السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هيفاوات العصر... شهود تزوير الجمال

هيفاوات العصر... شهود تزوير الجمال
29 سبتمبر 2010 20:15
في الجوهر والماهية تعتبر فكرة الجمال فكرة بالغة التعقيد ومصدراً نموذجياً لازدهار الجدل الفكري والفلسفي.. وقد أثارت من المعارك الكلامية والنظرية الكثير... وبعيداً عن الأساس البراجماتي الذي استند إليه جون ديوي في نظريته المعرفية التي تناولت مفهوم الجمال، أو فلسفة الروح التي فضل كروتشه تناوله من خلالها، أو النظرة الأفلاطونية أو تعقيدات فرويد والتحليليين أو اختلافات الفلاسفة حول استاتيكية الجمال أو ديناميكيته أو حتى التنظيرات حول علاقة الجمال بالمنفعة والقيمة لا يكاد يتفق اثنان على مفهوم الجمال الذي ظل غامضاً ومصدر إشكال معرفي حقيقي. ذلك أن الجمال كمفهوم يخضع لشبكة معقدة من العلاقات المتداخلة والمتباينة والعوامل الذاتية والموضوعية والمادية والمعنوية والحسية والمجردة، ناهيك عن طبيعة الثقافة السائدة والقيم والمعايير ومستوى الوعي الفردي وطريقة العقل الجمعي في التفكير بهذه المسألة، وكلها آليات نفسية بشرية يصعب رصد الكيفية التي تعمل بها. بالرغم من هذا الاختلاف إلا أن كل المذاهب على اختلافها اتفقت على أن العلاقة بين المرأة والجمال هي علاقة توأمية وأنهما متواشجان على نحو لا يمكن الفصل بينهما، حتى إن الأنثى أصبحت رمزاً للجمال وصار الجمال يتجسد مادياً في الجسد الأنثوي. وظلت العلاقة بينهما علاقة أسطورية بالمعنيين: التاريخي والجمالي. ورغم كل ما أحاط بالمرأة وجسدها تحديداً من غموض وما انصب على رأسها من لعنات واتهامات اعتبرتها كائنا إغوائياً وسبباً للآثام والشرور ظل هذا الكائن يثير حيرة الجملة العصبية للبشرية وإعجابها في الآن نفسه. أكثر من ذلك برزت نماذج أنثوية جمالية اعتبرت مثالاً للجمال الكامل بعضهن وضعن في مصاف الآلهة مثل “فينوس” و”اللات والعزى ومناة” التي يقال إن العرب عبدوهن لجمالهن، وظل بعضهن الآخر كائناً أرضياً من لحم ودم لكنهن من الجمال بحيث تحولن إلى أسطورة من أساطيره، تصنع لهن التماثيل وترسم لهن اللوحات، ولعل أشهرهن على الإطلاق الملكة المصرية ذائعة الصيت والجمال: نفرتيتي أو جميلة الجميلات التي يعنى اسمها “الجميلة أتت” أو الجميلة أقبلت. وهي زوجة الملك أمنحوتب الرابع (أخناتون) فرعون الأسرة الثامنة عشرة الشهير. وتشتهر نفرتيتى بالتمثال النصفى لوجهها المصور والمنحوت على قطعة من الحجر الجيرى في واحدة من أروع القطع الفنية من العصر القديم، وهو أشهر رسم لها. عثر عليه عالم المصريات الألماني لودفيك بورشاردت. وهو تمثال نصفى يتجاوز عمره 3300 عام. ملون مصنوع من الحجر الجيري والجص، حيث يصور بدقة مفاتن امرأة رائعة الجمال، بوجه جذاب، وعنق طويل، وأنف دقيق، ووجنتين بارزتين، ترتدي غطاء رأس فريد مخروطي الشكل، وكان ذلك هو ما منحها لقب (نفرو نفرو أتون) بمعنى (جميلة جمال أتون). كانت دائماً تلبس ثوباً رقيقاً طويلاً وتاجاً ذا ريشتين مرّة، وأخرى بتاج ذي ريشتين وتحته قرص الشمس، فهي لم تكن ملكة فقط بل تمتّعت بمركز ديني رفيع. وينظر لها على أنها كانت إحدى أقوى النساء في مصر القديمة، وقد مارست دوراً سياسياً ودينياً كبيراً علاوة على جمالها الفاتن. إلا