الثلاثاء 7 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الخاتم».. عيار الموسيقى

«الخاتم».. عيار الموسيقى
19 يناير 2012
كما أسلفنا في معرض سيرة حياة رتشارد فاجنر، فإن هذا الموسيقي العبقري هو صاحب أكبر عمل أوبرالي منفرد في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية وهو “دورة خاتم النيبلونغ” (أو الخاتم اختصارا). هذه “دراما موسيقية”، كما يسميها المؤلف، تتألف من أربعة أعمال أوبرالية - أشهرها الأخير “شفق الآلهة” - ويستغرق عرضها كاملة حوالي 15 ساعة. لكن يمكن لكل جزء منها ان يعتبر أوبرا قائمة بذاتها، رغم أن كلا منها حلقة في سلسلة درامية ذات بداية ومنتصف ونهاية. ولا بد من الإشارة إلى أن فاجنر هو الموسيقي الأوبرالي الوحيد الذي كان يؤلف أيضا أشعار وحوارات أعماله التي مزج فيها رومانسية القرن التاسع عشر الميلودرامية والروايات البطولية الملحمية في الفوكلور الألماني والاسكندنافي، وهو ما يتجسد أعظم تجسيد في هذا العمل الملحمي بمعنى الكلمة. صلاح حسن رباعية "الخاتم" هي قمة الفترة التي تبلورت في ذهن مؤلفها فكرة الدراما الموسيقية (أو الموسيقى السيمفونية التي تتولى "شرح" العمل الدرامي)، و"اللايتموتيف" أو الجمل الموسيقية المخصصة لكل شخصية في العمل الدرامي فترتبط بها وتصبح للمستمع دليلا إلى ظهورها. وانطلاقا من كل هذا توصل فاجنر إلى مفهومه لما أسماه «العمل الفني الشامل» الذي يتجمع فيه الشعر والموسيقى والجماليات البصرية الدرامية في جسد واحد. وهو المفهوم الذي أثمر أعمالا ضخمة يستغرق عرضها ساعات عدة مثل "تريستان وإيزود" و"المغنون السادة" وتوجها بـ "الخاتم". وهذه الرباعية هي تفسير فاجنر الموسيقي الأوبرالي لبعض أشهر الملاحم في الفولكلور الألماني. وقد حقق حلمه بأن تعرض في دار "تليق بعظمة العمل". ففي عام 1864 التقى في باريس بلودفيغ ملك بافاريا الثاني الذي سحر بعبقريته الموسيقية وعذوبة لسانه وشخصيته. فرفع حظرا كان قد فرض على دخوله ألمانيا ـ بسبب أفكاره التي كانت تعتبر يسارية إلى حد غير مقبول - ودعاه للعودة إلى بلاده لإكمال "الخاتم" التي كان قد بدأها عام 1848. بل إنه وافق على تشييد دار خاصة لعرضها وأشرف فاجنر بنفسه على تصميمها وإكمال بنائها في بايرويت، بافاريا. ومع عرضها الافتتاحي عام 1876 كان فاجنر قد أمضى أكثر من 25 عاما لإنجازها بالشكل الذي يريد. أضخم أوركسترا لدى تقديم هذه الأوبرا الضخمة في مهرجان بايرويت السنوي بأعمال فاجنر في زماننا هذا، فهي تعرض على مدى أربع أمسيات متتالية بسبب الساعات الطويلة التي تستغرقها في حال عرضها دفعة واحدة. وهي تتفرد عن سائر الأعمال الأوبرالية الأخرى بأنها تستلزم أوركسترا مؤلفة من 112 آلة منها 64 آلة وترية و15 من آلات النفخ الوترية و17 من النحاسية و16 من آلات الإيقاع. وكل هذا عدا أبواق وآلات موسيقية أخرى تسمع أصواتها آتية من وراء الكواليس، إضافة إلى مختلف المؤثرات الصوتية مثل العواصف والمطر والرعد وهلم جرا. وبما أن هذا الحشد ليس متاحا لكل دار أوبرا، فغالبا ما تختصر الأوركسترا إلى أقصى حد يمكن معه عرض العمل من دون انتقاص من دراماه الموسيقية المكثفة. والأجزاء الأربعة التي تؤلف "الخاتم" هي على التوالي: "ذهب الراين" و "الفالكيريز" و "سيغفريد" وأخيرا "شفق الآلهة". وتتطور أحداثها الدرامية كما يرد في السرد الموجز التالي: ذهب الراين تقع في فصل واحد: يستهدف القزم آلبريش النيبلونغ، وهي مخلوقات تعيش تحت الأرض على معادنها المدفونة، ويسرق ذهبها من حارساته وهن حور الفالكيريز اللائي يعشن تحت الماء. يصنع من بعض ذلك الذهب خاتما سحريا يهب مالكه قوى خارقة لكنه يأتي باللعنة عليه إذا امتلكه من دون حق. الإله واتون يكلف عملاقين ببناء قصر له يسميه "فالهالا"، ويخدع آلبريش فيستحوذ منه على الذهب ليدفع به أجر العملاقين لقاء بنائهما القصر. ويستولي منه على الخاتم ويجوب الدنيا بحثا عن وسيلة يكسر بها اللعنة الموعودة. العملاقان يطالبان بالخاتم أيضاً ويحصلان عليه. أحد العملاقين يقتل أخاه ويستفرد بملكية الخاتم. الفالكيريز تقع في ثلاثة فصول: سيغليندا ابنة الإله واتون تبادل ابنه سيغموند (وهما من البشر) الغرام وتحبل منه، زوج سيغليندا يسعى لقتل سيغموند رغم تمتع هذا الأخير بسيف سحري