الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يقظة العرب المتأخرة

يقظة العرب المتأخرة
19 يناير 2012
باتت بعض المصطلحات والمفردات ذات سمعة سيئة لدى كثيرين منا، مثل العلمانية، وقبل وما بعد الحداثة، وفيما يخص ما بعد الحداثة صارت تعني عند الكثيرين كل ما هو غريب ومغاير لما اتفقنا عليه وأكاد أقول إنها تعني عند بعضنا كل ما هو شاذ، في المظهر وفي القيم وفي السلوك العام والخاص، فضلا عن الجوانب الثقافية والفكرية والأدبية. فإذا كتب شاب كلمات غير مفهومة وربما غير صحيحة، قيل بثقة انه ينتمي إلى ما بعد الحداثة، وإذا دعا أحد إلى هدم كل ما تعارفنا عليه أدبياً وثقافياً، تم تبرير ذلك بأنها ما بعد الحداثة. ويتساءل بعضنا ببراءة: هل دخلنا ودخلت مجتمعاتنا العربية ميدان الحداثة حتى نقفز إلى ما بعد الحداثة؟! وفي ظل هذا كله فإن قلة يمكنهم معرفة ماذا تعني ما بعد الحداثة، بالضبط وما دلالاتها، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي صدر مؤخراً بعنوان “دليل ما بعد الحداثة” وهو أقرب إلى مؤشر قاموسي للقارئ وللباحث، كي ندرك أين نقف في عالمنا وثقافتنا العربية والى أين تقودنا خطانا. الدليل أو القاموس الذي بين أيدينا، ليس دليلا محايدا يضم المعلومات والأفكار فقط، لكنه دليل نقدي - إن صحت التسمية - حيث يقدم الكثير من الملاحظات النقدية التي انطلقت حول “ما بعد الحداثة” وهذا الدليل في مجلدين، صدرت الترجمة العربية للأولى فقط، وتضم 14 مقالة ودراسة حول ما بعد الحداثة في مختلف المجالات والميادين المعرفية والثقافية، أما المجلد الثاني فهو قيد النشر، ويضم رموزا وشخصيات ما بعد الحداثة، سواء من الذين مهدوا لها مثل الفيلسوف الألماني “نيتشه” رغم انه لا ينتمي إلى عصر أو حقبة ما بعد الحداثة. صلاحية منتهية الحداثة في اللغة تعني الوقت الحاضر ومن ثم فلا يصح وفقا لذلك أن تكون هناك مرحلة نعيشها اسمها “ما بعد الحداثة” لكن الحداثة المقصودة تعني القرون الأخيرة في الثقافة الغربية، أو منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر وحتى بعد منتصف القرن العشرين، ويرى كثيرون أن نهاية الحداثة وظهور ما بعد الحداثة ارتبط بمظاهرات الشك والتساؤل حول كثير من قيم التنوير الحديثة، إذ تحولت هذه القيم وما تنطوي عليه من أفكار وثقافة إلى قيد حديدي بحكم تطلعات الأجيال الجديدة، لقد أدى مشروع التنوير وعصره دورا مهما للثقافة وللمجتمعات الغربية في وقته، لكنه الآن لم يعد صالحا لتلك المجتمعات، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في كتابه الصادر عام 1979 “أصول ما بعد الحداثة” ورفع ليوتار في كتابه مقولة انه يجب رفض “السرديات الكبرى” للثقافة الغربية لأنها فقدت - الآن - مصداقيتها وجدواها، وقصد بالسرديات الكبرى النظريات الكونية والمعرفية الشاملة، وترتب على ذلك القول انه لم يعد هناك مبرر - مثلا - للانخراط في مناقشات مع الماركسيين حول الماركسية وأن الأفضل تجاهلها تماما بوصفها لم تعد ملائمة لحياة ذلك الجيل ولا تعبر عن العصر الذي نحياه، كان ذلك قبل سقوط الاتحاد السوفييتي بعقود وقبل انهيار حائط برلين. لم يكن المقصود بذلك الماركسية فقط، بل امتد الأمر إلى النظريات الفلسفية والسياسية التي تشكل سلطة على العقل والوجدان مثل “البنيوية” وظهر من يومها ما يعرف باسم “ما بعد البنيوية”. وجد ليوتار أن السرديات الكبرى في الغرب لم تحقق ما وعدت به، بل إنها أنتجت عكس ما وعدت به في حالات عديدة، وعدت الماركسية بالحرية والعدالة