الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حين تتأمّل الصّين ذاتها

حين تتأمّل الصّين ذاتها
7 ديسمبر 2016 19:08
وُوَايْ ليانْ تشونغ ترجمة - أحمد حميدة إنّ الصّورة التي تحتفظ بها السّينمــــا الصّينيّة عن الثّورة الثّقافيّة لترتبط بشكـــل ملتبس بالتّجــــربة الموجـــعة والشّخصيّة للسّينمائيّين الذين عُرفوا في الصّين بـ«الجيل الخامس»، أولئك المبدعين الذين تخرّجوا في أكاديميّة الأفلام في بكين في 1982. لقد نشأ هؤلاء في بداية الخمسينيات، في أسَرٍ منتمية إلى عالم الفنـون والآداب وإلى الأوساط الجامعيّة، كانوا رجالاً ونساء في طور المـــراهقة، حين تهجّم عليهم وعلى عائلاتهم، الحزب الشّيوعي الصّينيّ، بتهمة «انتمائهم الطّبقيّ البغيض». وحتّى أولئك الذين التحقوا بالحرس الأحمر وأجبروا على اتّخاذ مواقف علنيّة مندّدة بأهلهم وذويهم لإثبات إخلاصهم للحزب، تركوا على الهامش، وعرفوا حينها أزمة انتماء.. حادّة. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ بعد الثّورة الثّقافيّة، التي دفعت بالكثيرين منهم، وبأمر من ماو، نحو الرّيف لكسب رزقهم بأيديهم، أصيب هؤلاء بخيبة أمل أليمة أمام «الإصلاحات» المحبطة والمزعومة لدانغ سياو بينغ: ففي ربيع بكين ما بين 1979-1980، سوف يُودَعُ المحتجّون في ظلام السّجون لسنوات طوال؛ وفي جوان 1989 ستسحق دبّابات الجيش الصّيني دون شفقة.. الانتفاضة الطلاّبيّة في بكين. وإن لم تتطرّق أفلامهم بعد ذلك، وبشكل صريح إلى الثّورة الثّقافيّة ذاتها، فإنّ المواضيع التي تناولها هذا الجيل من السّينمائيّين كانت دوماً شديدة الارتباط بذلك الحدث الصّادم. المخرج تشان كايج ومع ذلك يرى بعض النقّاد، من الصّينيّين خاصّة، أنّ مخرجين مثل زهانغ ييـمو وتشان كايج، منذ تحقيقهما نجاحاً عالميّاً في الثّمانينيات، لم تعد لتشغلهما غير الاستجابة لطلبات السّوق، مقدّمين صيناً غرائبيّة، تنتثر فيها قرى فاتنة، لا تزال تتواصل فيها عادات «إقطاعيّة» غريبة وفظّة. ويُـوجَّهُ إصبع الاتهام خاصّة لزهانغ ييـمو، الذي يؤخذ عليه انعزاله عن حركة التّحديث التي غدت تهزّ الصّين منذ 1978. والحال أنّ الكثير من أفلام ييـمو، تحتفي بحيويّة وحماس، بأولئك الذين احتفظوا بدنوّهم من الطّبيعة، فيما كانت أخلاقيّات الإصلاح تتمحور حول المدينة الكبرى.. مركز الحداثة والتقدّم. لقد أصبحت الصّين بعد الخراب الاقتصادي الذي خلّفته الثّورة الثّقافيّة تطمح إلى بناء ذاتها من جديد، وغدت بالتّالي تنبذ تماماً مبدأ المساواتيّة وبساطة الحياة الرّيفيّة التي كانت الدّعاية في الفترة الشّيوعيّة قد رفعتها إلى مرتبة النّموذج المثاليّ. ولا شيء قد يكون أكثر رثاثة في نظر أولئك المنتقدين.. المفتونين بالحداثة.. من الانتحاء