الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوميات امرأة من زمن الثورة

يوميات امرأة من زمن الثورة
19 يناير 2012
هذا الكتاب”امرأة في زمن الثورة” هو - حسب قراءة الناقد الأدبي التونسي عبد الدائم السلامي- شهادة عن الثورة التونسيّة من خلال امرأة عادية تمثّل واحدة من الملايين التي عاشت الثورة بمختلف إرهاصاتها وسعت إلى أن تنقل ما عاشته من غضب وصدمة وحيرة وارتباك وفرحة وقلق وإحباط وأمل ويأس... وهذا ما يضفي طرافة وخصوصيّة على هذه الشهادة التي تنأى بنفسها عن التحليل الأكاديمي لتنقل نبض المجتمع وتشظي امرأة من الشعب. تقول المؤلفة في شهادتها: “كان الوضع السياسي قد عوّد نفسه ـ منذ أن تشكّل ـ على أن يختزل الحياة السياسيّة في لونه، لذلك أصبحت الحياة في بلادي أشبه بآلة موسيقيّة صدئة لا تصدر سوى صوت واحد مبحوح، وكنت أتألّم... أشعر أنّ الحلّ الوحيد في الهروب من هذا المنفى الّذي اسمه الوطن. ذهبت إلى بعض السفارات الغربيّة أسأل كيف أسرّب عصافير روحي لتحلّق في سماء الورقة بحريّة... ولم يكن يشدّني غير خوف لا أفهمه من مغامرة لا أملك أسرار نجاحها. لم يكن تفكيري في الهروب له دوافع اجتماعيّة أو ماديّة فانا أحظى بمكانة محترمة في المجتمع. أدرّس في أحد المعاهد. موفّقة في عائلة صغيرة وزوج يبدو لطيفا، ولي أطفال في منتهى النشاط والصحّة والتألّق الدراسي، ولي راتبي وبعض الموارد الماديّة الّتي تضمن لي استقرارا ماديّا مرضيا في مجمله... ولكنها الرّغبة في الانعتاق من غصّة تمنعني من التّفكير بحريّة، من الكتابة بحريّة، من العيش بحريّة”. ويجزم الناقد عبد الدائم السلامي أن هذا الكتاب ينتزعك من سكينتك بقوّة ويحشرك في خضم ثورة 14 يناير حشراً تكاد تسمع فيه هتافك وأنت بين جماهير المطالبين بإسقاط النظام في المدن والقرى التّونسيّة، أو ترى فيه جسدك ينحرف قليلا حتّى تمرّ رصاصة قنّاص تراه يرقص من لذّة القتل. وإذ يفعل الكتاب ذلك، ينجح في أن يصيبك بعدوى القلق على مصير الثورة والخوف من الالتفاف عليها. والمؤلفة فاطمة بن محمود هي أستاذة تعليم ثانوي وعضو اتّحاد الكتّاب التونسيين وقد أعيد انتخابها في المؤتمر الأخير للاتحاد الذي انعقد بمدينة “المهدية” يومي 27 و28 ديسمبر، وهي تكتب القصيد النثري والقصّة القصيرة والمقاربات النقديّة، وقد اختارها المجمع التونسي للآداب والعلوم والفنون (بيت الحكمة) من أبرز الشخصيات التونسيّة والأدبيّة في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أصدرت على نفقتها الخاصّة ثلاث مجموعات شعريّة هي: “رغبة أخرى لا تعنيني” و “ما لم يقله القصيد” و “الوردة الّتي لا... أسميّها”. بياض الورقة جاءت شهادة المؤلفة مزيجا من التأمل والوصف والتحليل، تقول: “الآن اجلس وحدي على صخرة... يبدو البحر أمامي فسيحا وهادئا ... أنظر