الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

أحلام النازحين تتهاوى على أمل العودة الضائع

أحلام النازحين تتهاوى على أمل العودة الضائع
21 أكتوبر 2017 02:18
على جمر النزوح وتحت خيام مهترئة هدى جاسم (أربيل) بين جمر الحصى المشتعل تحت أقدام الصغار الذين يحملون حقائب الآمال الضائعة، ووجع النزوح الذي تقض أشواكه على براءةالطفولة، وتختزل أحلامهم في شربة ماء وسقف خيمة متهرئ، لتمتد أجساد النازحين، لحما فوق لحم بين صخور العراء وطين الصحارى وجدب الإنسانية العمياء، آلاف وآلاف ترسم فوق غبش الفجر طريقاً للعودة لا يلبث أن يذوب مع أول شعاع للشمس، وتذوب معه أرواحهم، أجيال تأتي وتراكم وجعها فوق أجيال سابقة .. وتحرث الأرض لأخرى لاحقة، وليس سوى الحسرات على ماضٍ رحل للأبد!. رسمت الطفلة داليا «عزيز سرحان» ـ الحافية ـ إلا من وجعها وهي تحمل حقيبة آمالها الضائعة، على وجهها السؤال متى نعود إلى ديارنا، بينما كانت الطفلة «رغد علي» ترسم على الطين الذي أحاط خيمتها حلماً جميلًا، تحاول بين نبضاته أن تنسق بياض وجهها الجميل من الأتربة التي علته رغماً عنها بوجع النزوح! .. كل ما نستجليه من مشاهد الوجع طفولة مقتولة، وأناس لم يعودوا يعرفوا بوصلتهم، بعدما تركوا ديارهم مرغمين وهي تضج بغبار الحروب، تلك كانت الذاكرة الأخيرة التي حفرت ألوان الدماء في عيونهم، وبين ملايين الحصى المنثورة على أرض مخيمات النزوح في أربيل، تتراكم مطالب الصغار بكتاب ولعبة وثوب عيد، ويرنو الكبار لستر ولقمة وحليب.. بين هذا الوجع كانت «الاتحاد» ترصد دموع أطفال ونساء ورجال من بين أكثر من 72 ألف نازح يتوزعهم في 14 مخيماً، منها عشرة مخيمات للنازحين العراقيين، وأربعة مخيمات للسوريين، وواحد للإيرانيين. من بين 25689 شخصاً من النازحين في مخيم (حسن شام) الذي يبعد نحو 25 كيلو متراً عن مركز أربيل شمال العراق، كان الأطفال وعددهم كبير جداً، يشعرون أن الحياة لا ترغب في وجودهم، فبعضهم ولد وتنظيم «داعش» الإرهابي يتسلط على بيته وألعابه وأهله، وبعضهم شاهد مناظر مرعبة لهذا التنظيم وهو ينحر من يعاديه من أهالي الموصل أو المناطق الأخرى، أما أفضل ما مر بحياة هؤلاء الأطفال، فكان الهروب تحت جنح الليل والرصاص، ليصلوا إلى أقرب نقطة للجيش العراقي قد تمنحهم أملا في الحياة، ثم ليرسلوا مع أهلهم إلى مخيمات النزوح وكرافانات لاتقيهم من حر ولا برد. كان «نهيان خلف درويش» الذي لم يتجاوز عمره الخمسة عشر عاماً، يحلم بأن يكمل دراسته في مدرسته بالجانب الأيمن في الموصل، قبل أن يمنعه احتلال «داعش» للمدينة من ذلك، وصار التنظيم يبحث عمن بعمره ليجندهم، كانت والدة دوريش مريضة وتحتاج إلى غسيل للكلى كل فترة، وهو وأشقاؤه وأبوه حاولوا مرارا الاحتيال على عناصر التنظيم للهرب من الموصل ولم ينجحوا إلا قبل أشهر عدة، فروا سيرا على أقدام عريت كثر ما خاضت أهوال الطرق، حتى وصلوا لنقطة تفتيش عراقية خلصتهم وأرسلتهم مع 200 عائلة إلى مخيم «حسن شام». ويحلم درويش بالعودة لدياره برغم أن بيته أزيل عن الأرض وأمه مريضة، وهو لايعرف متى سيعود ومتى سيدرس ومتى سيعمل، ملخصا أحلامه اليوم بـ«ثياب للصيف»، فقد وزعت إحدى