الرّيفي في أفلام زهانغ ييـمو؛ ثمّ يخلُصون إلى أنّ هذا الأخير يتماهى بالنّهاية مع «الذّوق الأجنبي» حين عمل في أفلامه على رسم صورة «صينٍ مريّفةٍ». والحقيقة أنّه لو أحلنا إلى الدّوافع التّجاريّة وحدها، سبب الانجذاب الثّابت لزهانغ ييـمو إلى الرّيف، نكون بذلك قد تجاهلنا دور الطّبيعة والرّيف في أفلام هذا الأخير، وقد ندرك على نحو أفضل أعماله تلك، متى رأينا فيها ما يشبه إحياء لموضوع مألوف في الفلسفة وعلم الجمال الصّيني، الذي يرى أن لا تموضع للإنسان فوق الطّبيعة، وأن لا تضادّ بينه وبينها، لأنّه يشكّل أحد عناصر الثّالوث الكوني: السّماء - الأرض - الإنسان، فمتى عاش النّاس موصولين بالطّبيعة، تعـافَـوْا من الخوف والحزن والاكتئاب والتوتّر، الذي يسبّبه الانخراط في الحياة الجماعيّة، وفي الحالة المعاكسة، أي حين يبتعدون عن هذه الطّبيعة، فسرعان ما يتملّكهم الكبرياء والتّلهّف للسّلطة والنّفوذ، ويتفاقم بذلك عجزهم عن إقامة علاقات حبّ سويّة ومخلصة.. مع الآخر. فعندما أرسل زهانغ ييـمو وتشان كايج إلى الأرياف النّائية، اكتشفا هناك أن الطّبيعة قادرة على أن تبلسم الجراح التي يلحقها بنا الآخرون، وأنّها قد تساعد الإنسان الممزّق على بناء هويّته من جديد. ولننصت إلى ما يقوله شان كايج: «في كلّ مرّة كنت أغتسل فيها في الجدول المجاور للقرية، وحين كانت الأسماك تأتي لتلامس بنعومة أرجلي الموجوعة، كان ينتابني إحساس غامر بالسّكينة والارتياح، وحين شاهدتّ في الجبل أوراق الميموزا تنسحب وأنا ألامسها، أدركت معنى كلمة «الكبرياء» التي تتردّد على ألسنة النّاس. وإنّ تلك الورقة التي سقطت في الجدول، وكانت تحاول دون جدوى التحرّك عكس التيّار، هي التي دلّتني على معنى القدر». إن كان ثمّة مكان قد يشعر فيه المرء بالطّمأنينة، فهو بالنّسبة لي.. الجبل (...).. هناك أشفقتْ الطّبيعة على حزني، فعاد السّلام إلى قلبي، وألهمني الإجابة على تســـاؤلي.. من أكون؟ وهل أنا قانع بوجودي؟ وبدأت شيئاً فشيئاً أدرك خطورة ذلك السّؤال، ثمّ نزلت». إنّ التجربة المثيرة والمُربكة التي تولّد لدينا الإحساس بالتّسامي في رحاب الأرض والسّماء، في أوقات العزلة والإحباط، نجدها ماثلة في الأدب والفلسفة الصّينيّة، وخاصّة في الفكر الطّاوي، فالطبيعة في نظر الطّاويّة، تمتلك القدرة على بلسمة جراح الرّوح، والعودة بالإنسان إلى منابع الحياة، الحياة الكامنة في سرّه الحميم وفي الآفاق الكونيّة الرّحيبة، وتلك التّجربة التي أعـــاد زهانغ ييمو وتشان كايج اكتشافها، حين كانا يمرّان بالفترة الأكثر إيحاشاً في حياتهمـا، هي التي حدّدت صبغة ومذاق أعمال رائعة سوف تغيّــر، وبصورة دائمة، وجه السّينما الصّينيّة. الطّبيعة والصحّة النّفسيّة لقد اخترنا من بين جميع سينمائيي «الجيل الخامس»، البحث فحسب في سينما زهانغ ييـمو وتشان كايج، لضيق المجال من ناحية، ثمّ لأنّ أفلامهما تعدّ أبلغ الأمثلة عن أسلوب تقصّي للطّبيعة، باعتبارها أصلاً للهويّة الكونيّة المتاحة لأفراد طالهم التّهميش. وإنّنا لنلاحظ أنّ ذلك على علاقة وثيقة بماضيهم «كمثقّفين شبّان» دفع بهم الحزب الشّيوعي نحو الرّيف أثناء الثّورة الثّقـافيّة. فزهانغ ييـمو، المولود بكسيانغ سنة 1950، كان قد حُرم في مراهقته من كلّ اعتراف اجتماعيّ، لأنّ والده واثنين من عمومته كانوا من ضبّاط الجيش الوطني لتشيانغ كاي تشاك؛ وككلّ أفراد عائلته، كابد لسنوات طوال التّمييز والقمع على المستويين الاجتماعي والسّياسي، كما مُنع من الالتحاق بالحرس الأحمر وأُجبر على العمل في سَريِّةٍ فلاحيّة من 1966 إلى 1969. أمّا تشان كايج المولود ببكين سنة 1952، فقد كان هو الآخر ضحيّة انتمائه الطّبقيّ «الفاسد»، وقد وُسِم والده، الذي كان مخرجاً سينمائيّاً، بـ«اليمينيّ البغيض» سنة 1957، ليتعرّض بعد ذلك للإهانة أثناء الثّورة الثّقافيّة. أمّا الابن فحتّى يقدّم شواهد الإخلاص للحزب، انخرط في الحرس الأحمر، بل ذهب إلى حدّ التبرؤ من والده أثناء حصّة «نقد ذاتي»، واستجاب للنّداء الذي أطلقه ماو لإشاعة العمل الثّوريّ في الأرياف، ولكن.. وبعد مضيّ ثلاث سنوات قضّاها في ضيعة لزراعة المطّاط بإقليم يونّان، التحق بالجيش الأحمر للإفلات من ذلك العمل المتلف والمحبط. وفي النّهاية.. فإنّ كلّ تلك السّنين لم تضمن له أيّ اعتراف سياسيّ، بل إنّها زادت من معاناته، وضاعفت من ارتياباته تجاه النّظام. إنّ الموضوع الثّابت لأفلام هذين المخرجين هو ذلك التضادّ بين العقيدة الاشتراكيّة الجماعويّة، الذي يحول دون بناء فرد سويّ وأصيـل، واكتشاف الفرد لتلك الأصالة حين يسعى إلى التّصالح مع الطّبيعة. والشّخصيّة الرّئيسيّة للفيلم الشّهير لتشان كايج «أرض صفراء» يجسّم بوضوح الجانب الأوّل من تلك المعادلة. شريط «أرض صفراء» يتعلّق الأمر بجنديّ شيوعيّ متشدّد، وبالتّالي بإنسان عاجز عن قطع تلك الخطوة التي تقود إلى الأصالة. أرسل ذلك الجنديّ في مهمّة إلى منطقة فقيرة بهضبة الطّمْي، فغدا صديقاً لطفلين قرويّين، الشابّة كيكياو والشّابّ حنحان، اللذيْن كان يحدّثهما الجنديّ عن القاعدة الشّيوعيّة التي أتى منها، واصفاً إيّاها بالمكان المثاليّ الذي فيه.. تتحقّق الأخوّة والحريّة والمساواة، ولكن حين كان يعتزم الرّحيل، وكانت كيكياو تريد مرافقته.. رفض، بذريعة أنّ «القانون» يمنع ذلك. وكانت إجابته تجسم حقيقة الشّيوعيّة في الصّين، التي انطلقت من مثال يوتوبي، لتنتهي إلى دكتاتوريّة بيروقراطيّة مضطهدة للفلاّحين. وبعد أن غادر الجنديّ القرية، حاولت كيكاو اللّحاق به عابرة النّهر