إلى زرقته وأتلذّذ جمال لونه وينعكس في أعماقي سكينة... منذ أن تزعزع كياني بنفسي لا أتماسك إلاّ أمام البحر... منذ أن اعتدت ضيق عوالمي في الحياة لا أنفتح إلاّ أمام البحر... البحر صديقي الّذي أحبّ. منذ صغري عشقت البحر... وأعشق النظر إليه... ولا أجد تفسيرا لذلك سوى أنّها علاقة حبّ خاصّة؛ فأنا لا أحبّ السباحة وخصوصيّة علاقتي بالبحر ربما في عدم الوصال... في شوق لا ينطفئ، كأنّ ذلك قدري حتّى لا أحقّق إشباعي وأظلّ دائما في حالة تعلّق به... في حالة لهفة إليه. كنت أجد رحابة الفضاء أمامي تعويضا على حالة انحسار الأفق بداخلي... أغمس قلمي في الحبر ويضيق بياض الورقة... أسند رأسي قليلا إلى فكرة جريئة وأشعر بعيني مخبر يترصّد أفكاري ويستعدّ لينقضّ على حلم بين أصابعي... لم أكن قادرة على الكتابة... بطبعها تتمنّع القصيدة بشدّة داخلي ويحدث أن أكتب مسودّات لقصيدة ما أن تطلّ برأسها حتّى تنكمش داخلي وترفض الخروج... وأتألّم... تألّمت كثيرا لقصائد لم تخرج واحتجت أن أهدي أخرى إلى غيري حتّى أستطيع أن أحرسها وهي تتجوّل بحذر شديد على أطراف الورقة”. وبعد مطالعة شهادة فاطمة بن محمود قال الروائي الأردني يحيى القيسي: “أحسست أنّي أقرا رواية لا سيرة، وهذا يعني جمال اللغة ورشاقة الأسلوب، والقدرة على السرد الشهيّ الطازج لأحداث ساخنة ومؤثّرة، والقدرة على اقتناص كل اللحظات الحاسمة التاريخية التي مرّت خلال الثورة المباركة”. رحلة مع الاكتئاب تواصل المؤلفة سرد انطباعاتها وهواجسها ووصف حالتها النفسية والجسدية قبل قيام الثورة، تقول: “أرسل بصري بعيدا وتصدمني محدوديّة الفضاء... ويعذّبني غياب الحريّة. لا يحتاج الكاتب إلى رغيف خبز... فقط يحتاج أن يطلق عصافير صدره بحريّة... كانت الرّغبة في الهجرة لا يحبطها سوى أطفالي الثلاثة وأنا أخاف أن أرمي بهم إلى المجهول وليس لهم من مسؤوليّة سوى قلق يستبدّ بأمّ تطوق إلى حريّة عصافيرها الّتي تزدحم داخل محبرتها... وفي صدرها. ما زلت أجلس على صخرة... وتؤلمني نتوءاتها، أقف أتحسّسها بكفّي، أختار مساحة أخرى منها يمكن أن تسعني بشكل أفضل. أمام ضغوطات الحياة ومتطلبات الواقع، وفواتير العيش المكلفة وانحسار الأفق... لم أقدر على التأقلم مع الحياة... فكنت أضيق بها. وتدريجيّا بدأت تعتريني مظاهر الاكتئاب وأنكرها... بقدر ما يشتدّ ضيق الحياة وتختنق عصافير صدري بقدر ما يسري فيّ الاكتئاب حثيثا... ويتسرّب في قاع روحي. بدا جسدي يخور وقواي تتلاشى وروحي تيبس وأنا أكابر. حتّى كنت مرّة عند طبيبة عامّة في عيادتها عندما هتفت بي أنت تعانين اكتئاباً شديدا... لم تمد لي وصفة دواء، وإنّما رسالة طبيّة إلى مصحّة الأمراض النّفسيّة بمستشفى الرّازي. وبدأت رحلتي...