المنظمات عليهم ملابس شتوية قديمة جدا، في صيف قائظ، ويقول رازكار عبيد المشرف على المخيمات وهو يعمل متطوعا مع إحدى المنظمات الإنسانية الخيرية في أربيل، إن «مديرية الهجرة في أربيل والتابعة لوزارة الهجرة والمهجرين، ومنظمة الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية أخرى تقوم بتزويد النازحين في هذه المخيمات بالملابس والأغذية والأدوية، لكنها لا تكف نتيجة لازدياد عدد النازحين، فهم بحاجة مستمرة لكل الأمور التي تديم حياتهم». وأكد عبيد لـ«الاتحاد» أن «القنصلية الإماراتية وجمعية الهلال الأحمر الإماراتي قامتا ببناء مستشفى ومخزن للنازحين كما تقوم بتزويدنا بالغذاء والدواء والملابس». فيما يؤكد توان جمعة مدير مخيمات «حسن شام» أن الأطفال والنازحين بشكل عام يحتاجون إلى دورات وعلاج نفسي من متخصصين، نتيجة لما مروا به من أوضاع مأساوية ابتداء من احتلال مناطقهم من قبل «داعش»، فالهروب ثم السكن في مخيمات النازحين. ويقول: إن الأدوية غير كافية، وهناك مرض «الجرب»، الذي يستشري بين النازحين نتيجة قلة الدواء والماء والسبل الصحيحة للمعيشة، ولاحظت «الاتحاد» أن هناك نحو 30 موظفاً يعملون في مخيم «حسن شام»، ومثلهم في مخيم «الخازر» لتنظيم حياة النازحين. كان الذين نلتقيهم في ممرات المخيمات يؤكدون وبصوت واحد أن الحياة هنا مستحيلة، وأنهم أصبحوا أرقاماً منسية، بعدما كانوا بشراً في صفحة الحياة. وقال محمد عادل (20 عاماً) من ناحية حميدات في الموصل: «إن الحياة في المخيمات مستحيلة، لكنها في كل الأحوال أفضل من المستحيل المرعب الذي كنا نعيشه في الموصل تحت سيف تنظيم داعش»، مضيفاً وقد زاغ بصره واعترت وجهه لمحة خوف وألم وقال «قتل الكثير من أقاربنا، وشاهدت بنفسي سائقي سيارات ذبحوا وهم يحاولون تهريب عوائل إلى سوريا»، وأوضح «ما نحلم به هو العودة لديارنا والخلاص من هذه الخيام التي أحرقت كل أحلامنا بمستقبل آمن». حقائب سوداء..لا أحلام فيها ولا أهل في أطراف معسكر حسن شام فتحت مدرسة مديرها أحمد صديق، وهو أيضا كان مديراً لمدرسة في الموصل، كان سعيدا وهو يستعد للعام الدراسي الجديد، ويقول: «قد لا تصدقون فرحي لكنني أحاول أن استعيد مدرستي من خلال هذه المدرسة التي فتحت بمساعدة الأمم المتحدة لتضم عددا من الطلبة والطالبات للمرحلة الثانوية»، مؤكداً استعداده للعمل ليل نهار من أجل أن يعيد البسمة لآمال الشباب في «هذا المخيم الحزين». تجولنا على حصى الأرض الحارة، والأطفال حولنا حفاة، حتى استوقفتنا طفلة صغيرة تدعى إيناس سعد (11 عاماً)، كانت تحمل حقيبة سوداء عندما سألتها عما تحمل في تلك الحقيبة، فقالت: «حقيبة أبي، قتل في الموصل ومعه أمي»، كان قلبي ينفطر بين ضلوعي وأنا أرى الصغار وهم يتحدثون عن الموت الذي لم يروا غيره في كل تلك الأهوال، كل من حولها يقول إنها لا تترك هذه الحقيبة منذ وصولها للمخيم قبل خمسة أشهر، جاءت مع جدتها لأمها وبقيت وحيدة كضحية من ضحايا الإرهاب والحرب. وتشير الأم لعائلة علي نشمي، ولديها خمسة أبناء وهي حامل في شهرها الأخير، إلى أن أطفالها بلا مدارس، وزوجها بلا عمل، وتأمل أن تعود وعائلتها إلى الموصل «ربما سيجد عملا جديدا يستطيع من خلاله