الأصفر.. فغرقت. وفي المشهد الأخير.. يعود الجنديّ إلى القرية أثناء أزمة جفاف حادّة، فأقبل عليه حنحان، شاقّاً بصعوبة طريقه إليه.. وسط جمهرة من الفلاّحين الذين كانوا يرقصون رقصة المطر احتفاء بالملك التنّين. وبدا المشهد وكأنّه يوحي بأنّ الطّفل، الذي يجسّد مستقبل الصّين، قد قطع مع الخرافات الرّيفيّة، وأنّه غدا يتوق إلى وعي حديث وعصريّ. ولكن.. متى تذكّرنا موقف الجنديّ السّالف الذّكر من كيكياو، أدركنا أن حنحان قد أخطأ: فالشّيوعيّة لا تقدّم إجابة على خرافات القرويّين، بل إنّها غدت هي الأخرى شكلاً من أشكال الخرافة. الحبّ والثّالوث الكونيّ لقد اشتهر زهانغ ييـمو في بادئ الأمر كمصوّر للفيلم الرّائد «واحد زائد ثمانية» الذي أخرج سنة 1984. وقد ساهمت اللّغة السّينمائيّة التي اعتمدها هو ورفاقه في هذا الشّريط، في صياغة الأساليب الجمــاليّة لدى «الجيل الخامس»، وخاصّة طريقتهم في المعالجة الملحميّة للمشهد الطّبيعيّ، وهنا تحديداً.. هضبة الطَّمْي المطلّة على النّهر الأصفر. وقد لاحظ النّاقد كرامر أنّ الشّخصيّات في هذا الشّريط لا تحتلّ قلب الشّاشة، وإنّما تنتثر عند أطرافها الأكثر بعداً، أو أنّها تكون متناهية في الصّغر وسط مشهد طبيعيّ رحيب. ففي الطّبيعة العذراء وحدها، حيث تتوارى العقائد السّياسيّة والأعراف الاجتماعيّة وتقلّ وطأتها، يصبح بإمكان المطارَدين من العدالة ومن التّاريخ، نسج علاقات فرديّة شفيفة، قائمة على البـراءة والإخلاص. وفي هذه الحالة وحدها يستعيدون إنسانيّتهم وقدرتهم على الاحتفاء بأنفسهم وتبجيل بعضهم البعض. وثمّة تجديد آخر في شريط «واحد زائد ثمانية»، ألا وُهوَ تجسيد هيئة القرويّ. فشخصيّات المساجين التّسعة الفارّين من العدالة، نراهم يرتدون خِـرقاً بالية، ولكن كلّ منهم يبدو متفرّداً في ملمحه، فيما تتباطأ الكاميرا في رصد أجسادهم، وتُبدي بصور مقرّبة الملامح القاسية لوجوههم. وفي توافق مع الفكر الصّينيّ العتيق، يكون زهانغ ييـمو قد جسم الإنسان كعالم صغير نابض، تحرّكه قوّة الحياة ذاتها التي تسري في العالم الأكبر، وذلك الذي يتخلّص من سطوة العقيدة ومن الحياة المسطّحة، الجماعيّة والمنظّمة، سرعان ما يستعيد طبيعته الأصليّة بشكل عفويّ، بتناغم تامّ مع الطّبيعة التي تحيط به، فيشعر حينها بنسغ منعش يـتدفّق من داخله. وفي شريط «الطّحين الأحمر» لزهانغ ييـمو، يقوم قرويّ شابّ، عنيد وبالغ الحيويّة، بتحدّي الأخلاق المألوفة في القرية، بإغواء أرملة شـابّة وفاتنة؛ وفي جسده القويّ والخشن، المتصلّب بفعل العمل، استيقظت قوّة حيويّة جعلته موصولاً بنظام الكون، ومنحته الجسارة والطّاقة الضّروريّتين للقطع مع أعراف المجتمع. وتلك القدرة المدهشة هي غريزة الحبّ الحسيّ. ويرى «شيلدون لُو» أنّ هذا الشّريط، يعيد