مع الاكتئاب”. ووجد الشاعر العراقي حكمت الحاج أن شهادة فاطمة بن محمود شهادة كلّها حياة وصدق وحبّ للقيم العليا والوطن بأسلوب أخّاذ وشاعري. في نشره خدمة للحقيقة والتاريخ وإيفاء للقارئ حقه”. بلاد موحشة تتماهى المؤلفة مع وضع البلاد فإذا هي كما تقول مستسلمة و كانت أيامها تمر حزينة وهي، كما تصف نفسها، جثّة منهكة ملقاة بإهمال على فراشها، تقول: “... رأسي أحسّه يتدحرج في سرداب عميق... روحي المنهوبة تترنّح في داخلي. كنت أتفرّج على حياتي فأجدها باهتة، رتيبة، مملّة... وأكرهها. وانظر إلى أطفالي فأشعر بأنّهم أغصان منكسرة... ولا علاقة تشدني إليهم. كنت في المرات الّتي تخفّ عنّي فيها وطأة الأدوية المنوّمة أجد متعتي الوحيدة في الجلوس خارج البيت في مقهى أو على صخرة شاطئ... أنظر... إلى الفراغ أو ألقي بنفسي خلف مقود سيّارتي وأظلّ أنهب الأرض دون هدف أسير دون أن أصل، وكانت البلاد مثلي موحشة، باهتة، منهوبة، تخضع تونس إلى نظام بوليسيّ يقبض على روحها بيد من حديد وتحيط به حاشية من العصابات الّتي تنهب البلاد وتعيث فيها فسادا وتوزّع الظلم... فانتشرت قيم الرداءة في مختلف تجلياتها وعمّ البلاد الفراغ. كانت البلاد تبدو مثلي مستسلمة لقدرها حزينة لمآلها، منهزمة في أفراحها... كنت أرى النّاس كالمرجل في حالة تذمّر وحنق من غلاء المعيشة، من انتشار البطالة، من انحدار التّعليم، من انتشار الفساد في كلّ المؤسّسات وأجهزة الدّولة. كان النّاس يعبّرون عن ذلك في شكل أقواس يفتحونها أثناء قضاء مصالحهم الإدارية أو التّبضع لعائلاتهم، أو عند التّجمهر أمام عراك بعضهم... يتذمّرون، يتأفّفون، يلعنون هذا الزمن الزّفت ثمّ يصمتون ويعودون إلى حياتهم الرّوتينيّة المملّة والبائسة... البلاد في جمود وحزن والناس في إحباط ويأس وأنا جثّة ملقاة بإهمال على فراشي أو أجلس بلا مبالاة في مقهى... لم أكن أحسب أبدا أن يكون الاكتئاب مآلي ولم أكن أحسب أبداً أنّ البلاد ستثور”. لحظة غضب وفيما يشبه اليوميات تصف المؤلفة بأسلوب شاعري هو من السهل الممتنع يوما من حياتها وهو يوم غير عادي في تاريخ تونس وهو يوم 17 ديسمبر2011 يوم اشعل محمد البوعزيزي النار في نفسه، تقول: “كنت في غرفتي مستلقية على فراشي أسند جهاز الكمبيوتر المحمول إلى ركبتي من خلال الموقع الاجتماعي “الفيسبوك”. أتواصل مع أصدقاء كثر في مختلف أصقاع العالم يجمعني بهم الشغف بالكتابة والولع بالحبر الكريم... وإذا كانت الإنترنت من اهمّ الاكتشافات العلمية الّتي أحدثت ثورة حقيقيّة في مفاهيمها متنوّعة متّصلة بالعلم والحياة فإنّ الموقع الاجتماعي “الفيسبوك” من أروعها... صفحتي في “الفيسبوك” هي بيتي الافتراضي. هنا أستقبل أصدقائي من كلّ مكان في العالم ومن أقاصي الحياة نتبادل القصائد والقصص والطرائف.. هنا على جدار بيتي صوري ونصوصي وأغاني ... انثر تحياتي لأحبّتي وأهمز هذا وألكز ذاك. هنا نتبادل المجاملات وتحدث