يحميه وأيضا رغم محاولة إحدى حوريات الفالكيريز، واسمها برونهيلدا، حمايته. يتدخل واتون ويكسر سيف ابنه ويتيح بذلك لزوج ابنته قتل سيغموند. وينفي برونهيلد إلى نومة أبدية على قمة جلمود صخري هائل ويحيطها بحلقة من النار. سيغفريد تقع في ثلاثة فصول: سيغفريد، ابن سيغموند القتيل، ينجح مع والدته في إعادة سيف أبيه المكسور إلى حالته الأولى. عندها يخرج إلى طلب الخاتم السحري من العملاق الذي استحوذ عليه بعد بناء قصر فالهالا. وفي سلسلة مغامرات مثيرة يتمكن من الوصول إلى عرين العملاق بعد نجاحه في قتل جده الإله واتون الذي كان يحاول منعه من مبتغاه. العملاق يحول نفسه إلى تنين شرس بفضل خاتمه، لكن سيغفريد يتمكن من قتله بسيفه السحري. يستولي منه على الخاتم الذي يمكنه من الوصول إلى برونهيلدا على جلودها الصخري الناري. يقبلها معيداً إليها الحياة. شفق الآلهة تقع في ثلاثة فصول: سيغفريد يهدي الخاتم لمحبوبته برونهيلدا ويعود بها إلى قصر فالهالا. لكن اثنين من أعدائه، وهما جونتر وهاجن، يسعيان إلى قتله طلبا للخاتم. ينجح هاجن في قتله وتنشأ بينه وبين حليفه معركة أخرى تنتهي بمقتل جونتر. برونهيلدا تقيم محرقة لسيغفريد قبل أن تشعل النار في نفسها وفي القصر. يفيض الراين وتتمكن حوريات الفالكيريز من إغراق هاجن في مياهه وإرجاع الخاتم إلى أصحابه الحقيقيين: مخلوقات النيبلونغ... وبهذا تكتمل دورته المشار إليها في العنوان الكامل لهذا العمل الملحمي المدهش. فلسفة العمل الشامل الواقع أن فاجنر قصد بهذا العمل المذهل أن يكون الأقرب إلى احتواء معنى الخلق والحياة والموت بين سائر الأعمال الفنية العظيمة. وهو بهذا يتجاوز حدود القصة الدرامية - الموسيقية ليجعل من فلسفة الوجود نفسها عمودا أساسيا له ويقترب بفضل تأويله الموسيقي لها من عتبة الكمال. وعلى هذا الأساس يمكن تأويل رباعية الخاتم على أنها دورة شاملة تبدأ بخلق العالم وتنتهي بسقوطه، لتبدأ الكرّة من جديد (فهي في آخر المطاف الدائرة التي يشكلها الخاتم). وفي الزمن الذي تستغرقه أجزاء الأوبرا الأربعة على خشبة المسرح تبدأ هذه الرحلة في «زمن الأساطير والآلهة»، وتنتهي في «زمن البشرية الحديثة» على النحو الذي يحيط بنا ونحيط علما به. وثمة هوامش تلقي بالضوء على القيمة الفلسفية لرباعية الخاتم، ضمّنها فاجنر نفسه في رسالة إلى صديق له هو اوغست روكل. وقد كتبها في يناير 1854، وحاول فيها شرح ذلك البعد الفلسفي لعمله. ويرد في جزء منها ما يلي: «الشيء الحقيقي الوحيد هو «المحسوس». لكن هذه الحقيقة نفسها تتخذ أشكالا وجوانب عدة يصح لنا معها القول إن الحقيقي هو «المتغيّر». ولكي يكون الشيء حقيقيا يتعين أن يُخلق وينمو ويينع ويذبل ثم يموت. وقصيدتي (رباعية الخاتم) ذات غرض واحد وهو تصوير الواقع - الحقيقة على هذا النحو الذي ذكرت. فهي تظهر الطبيعة في واقعها الملموس النقي من المساس بجوهره، وأيضا في تناقضاتها الأساسية... هذه التناقضات التي تشمل - في مظاهرها العديدة اللانهائية - كل شيء بما في ذلك ما ننفر منه». وقد خضعت رسالة فاجنر هذه لعدة تفسيرات (لأنها تقبل هذا التعدد بطبيعتها). على أن هناك إجماعا عاما على أن "تصوير الواقع" الذي تحدث عنه لا يعني "العالم الملموس" حرفيا بقدر ما يعني "العالم الملموس من وجهة النظر البشرية وتبعا لتفسيرها لكُنْه الأشياء"... وبعبارة أخرى، "الأشياء كما يصنّفها الإنسان في عالمه الداخلي وتبعا للوشائج التي تربط الناس بالأشياء من حولهم وللعواطف التي تربط هؤلاء الناس ببعضهم بعضا". وهكذا تصبح رباعية الخاتم محاولة لنقل هذا الطيف الواسع من العواطف: من الحزن والألم إلى السعادة والنشوة... من اللهفة والخوف إلى الثبات والطمأنينة، ومن الخيانة الى الولاء، والكراهية الى الحب... وهكذا دواليك. أما عظمة فاجنر في رباعيته الهائلة فهي ترجمة كل هذا التركيب الإنساني المعقد الى لغة مفهومة كونيا رغم أن لا اتفاق مسبقا على معاني مفرداتها، وهي الموسيقى. ولا غرو أن "الخاتم" صارت المعيار الذي تقاس به الأعمال الكلاسيكية الملحمية، وبالتالي العمل الأكبر نطاقا في شموليته وربما أعظم إنجاز موسيقي في تاريخ البشرية كما يعتقد البعض... تماما كما قصد له هذا المؤلف الفريد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©