بطريقة سينمائيّة، تحرير الطّاقة الغريزيّة النزويّة، التي تمثّل استعارة عن رجولة.. تستعيد كامل طاقتها للتحرّر من قمع سحيق. غير أنّ هذا التّأويل، المعتمد خاصّة على «سياسة الجسد»، يشوّش السّياق الرّوحيّ والكونيّ الأرحب، الذي أخرج فيه زهانغ ييـمو الجسد، محلّ الإثارة الجنسيّة. إنّ اكتشاف البطل للإثارة الجنسيّة هو اكتشاف لذاته، ووعيٌ مفاجئ بكينونته الرّوحيّة والعاطفيّة الأكثر حميميّة.. كإنسان، وهو أيضاً اكتشاف لوحدة الذّات مع الكون، أي إدراك لتلك اللّحظة المثيرة التي يشعر فيها المرء.. أنّ القوّة المهتاجة للحبّ الغريزيّ، هي في ذات الوقت قوّة الحياة التي تسري في الطّبيعة وتجعلها نابضة، وفي مقاومتهما لشجب المجتمع، واستجابتهما لنداء قلبيهما، يكون هذان العاشقان قد استعادا لا فحسب ذاتيّتهما، ولكن باتا يشعران أنّهما مقبلان على معانقة مبهجة مع الكون، فالاعتراض على مجتمع قسريّ لا يقود إلى تجزيء الأفراد، وإنّما يقودهم إلى حيث ينبض قلب الكون. الغربة بمنأى عن الطّبيعة متى كان التّيه في الطّبيعة منفلتاً من كلّ قيد، أنعش الجانب الأنْـفسَ فينا، أمّا اعتزال الطّبيعة، والعيش في وسط مغلق ومنظّم بصورة صارمة، فهو تدحرج نحو الأسـوأ، وذلك هو ما تتناوله الرّوائع السّينمائيّة لـ«الجيل الخامس»، مثل «الموكب المهيب» و«القمر الفاتن» لتشان كايج، أو «زوجات ومحظيّات»، «جو دو» و«ثالوث شنغاي» لزهانغ ييــمو. ففي «الموكب المهيب» كان على شبّان منتدبين في الجيش الخضوع لتدريبات قاسية، والإعداد لاستعراض مهيب بساحة تيان آن مان. كان هؤلاء الشبّان في بداية الأمر أفراداً، ثمّ تحوّلوا إلى كيان موحّد منضبط.. اختفت فيه كلّ سمة شخصيّة. ويبيّن تشان كايج أنّ القوّة والزّجر والعقاب لا تلعب من النّاحية العمليّة أيّما دور في ذلك التغيّر؛ فكما أسرهم، كان هؤلاء الشبّان يرومون الاعتماد على أنفسهم لإحراز النّجاح في تلك المهمّة الوطنيّة المشرّفة، فكان كلّ منهم يساعد ويدعم بقيّة رفقائه كيما يجنّبهم الخجل من أيّ فشل محتمل. هكذا.. وبشكل مأسوي، لم تعد العواطف الأكثر إنسانيّة لهؤلاء الشبّان.. كما مشاعر الصّداقة والإخلاص، لتنمّي فرديّتهم، فغدوا بذلك مجرّد قطع غيار في آلة لا إنسانيّة. وفي الفيلم الشّهير لزهانغ ييـمو «زوجات ومحظيّات»، كان الضّحايا، مجموعة من المحظيّات المحجوزات في بيت تقليديّ. وإن كان هؤلاء النّسوة يعشن حالة الرّفاه، فقد كنّ أسيرات سيّد فظّ.. غليظ، يوزّع حسب مزاجه الهبات والمُجازاة لإذكاء التّنافس والغيرة بينهنّ. وتدور أحداث الشّريط قبل الثّورة، غير أنّه بالإمكان اعتمادها كمثال على آليّات القهر الجماعي في الصّين الشّيوعيّة. وكما يشير إلى ذلك النّقد الثّقافي في الثّمانينيات، يلمح الشّريط إلى