المشاكسات ويشتعل أحيانا فتيل خصام قد ينتهي بقطع العلاقة وقد يخمد بتنزيل أغنية وقهقهة... هنا كانت تحدث حياة افتراضية موازية للحياة الواقعيّة، يحدث للصّداقة أن تورق وللحبّ أن يطلّ برأسه وللغزل أن يترقرق وللعتاب أن ينبت وللحسد أن ينمو وللنّفاق أن يمتدّ. كنت وأنا الّتي أعاني اكتئاباً شديداً... قد وجدت بعض المتنفّس والمتعة في هذه النوافذ الّتي أفتحها على أصدقائي الحقيقيين والافتراضيين... كنت في غرفتي مستلقية على فراشي وعلى ركبتي جهاز الكمبيوتر المحمول... أستمتع في صفحتي، بيتي الافتراضي... أضيف إليه فيديو أغنية أو أعلّق على نصّ... أو أدسّ تعليقا وأتجوّل بين صفحات أصدقائي أزرع ابتسامة هنا أو كلمة محبة هناك... عندما انتبهت إلى خبر صغير أضيف إليه فيديو غائم لكتلة نار ملتهبة في شكل طيف رجل، ويقول الخبر: إنّ شاب اسمه محمّد البوعزيزي من مدينة سيدي بوزيد قد أشعل في نفسه النار... ماذا...؟ حجزوا له عربة الخضر وعندما اشتدّت المناوشات بينه وبين أعوان التراتيب البلديّة صفعته امرأة ـ تشتغل عونا للتراتيب ـ شعر بالإهانة لم يقبل الصفعة لكرامته ولم يرض الجرح لكبريائه وعندما لم ينصفه أحد من المسؤولين في الولاية (المحافظة) أشعل عود ثقاب وأحرق نفسه... حوّل جسده إلى كتلة لهب. كان الخبر نصلاً حادّا مؤلماً... لم نعتد أن نتداول مثل هذا الخبر في بلادنا... شعرت وأنا أقرأه بالألم والحزن والقهر... وبسرعة أصبح الخبر متداولاً في صفحات الأصدقاء والتعاليق المصاحبة تتراوح بين التعاطف مع هذا الشاب واستنكار الانتحار الّذي لا يقبله الإسلام والاعتراض على هكذا طريقة قاسية جدّا في التّعبير عن موقف ما... حتّى وإن كان احتجاجا على صفعة خدّ. كاد الخبر يطوى لولا أن أعقبه بعد يوم تقريبا خبر مفاده أنّ الأهالي قد تجمّعوا أمام الولاية في وقفة استنكار واحتجاج ضدّ الإجراءات البلديّة الّتي دفعت بهذا الشاب من شدّة الغيظ والقهر إلى تحويل نفسه إلى كتلة لهب. شخصيّا... راقتني هذه الوقفة الاحتجاجيّة... راقني أن يتجاوب الأهالي مع شاب منهم ويتعاطفون مع حالته الإنسانية القاسية. راقني أن يشعر كلّ واحد منهم بمعاناة هذا الشّاب (محمّد البوعزيزي) فيشعر كلّ فرد انّه مثله محبط وصاحب كبرياء مطعونة وأنّه في لحظة غضب قد يشعل نفسه على أن لا يطأطئ رأسه وهو يمسح آثار الصّفعة على خدّه ويصمت، على أن لا يطأطئ رأسه وهو يلتقط الغلال الّتي كان يزيّن بها عربته، على أن لا يطأطئ رأسه وهو يغادر المكان جارّا أذيال خيبته و... يبتعد. راقني أن يشعر كلّ واحد من أهالي المدينة انّه هو نفسه محمّد البوعزيزي...أخذتني الحمية بدوري ونزّلت الخبر في صفحتي...”. الكتاب: امرأة في زمن الثورة المؤلفة: فاطمة بن محمود الناشر: منشورات كارم الشريف
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©