الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صرخة في وجه النسيان

صرخة في وجه النسيان
19 يناير 2012
أين يقع كتاب الباحث والإعلامي والروائي زهير الجزائري الذي يحمل عنوان “أوراق جبلية” والصادر مؤخرا عن دار آراس في أربيل بين مؤلفاته المتعددة المتنوعة؟. هل يقع ضمن سرد التجربة الشخصية، ونزعة رواية التجربة، بعد معايشتها ومعاينتها بكل التباساتها وخساراتها ودمويتها عندما كان يقاتل في كردستان العراق إبان السبعينيات، وفحصها، ومن ثم تدوين مجرياتها، التي يرى(الراوي/ العليم)، انه لابد من سردها لتكون شهادة على زمن كان فيه مشاركاً ومراقباً وشاهداً. إن بين أدب السيرة الذاتية والتاريخ صلة وثيقة، لأنها تُصور مختلف البيئات، وأحداثها المعززة بالوقائع والأحلام والرؤى، والحالات النفسية. لذا يتميز هذا الجنس بأن مادته التجربة الحياتية المرتبطة بالسيرة الشخصية، وقد سردها (الجزائري/ الراوي) بلغة أدبية، واضحة الدلالات والمنحى التوثيقي المكثف. في تلك العقود، وما حصل فيها لم تكن القسوة بحدها الأقصى نتاجاً عرضياً لعقاب، بل كانت تلك القسوة مطلوبةً وكان تصميمها وصورتها وتنفيذها، كامناً، في خيال صاحب القرار، وبما إن الوسائل متوفرة، فالتنفيذ، غالباً ما يجد السبيل مُهيئاً. فالعقاب جاهز، انه إنهاء نشاط ووجود، ويعني ذلك، تحويل الأرض في بعض مناطق شمال العراق إلى فراغٍ خالٍ من البشر، ومحيط مسموم وملوث بما يمكن أن يقضي على حياة الإنسان والحيوان والأشجار. انه أمر واضح وقرار لا تراجع عنه لسلطة تقاتل حتى الأشباح, إذن لابد من الفناء لكل ما تتصوره أو تراه أو يكمن في مخيالها، بصفته عدوا لا يجوز التحاور معه. فهذا الـ (كل شيء) لا يقع (هناك) الذي هو (المجرد) بل انه الـ (هناك) المشخص الـ (هناك) المعادي. أوراق قديمة يبدأ (الجزائري/ الراوي) كتابه بالعودة إلى أوراقه القديمة، والتي يعيد كتابتها، أو ينقحها ويضيف إليها، بعد أكثر من عشرين عاماً على صدورها عن دار نشر (جبلية وهمية) اختفت من الوجود تماماً. وهو يؤكد انه لا يملك نسخة واحدة منها، حتى أهداه أحد أصدقاء الجبل النسخة الوحيدة والتي احتفظ بها لمواجهة الإنكار؟. إنكار مَنْ؟ أهو إنكار الزمن وجهل التاريخ أم الحاضر بالوقائع و الحيوات الماضية؟. أم الأجيال الشابة التي لم تفتح عينيها على تلك الوقائع القاسية، ولا تهتم بها، لهذا يستعيد(الراوي) هذه الأوراق لإعادة طرحها للجيل الذي لا يعرف، وربما لا يريد أن يعرف، عن الماضي وآثامه وانتصاراته أو هزائمه، وأفراحه وأحزانه ونكوصه وخسائره المتواصلة، ولا يهمه ذلك الماضي حالياً، كما في موقف مرافقته الشابة، في مدينة (السليمانية)، التي لم تهتم بما أسَرها به عن مرافقته للمسلحين، و معرفته هذه الجبال وحياته فيها ثلاث سنوات!؟ ولم تتوقف الشابة أمام هذه المعلومة وتسأله، حتى لماذا.. وكيفَ..!؟. بل تركته مخذولاً، لتدخل إلى محلٍ يبيع أقراص الأغاني والموسيقى الحديثة، وبعد خروجها تعلن له: إن أغاني المقاتلين عن (قتلاهم) تأتي في الدرجة العاشرة من اهتمام الأجيال الجديدة!!. إنهم مشغولون بأغاني نانسي عجرم وإليسا وكاظم الساهر. فالماضي لا علاقة لهم به، والدماء التي أريقت خلاله، لم تعد ساخنة بل جافة، أو إنها ليست سوى ماء مبدد ولا قيمة له الآن..!؟. و(الراوي) يعيد كتابة هذه الأوراق ليثَبتَ ذاك التاريخ، بوجه النسيان، فمن ينسى الماضي محكوم عليه بتكراره حسب ما يقوله “جورج سانتايانا”. انه يكتب التاريخ ويوثقه للذين قاتل معهم، وصاروا رجال السلطة البديلة، وما أن يدخل دوائرهم ومؤسساتهم، يخرجون له من وراء طاولات سلطتهم الجديدة، بالبدلات الرسمية المزررة ومعها ربطات العنق المستوردة، وهم يقعون في منطقة، مشوشة وحائرة، بين الود والابتسام من لقاء التضاد هذا، وبين الواقع الذي يفرضه الموقع الرسمي الجديد!؟. إنهم يمدون أيديهم برهافة غريبة، وكأنهم يعلنون الحرج والاعتذار لـتغيرهم الضروري، حيث ربما خَذلوا بمواقعهم الحالية، والدهم (الجبل) الذي بقي مكانه بينما غادره الأبناء ليكونوا: أبناء لسلطة حاربوها، ثم استبدلوها!؟. ولكن هل عمدوا لقتل أباهم (الجبل) في مواقعهم الحالية؟. أم كانوا أوفياء لكرمه الذي منحهم الجاه والشهرة، ونعيم السلطة، وقسوتها كذلك، فلا سلطة ،أبداً، بلا قسوة، وضحايا، لعل الزمن القادم سيثبت أنهم كانوا أبرياء، لكن بعد فوات الأوان. كما انه يعيد كتابته للذين دوت القذائف في آذانهم ولعلع الرصاص قربهم وترك جروحاً أو عوقاً على أجسادهم، ومزق أرواحهم معنوياً، وبعضهم بات جثثاً غرقى محنطة في متاهات الثلوج إلى الأبد، ولتلك (المدن الفاضلة) ومعها حشد من أعزاء مفقودين، لم تُعَرف مصائرهم حتى اللحظة!؟. إنه خطاب للذين اجتازوا المحنة، وكأنه يطالبهم بعدم النسيان، وجمع بيانات الضحايا، لأن الماضي بات ذكرى، وان كل الضحايا كانوا بشراً لهم أسماء وقسمات وآمال وتطلعات. ولعل لا أحد فكر، بمجرد جمع بياناتهم!؟. يستدعي (الراوي) محطات الحدود التي يأتي إليها المقاتلون وغيرهم، جرحى، مرضى، مجازين، وهاربين من جحيم الحياة في وطن مصاب بلعنة الحروب. هناك في محطات الحدود يحدث ما يشبه العمل في “المسرح”، عند تبادل الأدوار، الصاعدون للجبل يتركون القمصان المنقطة المخططة والعطور والأحذية الحديثة اللامعة، ويرتدون ما يتركه النازلون منه. يلتقط (الراوي) من بوابات منزل في إحدى القرى المحترقة، نداء الاستغاثة الذي يوثقه المجهول، صورة وشخصاً، والمعلوم اسماً فقط، وساقه قدره المتلبس بواجب خدمة العلم التي لا حد أو حدود زمنية لها. انه يحفر على البوابة الخشبية لذلك البيت المحترق، ما يلي: “تذكروا الجندي المكلف..علي الساعدي- من العمارة..!”