أن النّظام الشّيوعي بدل أن يحرّر الصّينيّين من وطأة الاستبداد الاجتمــــــاعي والسّياسي، كان قد ساهم على العكس من ذلك في استشراء ظاهرة الاستبداد. فلئن كان الحبّ الحسيّ يقترن بحبّ حقيقيّ وتحرّر روحيّ فعليّ، ويشكّل سبيلاً للتوحّد مع الأرض والسّماء، فإنّ العلاقة الجسدية بين السيّد والمحظيّات لا تمثّل سوى صورة هزليّة لا إنسانيّة، شائنة وقبيحة للمحبّة. فشخصيّة المحظيّة، التي تعيش حالة الرّعب، وهي محاطة بالممنوعات والمؤامرات الماكرة، تجسّد الوجود المخيف لأولئك الذين ينخرطون في تراتبيّة اجتماعيّة ضاغطة وخاضعة لسلطة قاهرة.. مطلقة. وفي شريط «ثالوث شنغاي» يتناول زهانغ ييـمو الموضوع نفسه، ولكن من زاوية مختلفة، ففي شنغاي السنوات الثّلاثين، التجأ رئيس عصابة إلى جزيرة ساحليّة صغرى مع عشيقته جيمبو، فراراً من أعداء كانوا يتربّصون به ويهدّدونه بالقتل. وفي تلك الجزيرة، وجدت جيمبو الهدوء والسّكينة.. حيث يتمايل ريش القصب في الرّيح بدلال، وحيث تُسمع للماء وشوشة وهو ينساب بين الخيزران. فنرى مرأى العين كيف أنّ الطّبيعة جعلت من جيمبو، تلك المغنّية والرّاقصة الخليعة في النّوادي اللّيليّة، الفاتنة والمتشامخة، كائناً آخر، وكيف غدت من جديد المرأة الحنون والدمثة التي كانت في ما مضى من الأيام، فنراها تسعى إلى مصادقة الفلاّحين وتنضو عنها ثوب التصنّع والمكر والخيلاء، غير أن المواجهة الدّمويّة من أجل النّفوذ بين زعماء الثّالوث، طالت هذه المرّة الجزيرة، وآل إلى إشاعة الموت فيها، وتبدو الإحالة على «الوثبة الكبرى إلى الأمام» وعلى الثّورة الثّقافيّة هنا.. بيّنة وصريحة. وخلافاً لما جاء في شريط «الطّحين الأحمر»، لم تكن الغلبة هنا للطّبيعة، وإنّما للغرور والعجرفة والتلهّف على السّلطة. وفي شريط آخر لزهانغ ييـمو، «جو دو»، كانت مُحاولةَ الشّخصيّة المركزيّة للإفلات من اضطهاد المجتمع قد تحوّلت إلى كارثة. لقد أرغمت الفتاة على التزوّج من رجل فظّ ومسنّ، فجعلها ذلك تقيم علاقة غير شرعيّة مع ابن أخيها وتحمل منه ابناً، وحين كبر هذا الأخير، اعتقد أنّه ابن الرّجل المسنّ، فـدفعه ذلك إلى قتل تيانكيغ، وقتل الزّوج بطريقة عرضيّة. هكذا.. ففيما كان الاحتفاء بالحبّ يمثّل سبيلاً للتحرّر ورفعة الفرد في «الطّحين الأحمر»، كانت النّتيجة هي الموت في «جو دو». لقد كان التّعارض بين أجواء الفرح في «الطّحين الأحمر»، بمشاهده الخارجيّة المدهشة، والأجواء القاتمة لبيوت «زوجات ومحظيّات» و«جو دو»، دالاً حسب شيلدون لُو على التّشاؤم المنجـرّ عن مذبحة تيان آنْ مان سنة 1989، وعلى زيف حركة الإصلاح في الصّين زمن دانــــغ زياو بينـــــغ، ونلمس في أعمال تشان كايج نفس الاختلاف بين شريطي «الملك والأطفال» (1987) و«القمر الفاتن» (1995)، ففي