الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جمع من الإبداع في مفرد

جمع من الإبداع في مفرد
7 ديسمبر 2016 19:03
نبيل سليمان في ديوان ميسون صقر (جمالي في الصور) 2012 نقرأ: «يا عالمي القديم/‏‏استعدْ رونق حكاية». ولعل هذين السطرين الشعريين يمثلا روح رواية (في فمي لؤلؤة) لهذه الشاعرة والفنانة التشكيلية والروائية. غير أن هذه الرواية تتوج هذا الثلاثي الذي هو ميسون صقر، بالباحثة أيضاً، مما ينادي القولة الشهيرة لناتالي ساروت، والتي جعلتها واحداً من شعاراتي منذ قرأتها: «الرواية بحث». فالرواية، وكما تؤشر بقوة (في فمي لؤلؤة) – وما أكثر قريناتها، وما أبدع – هي حكاية وأخيولات وشعرية و... وبحث/‏‏حفريات في التاريخ أو النفس أو أية جبلّة من جبلّاتها. في مكتبة والدها، تجد راوية الروائية (شمسة) كتاب (البحر ورحلات الغوص)، وهو بوصفها: متاهة الحكايات التي حفرت في دخيلتها أصواتاً وأساطير، وكانت حواسها جميعاً تنصت لصوت الجدة التي تحكي عن عالم الغواصين والنواخذة وشيوخ الطريقة والسيوب، عالم الظلم والمغامرة الوحشية والحرف الساحلية وسفن ومراكب الغوص والسفن التجارية التي تهرب العبيد والسلع والأسلحة. وإذا كانت ميسون صقر قادمة أيضاً من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – قسم السياسة، فشمسة تختار البحث الأكاديمي (البحر وصيد اللؤلؤ)، وتشرح خطتها العلمية لأستاذها المشرف عز الدين عبد الفتاح: سأعتمد كتابةً أشبه بالحكي – أنا في حالة كتابة مختلطة... لكن المشرف يشدد على أن تفصل ذاتها عن البحث، وعلى ألا تتدخل في حياة من تدرسهن، ثم يعلق على خطة البحث ممتدحاً، سوى أنه «لا مكان لها هنا». كانت شمسة منجذبة لعالم مذهل، لم تكتشفه جيداً، ولا تستطيع كتابته كما هو: مجرد صور وأمكنة وأشخاص. كانت تداور الكتابة كخيال في الذاكرة، وحكايات وقصص قد تكون (مخترعة). ولسوف تكتب يومياً، كأنها في سباق مع الزمن، فتتبلور الرواية – البحث بالكتابة، ولكن تظل (فكرة الاتساع الكوني ومفهوم الزمن والحب) تربكها. تتمحور اللعبة الروائية حول عقد الجدة – الذي تعثر عليه والدة شمسة في صندوق تحكي لها حكايته. ففي زمن بيع المسروقات في البيوت بوساطة الدلالات، اشترت الجدة من الدلالة كلثوم لؤلؤة، سيتبين البانيان (تاجر اللؤلؤ والذهب) أنها المفقودة من عقد فريد لديه. وبتناسل الحكايات والقصص واشتباكها، وبما يفيض به البحث/‏‏الحفر في تاريخ الغوص واللؤلؤ بالإمارات، تنهض رواية (في فمي لؤلؤة). حين يطوق العقد عنق الوالدة، تعلق الساردة أن العقد يحمل تاريخاً كبيراً من الوجع. وفي هذه البداية للرواية يأتي ما تحكيه الجدة لحفيدتها شمسة من حكاية (مرهون) وعشقه لمريم منذ الفتوة، مقابل عشق آمنة له. وسوف يطول الانتظار قبل أن يكشف النسيج الحكائي عن أن حكاية مرهون هي أيضاً حكاية اللؤلؤة المفقودة، وبالتالي: حكاية العقد. ولكن عبر ذلك لن يفتأ السرد يتوالد، ومنه أن الغواص مرهون الذي يعمل على سفينة النوخذة أبو حمد، يصطدم بجثة في قاع البحر، مما يورثه الخوف الذي تتقد الرواية في التعبير عنه. فهو خوف من العتمة في دخيلة الشاب الذي يتعلم الخوف من القول كما من الصمت، ومن النور كما من