الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الروحانيات والوعي بالجهل

الروحانيات والوعي بالجهل
17 يوليو 2014 00:42
منتصر حمادة* لننطلق من مُسَلمة تساعدنا على إبراز الدور المفصلي للروحانيات في الإبداع، أيا كانت معالم هذا الإبداع، في الأدب أو الفن أو العلوم: تفيد هذه المُسَلمة أن «الإنسان كائن مُركّب»، بتعبير إنشتاين، ومن علامات هذا التعقيد المُميز للظاهرة الإنسانية بشكل عام، أنه يعيش دوماً تماهياً بين ظاهره وباطنه، أو بين الظاهر المادي والباطن الملكوتي أو الروحي، ومن يُغيّب جانبا على حساب آخر في معرض التعبير عن كينونة هذه الظاهرة، يسقط حتما في فخ الاختزال، من حيث يدري أو لا يدري. ليس هذا وحسب، كلما لجأ المبدع إلى المفاتيح الروحانية، كلما كان خطابه الإبداعي كونيا وإنسانيا وجامعا، (لنتذكر أن نبي الإسلام عليه السلام، بُعثَ رحمة للعالمين)، ومرد هذا السمو الإنساني والرقي الكوني الذي يُميز العمل الإبداعي المتشبع بالروحانيات، كون الخطاب الروحاني أو الملكوتي، يراهن على الإشارة، وعلى الذوق ويخاطب باطن المتلقي بشكل خفي ولكن مباشر، أيا كان مرجعيته وهويته، وهذا أمر نعاينه في العديد من الأمثلة، وبين أيدينا نموذج دال في هذا الصدد؛ يتعلق بفن القوالي (Qawali)، وهو نوع من الموسيقى الروحية منتشر على الخصوص في باكستان والهند وأفغانستان، وبالطبع، منتشر في المناطق التي لا يوجد فيها إسلاميون، (من التيار الإخواني أو السلفي)، لأنه هذا التيار، للمفارقة، له قلاقل وجودية مع الموسيقى من جهة، ومع العمل الإبداعي الذي ينهل من مرجعية روحانية من جهة ثانية، وبالتالي يعاني من أزمة مركبة في هذا المضمار. حري بنا التساؤل عن سر السمو الروحي الذي ينبعث من فن القوالي هناك في شبه الجزيرة الهندية، مع إبداعات الراحل نصرت فاتح علي خان (من باكستان)، الإخوان صبري (باكستان أيضا)، أو الأفغانية فريدة مهواش، على سبيل المثال لا الحصر: نحن، الناطقين باللغة العربية، لا نفهم شيئاً في اللغة التي يتغنى بها أهل موسيقى القوالي، وهي لغة الأردو، اللهم إن استثنينا التغني باسم الجلالة أو بالرسول الأعظم، أو العروج بين الفينة والأخرى، على أسماء الله الحسنى كما هو الحال في إحدى روائع قوالي الإخوان صبري، ولكن، بالرغم من ذلك، فإن عشاق هذا الفن، من «خارج» المجال التداولي الهندي والباكستاني والأفغاني، يروق لهم الاستماع إلى الإيقاعات الروحانية لمقاطع القوالي، بل نجد جمهورا أوروبيا (مسيحيا أو يهوديا مثلا)، يتمايل ويتفاعل بشكل إيجابي ومثير مع أعمال نصرت فاتح علي خان، في السهرات الفنية التي شارك فيها الراحل هناك، دون الحديث عن توظيف بعض مخرجي مؤسسة هوليوود لموسيقى هذا الفنان بالذات، في بعض الأعمال السينمائية النوعية، نذكر منها فيلم (Dead Man Walkink). وبسبب سمو الأعمال الإبداعية التي تنهل من مرجعية روحانية، يكثر الحديث عن وجود قواسم مشتركة بين الظاهرة الفنية (مثلا) والظاهرة الدينية، ومن لم يُسلم ببعض هذه القواسم، سيجد صعوبات جمة مثلا في التفاعل الإيجابي مع تناول المفكر البوسني الراحل، علي عزت بيغوفيتش للإبداع الذي ينهل من مرجعية روحانية، ولو أنه تحدث فقط عن حالة الإبداع المسيحي (بحكم إنه كان مقيما في البوسنة الأوروبية)، أو الإبداع الإسلامي (بحكم إنه مسلم الديانة)، إلى درجة جعلته يخلُص إلى أنه من «مهام الدين والفن والفلسفة توجيه نظر الإنسان إلى التساؤلات والألغاز والأسرار. وقد يؤدي هذا أحيانا إلى معرفة ما، ولكن في أغلب الأحيان يؤدي إلى وعي بجهلنا»، كما نقرأ له في كتابه التحفة الذي يحمل عنوان: «الإسلام بين الشرق والغرب». إن ما يخبرنا به العمل الإبداعي الذي ينهل مرجعية روحانية، شيء يفوق قدرتنا على التصديق، بتعبير الراحل، كأننا إزاء رسالة دينية، كما هو الحال مع اللوحات الجصية اليابانية القديمة، أو قطعة من فن الأرابيسك الإسلامي على مدخل فناء قصر الحمراء بغرناطة، أو قناع من جزر الميلانيزيا، أو رقصات قبيلة في أوغندا، أو لوحة يوم الحساب لمايكل أنجلو.. وهذا تقييم يتقاطع مع ما خلُصَ إليه قس مسيحي أميركي، يتعلق الأمر بهوستن سميث، والذي مباشرة بعد اختتام عزف أغنية روحية على إيقاع آلة «الترومبون»، ارتحلت مع آلام ثلاثة قرون من معاناة الزنوج في أمريكا، التفت أحد أصدقائه ــ كما نقرأ في كتابه «لماذا الدين ضرورة حتمية؟» ــ مؤكداً أن صديقه هذا لا يبدو أنه «كان متدينا» ــ سيُصرّح مع ذلك: أن الفرقة الموسيقية لم تكن تعزف تلك الأغنية، وإنما كانت تصلّي بالحضور. * كاتب مغربي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©