الشّريط الأوّل اكتشف معلّم أرســــــل إلى الرّيف من قبــــل ماو، وخلافاً لما كان يتوقّع، إنسانيّته في السّهول والجبال البعيدة عن كلّ أثر للحضارة. وفي «القمر الفاتن» تمّ على العكس من ذلك، تجريد شابّ من رجولته، قبل أن يسحق بقساوة الوسط العائليّ التّقليدي.. الذي يعيش منغلقاً على ذاته، على أنّ زهانغ ييـمو كان قد تجاوز تلك الحقبة القاتمة. ففي شريط «كيو جو» عاد إلى القرية كرحم تحتضن العلاقات الأصيلة بين البشر، معارضاً بذلك الاهتمامات الموتّرة على النّظام والنّفوذ الذي غدا يسود مدن صين الإصلاح. عود إلى القرية يعرّفنا شريط «كيوجو» على قرويّة بسيطة ونشيطة، كان زوجها قد ضُرب من قبل زعيم القرية، فسعت بعناد كيما يحظى زوجها بحكم عــــادل، واضطرّها ذلك الحرص إلى السّفــــــر إلى العاصمة بكين، وكان زهانغ ييـمو هنا مستكشفاً لطبيعة التضادّ بين القرية والمدينة، ولكن بطريقة مختلفة، وبأسلوب واقعيّ يكاد يكون وثائقيّاً. وقد التجأ لهذا الغرض إلى ممثلين كُـثْـر كانوا من غير المحترفين. ويقدّم لنا الحياة في القرية على أنّها قائمة على العلاقات الشّخصيّة والتّآزر بين السكّان، فيما كانت العاصمة تُسيَّر بإدارة بيروقراطيّة وقوانين متلفة. وكانت نتيجة حرص كيو جو، أن سمحت لجهاز الشّرطة المدنيّة بالتدخّل في شؤون ذلك المجتمع القروي. وفي المشهد الختاميّ تتساءل كيو جو عن مدى جدوى سعيها ذاك. ولئن وصف العالم الرّيفيّ بصورة إيجابيّة، فإن استعمال الكاميرا الذي يكاد يكون وثائقيّاً، لا يسمح على مستوى تمجيد الرّيف، ببلوغ الذّرى الملحميّة التي أدركها شريط «الطّحين الأحمر»؛ ولئن كان النّقد الاجتماعيّ موفّقاً، فإنّه كان لا يؤدّي دوراً ذا معنى. كانت كيوجو تقود بجسارة مقاومتها للنّظام الاجتماعيّ الجائر، وكانت تستمدّ قوّتها من إحساسها الذّاتيّ بالعدالة، ولا من اندماج في الواقع المعيش كمـا عشّاق «الطّحين الأحمر»، وقد نستنتج أنّ الدّافع الأخلاقيّ كمُتابعة العدالة، ليست له قدرة غريزة الحبّ لتوحيد الإنسان والطّبيعة، وسوف يبيّن زهانغ ييـمو في شريط «خطوة أقلّ» أنّ هذا الأمر ممكن. يعرّفنا شريط «خطوة أقلّ» على فتاة في الثّالثة عشرة، وايْ مِنْـزِهِي، كان عليها تعويض معلّم اضطرّ إلى التغيّب لأسباب قاهرة، ذلك أنّ الفقر المدقع لهذه القرية لم يكن ليسمح لها بانتداب معلّم مختصّ. وحين فرّ أحد تلامذتها إلى المدينة لكسب بعض المال، انطلقت مِـنْزهي متعقّبة إيّاه مَشْياً على الأقدام عبر الجبال، إذ كانت قد وعدت المعلّم العجوز بالمدرسة على أن تعمل كي لا يتخلّى أيّ من التّلاميذ عن المدرسة أثناء غيابه. وما إن أدركت العاصمة، حتى اضطرّت إلى التسوّل؛ وكانت كلّما لاذت بالسّلطات، كان مآلها التّأنيب والتّجاهل. وتوفّقت