. ويواصل الحفر لمغالبة النسيان: “علي الساعدي- 1978”. ويعود ليعلن وبما يشبه الصراخ: “هنا عاش الجندي المكلف علي الساعدي..”. ويَصّر على مواصلة الإجهار عن ذاته المحترقة أيضاً: “تذكروا علي السا...!”. دون أن يكمل كتابته.. التي فيها وعبرها صار معلوماً، أو ضحية بقسمات مجهولةٍ.. ولم يكشفَ شيئاً أبعد من هذا، ولم يُعرف لمن وجه خطابه، معلناً فيه عن اسمٍ ومدينةٍ ولد فيها، ونائية عنه وعن مكانه الحالي، ولم يذكر أو يبرر، لماذا لم يكمل لقبه ثانيةً..!؟. ربما مزقت حياته وأحلامه وتطلعاته، رصاصة ما، دون أن يعلمَ مُطلقها، أن الفتى على السا... هذا، يغالب قهر السلطة التي ستقوده، وأقرانه، لمحارق الفناء المتواصلة، وهو بهذا الإعلان عن اسمه ولقبه كاملاً تارةً، وناقصاً تارةً أخرى، ينتصر على محوها الدائم، له ولإقرانه. انه محاولة انتصار المغلوب والمقهور والمُستباح ومسلوب الإرادة، وهو ليس انتصاراً واقعياً، لكنه انتصار الرمز على غول السلطة. ما أن استدارت السلطة ذاتها، يستدير أيضاً وعي، الجندي المكلف (علي الساعدي) فيما إذا قد بقي حياً، أو قرينه المجهول، وبحدة هذه المرة، ليكتب على جدران بيت بعيد. ربما هو (علي السا...) ذاته أو ذلك القرين المجهول، مَنْ كتبَ إلى جوار كتاباتهم، بارتجاف وخشية، وفي غفلة منهم، وفي البيت المستباح ذاته، وعلى الجدار نفسه، العبارة الفاضحة لكل ما حدث وجرى في أرض القاتل والقتيل، وشعبه الضحية والجلاد، والمنطوي كذلك على الأحلام والآمال، والتي أوردها. خطوات الضحايا ينهي الجزائري كتابه متتبعاً “خطوات الضحايا” خلال مرحلة اختفى فيها، من الوجود، في ساعات، الآلاف، بمختلف الأعمار وسُلموا واستسلموا لمصائر مجهولة. ولن ينسى الذين عاشوا التجربة في ثلاثة أماكن ممهورة في ذاكرة مَنْ بقى حياً منهم صدفة. إنها: (معسكر طوابزة) القريب من كركوك. (سجن النساء في دوبز) الواقع عند ملتقى ، كركوك- الموصل، و (نقرة السلمان) المعروفة جيداً للعراقيين. من هذه الأماكن اقتيد الرجال القادرين على حمل السلاح مربوطين مع بعضهم بحبال، وأوقفوا على حافات حفر شقية طويلة، عيون مكممة، ووجوه قلقة، وأرواح هائمة، وأطلقت النيران عليهم. ثم غطتهم الجرافات بالتراب، وبعد أن غادر (المنفذون)، شمل الصمت كل شيء، وغدا سيداً للهواء والتراب والفضاء الصحراوي. الشيوخ اقتيدوا إلى (سجن نقرة السلمان) ليموتوا هناك. أما النساء فعشن عذاباً، يبدو انقضاض طائر الموت تجاهه، كرماً ورحمة ونعمة ومغفرة. يذكر (الجزائري/الراوي) أنه، خلال محاكمة المتهمين ومن موقعه الإعلامي، طلب من مراسليه ومندوبيه، في عدد من المدن العراقية، أن يسألوا أجيالاً من العراقيين: إن كان قد سمعوا بـها حينها!؟. فكانت الأجوبة: ? لا ? أبداً ? إنها قصة مختلقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©