لكنها أدت الى سحق المواطنين بالدبابات في بودابست عام 1956، ويواصل أنصار ما بعد الحداثة الخيط على امتداده فيتوقفون عند سحق الدبابات للطلاب في الصين عام 1889 وتقدم الصناعات العسكرية في الولايات المتحدة لتؤدي الى سحق مئات الآلاف في العراق، بل واحتلال العراق لمطامع نفطية وأهداف سياسية، بغض النظر عن الثمن الإنساني الذي ترتب على هذا الاحتلال. وتتبدى ما بعد الحداثة أكثر في مجال النسائيات رغم ان الحركة النسائية نتاج مباشر عبر طرح فكرة المساواة بين الرجل والمرأة ومنح المرأة الكثير من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مثل فرص العمل وحق التملك والدور السياسي، لكن دعاة الحركة النسائية أصروا منذ مايو عام 1968 على وضع حركتهم في مجال ما بعد الحداثة، وقد جلب لهم ذلك الكثير من الحقوق وحقق لهم بعض ما كانوا يطالبون به مثل قانون حق الإجهاض وغير ذلك. دخلت ما بعد الحداثة في الكثير من المجالات مثل فن البناء والمعمار فضلا عن الفنون الأخرى، سواء البصرية منها والسمعية، ووصلت إلى الاقتصاد والقوانين والنقد الثقافي وغيرها. الشك والتفكيك إلى اليوم لم يتم وضع تعريف دقيق أو جامع لما بعد الحداثة، وما هو متاح عنها حتى الآن انها تقوم على المخالفة، أي مخالفة ما هو سائد وشائع، وتقوم أيضا على “الشك” في النظريات أو السرديات الكبرى في التاريخ الغربي، لكن ذلك يصطدم بالحداثة التي قامت على مذهب “الشك” كما صاغه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت ومدرسة الشك من بعده، ومفهوم المخالفة هو ايضا مفهوم قديم ولم يكن جديدا. وما بعد الحداثة تقوم على التفكيك كما قدمه دريدا ومدرسة التفكيك لم تقتصر على الجانب السلبي فقط، اي الهدم والتفكيك فقط، لكنها تقوم كذلك على البناء، وسيادة الروح الراديكالية في السياسة والثقافة والاجتماع بهدف تحقيق مزيد من الحقوق والحريات للإنسان، فضلا عن المهمشين في المجتمع مثل الفقراء والملونين والنساء اللائي شكون من سيادة النزعة الذكورية في التراث والقوانين السائدة. ومن يقرأ هذا الكتاب يشعر بقدر من الأسى على أحوالنا الثقافية ومدى متابعتنا لما يجري في الخارج، اقصد بلاد الغرب، لقد ظلت المعارك ضارية بين نقادنا وكتابنا حتى عدة أعوام ماضية حول البنيوية ومدى ما تقدم لنا ثقافياً، في حين أن البنيوية انتهت أو دخلت في ذمة التاريخ منذ نهاية الستينيات في بلادها، أي أوروبا، أما كتاب ليوتار فقد ترجم إلى العربية عام 1994 أي بعد 15 عاما من صدوره. الى هذه الدرجة ننتبه متأخرين وما يدعو إلى الأسى أكثر، أن الذين انقسموا عندنا حول “ما بعد الحداثة” كانت مواقف كثيرين منهم “سماعية” أي دون معلومات مدققة حول ما بعد الحداثة وأفكارها، ترصد ما لها وما عليها. وهناك في ما بعد الحداثة ما هو إيجابي مثل انهيار السيادة المطلقة والحديدية لبعض النظريات والأيديولوجيات وما يترتب عليها من سلطات سياسية مجتمعية.. مثل الماركسية وسيطرة المصالح الاقتصادية والمالية حتى لو أدى ذلك إلى إبادة شعوب وجماعات بشرية مثل الهنود الحمر. التساؤل الذي يستحق أن نفكر فيه هو أن المجتمعات الغربية تعيش حالة “ما بعد الحداثة” بينما مجتمعاتنا تسعى في حالات كثيرة نحو ما قبل الحداثة، أي العودة إلى السلف والى مراحل تاريخية، مضت وانقضت إيجابا أو سلبا. اسم الكتاب: دليل ما بعد الحداثة “الجزء الأول تحرير: ستيوارت سيم ترجمة: وجيه سمعان عبد المسيح الناشر: المركز القومي المصري للترجمة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©