أخيراً في جلب اهتمام محطّة تلفزيّة لمعاناتها، وعثرت على هُويكْ ؛ وأوفدت المحطّة فريقاً إلى القرية، كشف بطريقة مجلجلة عن مدى تعاسة المدرسة المحلّية، فكانت النّتيجة أن انطلقت في كلّ البلاد حملة وطنيّة لجمع الأموال، وتحوّل الشـابّان إلى بطلين وطنيّين. بشكل ساخر، كان هذا الشّريط قد انتقد بشدّة بـؤس المدارس الرّيفيّة، لا مبالاة بيروقراطيّة المدن وسطحيّة الإعلام. وكان المشهد الذي تبدّت فيه منزهي وهي تحثّ الخطى عبر الجبال، تلفحها شمس حارقة، والعرق يتصبّب من محيّاها، متضادّاً مع مشهد المدينة، حيث كان القرويّان مذعورين وتائهين بين الجموع الغفيرة المحتشدة بالشّوارع. وكانت مينزهي تستمدّ قوّتها من تصميمها على الإيفاء بوعدها، ومن المناصرة الصّامتة للطّبيعة. ويوضّح زهانغ ييـمو أنّ الأمانة كما غريزة الحبّ، هي الطّريق الملكيّة للتوحّد مع الأرض والسّماء. يرى زهانغ ييـمو أنّ حلم الإنسانيّة ليس هو الثّورة من أجل بلوغ أهداف طوباويّة مثل بناء الشّيوعيّة، وأنّ ما ينشده الإنسان حقيقة هو تنمية مُـثُـلٍ فرديّة تجعله وفيّاً لكلّ أولئك الذين يحبّهم؛ وقد أبدع في رسم الأشياء والمشاعر الأكثر بساطة في الحياة بأسلوب غنائيّ آسر. أمّا الرّسالة التي تحملها أعماله، فهي في الأساس رسالة صينيّة: الحياة بسيطة في جوهرها، وحين يعيشها المرء بامتلاء، تغدو هذه الحياة جليلة ومهيبة. لقد أعاد زهانغ ييـمو وتشان كايج اكتشاف مكانة الإنسان في الطّبيعة، ولكنّهما بـيّـنا، وفق الفكر الصّينيّ القديم، أنّه لا يكفي أن نعيش قرب الطّبيعة كيما نظفر بأصالتنا كبشر، لأنّ الأهمّ من ذلك هو أن نستلهم ما تنطوي عليه الطّبيعة من انسجام وتناغم، لنتطهّر من الأعراف الزّائفة والعقائد المضلّلة، ومن إرادة التسّلط الكامنة فينا. الرسالة: الحياة مهيبة يرى زهانغ ييمو أنّ حلم الإنسانيّة ليست هو الثّورة من أجل بلوغ أهداف طوباويّة مثل بناء الشّيوعيّة، وأنّ ما ينشده الإنسان حقيقة هو تنمية مُثُلٍ فرديّة تجعله وفيّاً لكلّ أولئك الذين يحبّهم، وقد أبدع في رسم الأشياء والمشاعر الأكثر بساطة في الحياة بأسلوب غنائيّ آسر. أمّا الرّسالة التي تحملها أعماله، فهي في الأساس رسالة صينيّة: الحياة بسيطة في جوهرها، وحين يعيشها المرء بامتلاء، تغدو هذه الحياة جليلة ومهيبة. تحرّر من الزيف أعاد زهانغ ييمو وتشان كايج اكتشاف مكانة الإنسان في الطّبيعة، ولكنّهما بيّنا، وفق الفكر الصّينيّ القديم، أنّه لا يكفي أن نعيش قرب الطّبيعة كيما نظفر بأصالتنا كبشر، لأنّ الأهمّ من ذلك هو أن نستلهم ما تنطوي عليه الطّبيعة من انسجام وتناغم، لنتطهّر من الأعراف الزّائفة والعقائد المضلّلة، ومن إرادة التسّلط الكامنة فينا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©