العتمة. قد تكون الجثة التي ارتطم بها مرهون جثة الشاعر خلفان الذي اختفى من على سفينة أبو حمد، أو واحدة من الجثث التي تتدافر على مدى الرواية، مما يؤثث عالم الغوص بالعظام البشرية وبالمحار، ويلون هذا العالم بالألوان الفاجعة والوحشية. ويتواشج مع خط مرهون في الرواية خط صديقه البحار البدوي محمد القادم من الجبل، والذي يروي لمرهون من تاريخ رهطه (الشحوح) ومساندتهم لحاكم جلفار في مواجهة بريطانيا. وهنا، كما بصدد الغوص واللؤلؤ يقوم التحدي الكبير للرواية، وهو تسريد المعلومة التاريخية أو العلمية. ومن ذلك أن البحر يصير شخصية تخاطب مرهون أو تسأله عن فاسكو دي جاما مثلاً، أو عن رحلات ابن ماجد... وحده مرهون من يغوص إلى أعماق أبعد. ولما تأخر مرة في الخروج بينما السيب (أي من يمسك بحبل الغواص في السفينة) يشده منبهاً، ظفر مرهون باللؤلؤة الفريدة التي أذهلت النوخذة، وبسبب سرقة الغواص غانم لها، قتله. ولسوف تقيم اللؤلؤة حيوات شخصيات روائية عدة، ولا تقعدها. فمرهون سيختفي من السفينة بعد عاصفة البحر الغدار والخداع. وسوف يظهر مع الشحوح وينبهر ببيوتهم المحفورة في الجبال. وإذا كان يوسف سيسرق اللؤلؤة الفريدة، ويودعها زوجته آمنة، فسوف تهرب منه آمنة، بالأحرى سوف تلهب طموحها صديقتها التي صارت القبطان كاترين، وتمضي معها إلى ما كانت تحلم به صغيرة. إذ كانت ترغب بمرافقة والدها الذي غرق مع أخويها، وحكى عنهم كل غواص حكايته. وقد كان الوالد يصدمها بقوله: «عالم الغوص للرجال، ليس فيه نساء أبداً». في الهند ستفارق آمنة صديقتها المتنكرة في هيئة رجل. وستصير آمنة نسخة من كاترين القوية والأكثر ذكورة، فتعمل بالتجارة على السفينة حتى يغلب الشك في كاترين كجاسوسة وكامرأة، فتتهم بالخيانة ويتم إعدامها، بينما تقيم آمنة في مدينة كيريلا (لؤلؤة الله) وتستقل بالتجارة مع الهندي آرام الذي يعشقها ويخونها عندما يظهر مرهون في حياتها، ويشاركها في التجارة فيعرفان بالتاجرين العربيين. لكن مرهون يرفض الإقامة مع آمنة، حتى إذا ظهر يوسف، انفتح في الرواية فصل جديد من المغامرة والبوليسية والانتقام. وكان يوسف قد صار النوخذه على سفينة أبو حمد بعدما تمرد عليه البحارة. ثم استقل يوسف بسفينة، وراح يبحث عن آمنة حتى يعثر عليها ويقتلها، فتتواصل لعنة اللؤلؤة المفقودة، وينجو مرهون ليعود إلى البحر بسفينة الغراب العمانية هاتفاً: «أنا أمير البحر، خليفة ابن ماجد»، ويعلن أنه سيسترجع قيماً مفقودة، ويقونن العمل بين الغواصين والنواخذه، فيجعل عماله شركاء له. لكن صوتهم يخاطبه بتأخره، وتبدل الزمن، وتغيرهم هم مع قدوم زمن النفط. سر الفن تقيم شمسة الإماراتية مع والدتها في القاهرة، بينما والدها الدبلوماسي في الصين. وفي الجامعة عاشت مع سامح علاقة حاول خلالها أن يمحو ما هي عليه – أن تتحجب مثلاً – وتكشّف لها عن شخص من ورق ومن نظريات فبترت العلاقة، ليسكنها عشق أستاذها عز الدين بينما يميل بها البحث إلى الرواية، فتنسكن شمسة بشخصية مرهون بخاصة، حتى ليبلغ الأمر أن تخاطبها صديقتها مروة: «يا شمسة أنت تتوهمين وتتحدثين عن شخصية غير موجودة إلا في خيالك». كما ستسأل سيدة شمسة بعد أن تشاهد فيلماً عن الغوص كتبت شمسة مادته: هل هذا وهم؟ فتجيب شمسة أنه بعض خيالات مع بعض واقع يندمجان، بلا زمن محدد ولا تاريخ صحيح. وهنا يقوم سر الفن في الرواية. وكانت مروة قد دعت شمسة إلى أن تكتب رواية، وعن الحب، مادامت عازمة على الكتابة. من سر الفن أيضاً أن المادة التاريخية التي جمعتها الباحثة أضحت غنية، ولكن ليس كمادة أرشيفية، بل كمادة معاشة من التجربة الإنسانية. وهنا يبدأ مفهوم التاريخ لدى الباحثة. إنه تاريخها المروي والمشاهد وحياتها الشخصية، والذي ارتبط بتاريخ المكان، لذا صار تاريخاً موازياً. ومن سر الفن ما أبدع شخصيات مرهون وآمنة ويوسف و... ووليم جورج الكاتب الإنجليزي الذي ظهر منذ البداية على سفينة النوخذة أبو حمد، يكتب ما يكمل بحث شمسة، فتنهض الرواية بصنيع شمسة وصنيع وليم، الذي كان يكتب يومياته عن السفينة، ورسائله إلى المعتمد البريطاني في الإمارة، وإلى صديقة جيرارد، ويسعى خلف أثر لحبه القديم. ولقد وصلت اللؤلؤة المفقودة إلى وليم، لكن يوسف سرقها منه، فما من أحد ينجو من لعنة اللؤلؤة، حتى هذا الرحالة الأديب صاحب الروايات المعروفة، ومنها رواية مفعمة بالروائح الهندية والحياة الخاصة لنساء الجنود في مناطق من آسيا وإفريقيا، كما تحدّث الساردة مما كتب وليم لجيرارد: «دعني أحكِ لك مثلاً عن بعض شخصيات تليق برواية»، ويحدثه عن مرهون وعن محمد الشحي. لإضاءة سر الفن في الرواية ينبغي أن يشار إلى ما يتخللها من تفكر الراوية فيها، وهو ما ينبض بفهم الكاتبة نفسها للرواية. ومن ذلك أن الرواية محض كتابة، لا تسير على منهج «أنا فقط أكتب ما لم أحدد ما هو». وأن الرواية مثل البحر: كل موجة حكاية، وكل حكاية سرد، وفيها شخوص وأماكن وتاريخ. لكن الرواية أيضاً أمر آخر. فشمسة تكتب كأنها تكشط جلد الكلمات بسكين. ومن أجل البحث، أي من أجل الرواية تمضي شمسة في رحلة إلى موطنها (الإمارات) مع صديقتها مروة التي تنتقل من حبيب إلى حبيب وقد هزمتها الحياة. تشارك شمسة في الإمارات في مؤتمر علمي حول الغوص، وهنا ينضاف إلى اللعبة الروائية الفصل الأخير، ففي مركز للوثائق في قصر الحصن، تقع على ما يثقل على الرواية بصفحات من المعلومات، لم يتوفر لها من التسريد ما توفر لما سبقتها وقد افتقر إلى ملحة التسريد أيضا الملخص التاريخي لتلبية الغواصين نداء الحرب، إذ يعودون من البحر ليحملوا السيوف فيما المدافع تطلق (الدانات)، والبنادق والأعلام والشارات ترتفع، والانقسام يوقع بين مدن الساحل ومدن الداخل، وبين البدو والشحوح، وهنا تتحاشى التأرخة الأسماء، ربما على سبيل التقية ومما افتقر أيضاً إلى ملحة التسريد، وإن يكن بدرجة أدنى، ما جاء عن الإبل العمانية مما حدّث به شمسة الدكتور البدوي، ومنه أيضاً ما طرأ على البدو بعد اكتشاف اللؤلؤ الصناعي، حيث سافر أغلبهم إلى الكويت وقطر للعمل في شركات النفط، قبل ظهوره في الإمارات. من قسم الموسيقى في وزارة الثقافة تأتي الباحثة بالمزيد لروايتها التي تضمنت متناصات كثيرة من الأغنيات والأشعار المتعلقة بالغوص واللؤلؤ، فضلاً عن المتناصات الصوفية لابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي. وإذا كان من المتناصات ما انسرب في متن الرواية، فمنها ما افتتح الفصول