أن يعيل عائلته» التي سيزيد عددها بعد أسابيع. ونحن نترك مخيم حسن شام باتجاه مخيم «الخازر»، كان هناك عدد من العوائل تهم هي الأخرى بالمغادرة والعودة إلى الديار، كما تقول عائلة أبو محمد، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن منزلهم قد تم تفجيره، ومع ذلك فهو يرى أن يعيش تحت خيمة على أرض يملكها، أفضل مئات المرات من انتظار مساعدة أو رغيف خبز قد يأتي أو لا يأتي. عند دخولنا مخيم «الخازر» الذي يضم 5651 شخصا تحت 1560 خيمة، كان المشهد مختلفا، فقد كان المغادرون لهذا المخيم أكثر مما شاهدناه في مخيم «حسن شام»، وكان غالبية المغادرين قد وفروا أجرة سيارات العودة التي تحمل أغراضهم من بيع المواد الغذائية التي تم توزيعها عليهم، وكانت 40 دولاراً ثمن أجرة نقل كل عائلة مع أغراضها. يقول أحمد صالح أسعد مدير مخيم «الخازر»: إن المخيم يعاني من قلة الأطباء الاختصاصيين في المستشفى التي أنشئت من إحدى المنظمات النرويجية، محددا نقص المتخصصين بحالات الولادة، وقال أيضاً: «إن الأدوية والأغذية قليلة قياساً بالأشخاص الموجودين في المخيم»، ويرى أن الاهتمام بالحالة النفسية والصحية للنازحين من الضروريات، لأنهم مروا بظروف صعبة للغاية. عوائل كثيرة حملت أغراضها للعودة، بسبب الظروف القاهرة في هذه المخيمات، ويقول جاسم محمد معيوف: «إن سبب استعجاله بالعودة هو قلة الاهتمام وقلة الغذاء والدواء»، مؤكداً أن منزله في «منطقة زنازل في حديدات بالموصل» قد تضرر كثيراً ولا يصلح للسكن، لكنه اتفق مع بعض أهالي المنطقة من النازحين أيضاً، على أن يسكنوا في بيت واحد حتى تتحسن الأوضاع. كانت السيارات تتقاطر للرحيل، منهم عائلة «ملكة عواد» المكونة من 10 أشخاص، وعائلة «علي ياسي» و«مهند أحمد». وطالب إبراهيم نجم وهو موظف في مديرية التربية في الموصل، بأن يسمح له بالعودة، وهو يؤكد أن التوقيع الملزم ليتمكن من العودة لم يحصل عليه حتى الآن، ويخشى من فصله من دائرته لأن الموظفين قد باشروا بالعمل في مديرية تربية الموصل. على جانب بعيد من المتجمعين حولنا، كانت الصغيرة هند تبكي وهي ترى العوائل تهم بالرجوع، وقال لنا أقرانها إنها تبكي كلما سألها أحد عن والدها، فقد قتل أثناء هروبه مع عائلته من الموصل، وشاهدت الصغيرة مقتله وقد ترك هناك، ولا تعرف عائلته من قام بدفنه بعدما هربوا من الساحل الأيمن من الموصل. تركنا مخيمات «حسن شام» و«الخازر»، وتركنا وراءنا مئات الحكايات التي لم تستوعبها كراساتنا، فوجع النزوح داخل البلاد أكبر بكثير من اللجوء خارجها، إنه يعني بالضرورة أن لا أحد يلتفت إليك سوى بعض الخيرين، مع غروب الشمس التفت الخيام على سكانها، وفاءت الأحلام إلى عيون الصغار الذين كانوا يرسلون مع كل نظرة دمعة، وهم يعلمون أن لا أحد يهمه أمرهم، فقد شاهدوا الكثيرين الذين نفلوا دروب مخيماتهم، دون أن يتألموا أو يفعلوا شيئا، تتحرك بنا السيارة في طرق وعرة لنصل إلى حافة المساء، ووراءنا كان الآلاف يذوبون مع المسافات وصراع السياسيين، الذين لا يتذكر أحدهم وهو يفرش مائدة طويلة تضم خمسة ملايين نازح شربوا القهر جراء سياسات عرجاء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©