما يكوّنها، أي التعدّد الموجود فيها، بغضّ النظر كيف نعرّف هذا التعدّد وممّا يتألف. فالدولة صارت، مع تقدم الديمقراطية والتواصل، مجبرة على إيجاد مكان للتعدّد صوتاً وفعلاً في قلب السياسات التي تنتهجها. وهناك حديث اليوم يتجاوز حتى هذه المرحلة إلى الكلام على دولة ما بعد الدهرنة، وهي دولة لا يكون حيادها طلاقاً مع مكوناتها بل تكون مسؤولة عن عملية دمج المكوّنات على أساس تعزيزها في قلب المعادلة السياسية، وذلك على قاعدة أن الدولة لا يمكنها أن تقصي أي عقل موجود في المجتمع التي هي مسؤولة عنه وتجاهه. الدين والسياسة يعرض الباحث إحدى أهمّ المكوّنات في المجتمع وهو الدين الذي أضحى من العناصر البارزة في الحراك العالمي، وفي كثير من الأحيان مصدراً للكثير من الأحداث الإيجابية منها والسلبية، فكان لا بد من مقاربة للعلاقة بين الدين والسياسة والدين والدولة وتطور النقاش في موضوع الدولة الدهرانية في تعاطيها مع الدين خصوصاً، ولكن أيضاً مع الثقافة وغيرها من مصادر المعرفة. كثيرون اهتموا بالعلاقة الممكنة التي تجمع بين الدين والسياسة والدين والدولة كاشفين بذلك عن أزمة يمر فيها حياد الدولة. وهذا ما حضّنا على استجلاء هذه الإشكالية من منظارين مختلفين واحد يمثّله يورغن هابرماس والآخر شارلز تيلور. لعلّ هذا النقاش الذي يسار على الصعيد العالمي والذي أراد فيه المؤلف أن يلفت النظر إليه في هذه النصوص يساعد العلم العربي في استجلاء حقيقة الأزمة التي يمر بها في تراجع مقلق في مفهوم الدولة وبالعودة في بعض دوله إلى مرحلة ما قبل الدولة، إلى حال من الجاهلية السياسية. إنّ حصيلة ما عالجته هذه المحاولات تظهر خطاً واضحاً لمسار جديد ترتسم معالمه في الفكر السياسي في العالم اليوم، وهو نتيجة تراكم تجارب مختلفة عبر التاريخ منذ انطلاق الدولة الحديثة وما عرفته من تطوّر في صيرورتها التاريخية وما مرّت به من أزمات. والبارز في هذه المرحلة من تاريخ الدولة أنّها تختبر واقعاً جديداً لم تعرفه من قبل. فمجتمع الدولة بات اليوم مجتمعاً معقّداً إذ تختلط فيه عوامل مختلفة منها السياسية ومنها البشرية ومنها الثقافية. وهذا التعقيد يجبر الدولة على تغيير لا طريقة عملها وحسب، بل إعادة النظر بتركيبها وحتى في صلاحياتها. فلم تعد الدولة – الأمّة هي نفسها تلك التي نشأت مع هبوب القوميات، إذ مع العولمة بات من الصعب التكلّم على قومية بالمعنى الخالص للكلمة وأيضاً عن إمساك كامل للدولة بمفاصل المجتمع. وهذا يعني أنّ الدولة صارت مجبرة على إعادة النظر ليس بطريقة عملها فقط، إنّما أيضاً بمقدمات تكوينها وباختصار بالعقل الذي يحرّكها في بعديه النظري والعملي. وهذا يفرض على الدولة نمطاً تواصلياً، لأنه بات من الصعب أن تقوم بوظائفها أو تفكّر في قضايا المجتمع بشكل منعزل أحادي. لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال ازدواجية سلطة في قلب الدولة. فالدولة تبقى هي المؤسسة الشرعية الأولى في مسؤوليتها عن المجتمع، لأنها نتيجة عقد اجتماعي جعل منها المؤسسة الوحيدة التي يمكنها أن تمارس سلطة مباشرة على المجتمع من خلال المشروعية الدستورية والقانونية. لكنّ من المؤكّد أن احتكارها للسلطة لا يعني احتكارها لكل القضايا التي تعني المجتمع أو أنّها بمقدورها أن تتعامل مع المجتمع بشكل سلطوي أو توجيهي بالمطلق. حتى على صعيد التربية لم تعد الدولة القطب الوحيد الذي يحدّد السياسات التربوية، لأن واقع المجتمع المتغيّر باستمرار يفرض نوعاً من التواصل التربوي بين الدولة ومرافق أخرى في المجتمع. التعدّد والتواصل من هنا فإن ثابتتين تحكمان اليوم المشهد السياسي في العالم: التعدّد والتواصل. ولهاتين الثابتتين تأثيرهما على العقل الذي يحكم الدولة. فالدولة لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن منطق التعدّد وتقبل به وتتعامل معه لا بخلق وحدة صاهرة أو أحادية بل من خلال تطوير وحدة وظائفية تجعل من التعدّد قوة حاضرة وفاعلة ومبدعة. وهذا يحتاج إلى تطوير قدرات التواصل بينها وبين المجتمع. فالعقل التواصلي هو اليوم العقل الذي يمسك بزمام الحركة في العالم فكم بالحري الدولة التي هي مجال التواصل بامتياز أن تأخذ منه مبدأً أساسياً في ممارسة سلطتها على المجتمع. وفي يقيني أن ما تشهده الدولة اليوم لهو دليل حاسم على أن الدولة ليست هيكليات حكم جامدة، بل هي أقرب إلى جسم عضوي يتطور بتطور المجتمع. لذلك هي حقيقة قيد الإنجاز باستمرار في قلب صيرورة تاريخية يتحكّم العقل فيها إلى جانب حركة التاريخ. فالدولة تعيش بين حدّي الواقع والمستقبل. فهي بهذا المعنى مجال تجلّي حريّة الإنسان وفعله في التاريخ. سلطة بلا حدود أدت نتائج التطور العلمي التي ظهرت فظائعها في الحربين العالميتين إلى نوع من حركة انقلاب على المعرفة بلغت مبلغها في اللاأدرية وسقوط فكرة المرجعية وحتى مفهوم السلطة أصابه ما أصابه إذ بلغت النسبية مضرباً أصاب النظرية المعرفية في الصميم ورغم هذا الشك فُتحت الطريق إلى إعادة السؤال عن المعنى، معنى كل ما يقوم به البشر. وكل ذلك لا ينفصل عن قضية السلطة التي تتصل اتصالاً راسخاً بتطور العلوم الكتاب: المجتمع والدولة المؤلف: الأب باسم الراعي الناشر: دار الفارابي، بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©