جميعاً، حيث المتناصات التوراتية والتاريخية والرحلية.... في الرحلة إلى الوطن تمضي شمسة إلى مزرعة شاعر نبطي في الصحراء، مع أصدقاء، فيشتبك في الرواية بحر الماء مع بحر الرمال وسيقترح عليها العاشق الجديد المخرج الإماراتي الذي شكّل فريقاً لجماعة الفن البصري في المجمع الثقافي، (سالم) أن تكون مساهمتها في مؤتمر الغوص (سردية مرئية) تكتبها هي وتضم صوراً وأغانٍ. ولا ننس هنا أن لميسون صقر فيلماً قصيراً هو (خيط وراء خيط)، وأنه قد سبق لها أن أنجزت سردية تشكيلية (السرد على هيئته) ومنها كانت معارض لها في القاهرة والإمارات والأردن. يرافق مؤتمر الغوص معرضاً للصور. وكانت شمسة قد سعت إلى المركز المتخصص بالصور القديمة في أدنوك، وفكرت في أن تستخدم الصور في رواية ما، وليس في البحث العتيد. وهذا مما لا يفتأ يتواتر في الرواية، تعزيزاً لما بين الفن/‏‏ اللعب الروائي وما بين البحث. أما الأهم هنا، والرواية تقترب من منتهاها، فهو ما رافق مؤتمر الغوص من معرض اللؤلؤ ومغاصاته، حيث اتقدت رسوم وحبات وأقراط وعقود اللؤلؤ، وتدفقت المعلومات، وصدحت خبرة الكاتبة باللؤلؤ. أثارت شمسة في المعرض والتلفزيون اللغط حول اللؤلؤة المفقودة من عقد والدتها الموروث من الجدة. فاللؤلؤة في المعرض، والوالدة ترفض بيع العقد للمتحف، بينما شمسة تجأر: ما أهمية عقد هو تاريخ للغبن والقهر. وفي هذا السياق تأتي رسائل شمسة إلى أستاذها، وفي واحدة منها تحدثه عن أن البحث العتيد صار البحث عن وجودها وقيمها ورغباتها، وتتساءل عن الغاية من العلم إن لم تكن تحقيق قيم إنسانية وحضارية. وفي الرسالة الأخيرة تكتب شمسة عن اللؤلؤ الذي ينبض كالقلب. وبدلاً من الرسالة تتمنى لو أنها تتحدث مع أستاذها وعاشقها ومعشوقها «وفي فمي لؤلؤة تحرك الكلام». وقبل ذلك كانت المغاصة الخامسة – أي الفصل الخامس، فالرواية توزعت على هيئة مغاصات /‏‏ فصول – قد حملت عنوان الرواية (في فمي لؤلؤة). لقد ذيلت الكاتبة روايتها بهوامش تضمنت شروحاً مطولة لأسماء وأشكال اللؤلؤ، ومتناصات من الشعر العربي في اللؤلؤ، وبسوى ذلك من المعلومات التي لم تجد لها مكاناً في متن الرواية. ولعل للمرء أن ينوه هنا برواية البحريني عبدالله خليفة (الهيرات – 1984) والهيرة مفردة الهيرات، وهي مكان الغوص لصيد المحار. كما تقتضي الإشارة إلى رواية الكويتية فوزية شويش السالم (النواخذة – 1999). وقد كان لهاتين الروايتين إنجازاً لافتاً يتصل بالعالم الروائي الذي شيدته ميسون صقر باقتدار في روايتها (في فمي لؤلؤة)، وتألقت فيها كروائية، قد توحدت فيها الباحثة والتشكيلية والشاعرة، كما يليق بالمبدعة المتميزة وبالإبداع المتميز. اللعبة الروائية تتمحور اللعبة الروائية حول عقد الجدة – الذي تعثر عليه والدة شمسة في صندوق تحكي لها حكايته. ففي زمن بيع المسروقات في البيوت بواسطة الدلالات، اشترت الجدة من الدلالة كلثوم لؤلؤة، سيتبين البانيان (تاجر اللؤلؤ والذهب) إنها المفقودة من عُقد فريد لديه. وبتناسل الحكايات والقصص واشتباكها، وبما يفيض به البحث/‏الحفر في تاريخ الغوص واللؤلؤ بالإمارات، تنهض رواية (في فمي لؤلؤة).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©