حضارتنا! في كل هذه الحالات والحقب التاريخية بقي مفهوم الجمال نسبياً، ولم تتفق الحضارات ولا الثقافات المختلفة على ملامح معينة ومقاييس استاتيكية للجمال في كل عصورها وحقبها التاريخية، وظلت لكل ثقافة نظرتها الى جمال المرأة الذي وجد هو الآخر اختلافاً هائلاً بين الفلاسفة والمفكرين على مختلف مشاربهم وأهوائهم ورؤاهم، بحيث لا يبدو من المبالغة في شيء القول إن جمال المرأة مما لا يتفق عليه... إلا حضارتنا الموقرة؛ لم تبال بأي من هذه الاختلافات المقدرة، وأخذت على عاتقها، هكذا من رأسها وبقرار تاريخي فردي لا علاقة له بالديموقراطية، التي تعتبر من مفاصل بنيتها الأساسية وجزءاً جوهرياً من جهازها العصبي والمفاهيمي، من قريب أو بعيد. لم تشاور أحداً بل وربما لم يكن متاحاً لها ترف الرفض أو القبول، لأن الكلمة العليا في هذا الأمر للسوق ومعاييرها.. هذه السوق التي يبدو أنها تجاوزت وجمحت وانطلقت بحيث هرست في طريقها كل شيء ووظفت من اجل مصالحها كل شيء وأعلنت نفسها السيدة الأولى والحاكمة بأمر البشرية التي ليس عليها سوى الخضوع والقبول بما تقترحه هي من مقاييس ومعايير ليس في جمال المرأة فقط بل في شتى مناحي الحياة.. ولم تكن الحضارة التي نعيشها سوى منتج لهذه السوق العالمية التي قدمت لنا مخلوقاً مشوهاً لا يعرف إلا مفهوماً أحادياً لجمال المرأة.. أما تنظيرات الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع فلتذهب إلى الجحيم، وعلى من لا يعجبه الأمر الذهاب الى أقرب بحر لـ... يشرب منه فإن لم يجد فأمامه الجدران وهي متوفرة بكثرة وعالية إلى الحد الذي يسمح له أن ينطح فيها رأسه كما يهوى. الجسد.. كلمة السرّ إذا كان المفهوم الفلسفي للجمال قد عذب البشرية كثيراً فإن الجمال الأنثوي على ما يبدو لم يكن صعباً الى هذا الحد في عقيدة صناع النجوم في هوليوود أو مقلديهم والمتشبهين بهم في السينمات الأخرى، فالوصفة هنا جاهزة والمقاييس اوضح من عين الشمس لا لبس فيها ولا غموض، ولا تحتاج الى موقف تنظيري أو تعقيد مفاهيمي. المسألة في غاية البساطة وكلمة السر هي: الجسد، فالقد الممشوق الذي جرت صياغته على هوى مصممي الأزياء وروجت له العارضات لا يحتمل اللبس أو الغموض ومحسوب بالجرام والسنتميتر... والجميلة هي: شقراء، نحيلة، فارعة القوام، ممتلئة الشفتين، مغوية أو مغرية وتشبه مارلين مونرو أو إنجلينا جولي أو غيرهما ممن تم طرحهن كنموذج جمالي تلهث النساء وراء التشبه به. لقد جرى تصوير شهيرات السينما والغناء والفن وملكات الجمال وكأنهن نساء من كوكب آخر، وبدا أحياناً أنهن كائنات تسير على رصيف اسمه: الخيال. هذه الصورة النمطية التي سعت السينما بداية الى تكريسها ثم تبعتها الفضائيات ودور الأزياء وشركات التجميل وعيادات محاربة البدانة ليست بريئة على الإطلاق، ولا تبتعد كثيراً عن الصياغة العولمية للشخصية الإنسانية، هذه الصياغة التي عولمت كل شيء بما في ذلك جسد المرأة وربطت الثقافات والفنون والجمال وحتى الأحاسيس بميكانيكية السوق. ويبدو أن سيدة العالم الأولى: العولمة لا ترى في الجمال سوى مظاهره المادية لهذا جاءت جميلات الشاشة من طراز واحد وعلى نمط واحد. الغريب أن العولمة نجحت وعلى نحو يجعل الإنسان يفغر فاه في تحقيق ما رمت إليه رغم أن معظم الفلاسفة والباحثين في علم الجمال اتفقوا على صعوبة وضع قواعد موضوعية أو مقاييس نهائية ومطلقة للجمال، وظلوا يتحدثون عن أن الذوق الفردي أمر مهم في الحكم على الجمال أو القبح، فكيف جرت صياغة الذوق العام ليقبل هذه الصورة النمطية للمرأة الجميلة وكيف تمكنت حضارة “الساندويتش” و”الفاست فوود” من تغييب الذوق الفردي وتحييده بل وإفساده؟ لقد جرى إنتاج صورة المرأة الجميلة في إطار النسق العولمي المحكوم بعلاقات السوق والنزعة الاستهلاكية التي تميز خطابه الثقافي إن كان له ثمة خطاب... وفي السوق يصبح كل شيء خاضعا لقانون المال والربح. وهكذا نشأت صناعة ضخمة تقدر عوائدها بالمليارات هي صناعة الجمال ممثلة في مساحيق التجميل وكريماته وأقنعته (ماسكاته) وأخواتها، ثم تطور الأمر لأن بئر الجشع ليس لها قرار فكان أن اخترعوا فرية أخرى هي عمليات التنحيف والتخسيس لتنهال مليارات ما لها حساب، ثم طلبت البئر أكثر فتفتقت القرائح عن عمليات التجميل التي أصابت بعض بنات حواء بلوثة حقيقية وقادتها كالعادة الفنانات والمطربات. والآن يتحدث خبراء الجمال عن (اللذاذة) وليس الجمال فقط، بمعنى أن تكون المرأة لذيذة كما لو أنها طبقاً أو وجبة ربما على طريقة الهمبرغر أو الهوت دوغ... والحبل على الجرار ما دامت المرأة تصدق وتجري بشكل هستيري وراء أكاذيبهم. عطّار مودرن! النساء، بوعي أو دون وعي وبضغط النظرة السائدة الى الجمال في الغالب، وقعن في براثن هذا الخطاب التسليعي وأصحبن حبيسات هذا النموذج السطحي الذي طغى على كل ما عداه. والنتيجة أن المرأة تبدأ في حرب لا تنتهي - إلا بانتهاء أجلها - مع البدانة، وفي معركة دائمة للحصول على الجسد النموذج. تجري بأقصى طاقتها لتكتشف أنها لا تزال في نفس المكان أو ربما تراجعت إلى الوراء فتدخل في دوامات الكآبة وينشب فيها الكلب الأسود مخالبه، كل هذا لكي تحظى بلقب: جميلة، فيما هي تراقب جسدها بانزعاج، كما لو أنه حليف لا يُعتمد عليه في معركة الحياة المصيرية هذه، وفي هذا بشاعة لا وصف لحدودها، وهدر وامتهان لإنسانيتها وكرامتها البشرية... إنها حرب لا إنسانية بالمرة لأن الجسد ببساطة كائن متغير لا يثبت على حال، وهو قابل لكي يمرض ويتجعد ويستضيف الهالات السوداء والدوالي وغيرها مما يترك آثاره عليه، يعني: الجسد ليس رهاناً رابحاً بالمرة لأن لديه قابلية هائلة على الخيانة (الخيانة هنا هي البدانة والسمنة والترهل والتجاعيد التي تهدد الصورة النمطية لجمال الجسد) وبالتالي لن يعين حواء في الحفاظ على تلك المعمارية الجسدية التي تحلم بالاحتفاظ بها، وذلك القد المياس الذي يشبه عوداً من الريحان أو الخيزران. إنها كذبة كبرى تسوقها آلة جهنمية عن جسد أسطوري لا يتبدل، جسد رخامي لا يعرف الأعراض والأحوال ولا ما يسري على البشر من سنن الحياة... وهمٌ كامل يأتيه الباطل من كل مكان لكن المرأة لا تريد أن تصدق وتمعن في قهر نفسها لكي تحصل على النموذج المحلوم به ضاربة عرض الحائط بتلك الحكمة القديمة التي تركها لنا السلف: “لن يصلح العطار ما أفسد الدهر”، ربما لأن شركات التجميل ودور الأزياء تعمل في الاتجاه المعاكس لهذا المعنى تماماً، وتوهم المرأة الساعية وراء الجمال الشكلي بأن مساحيق التجميل وكريمات الترطيب والتغذية والمساجات وعمليات التجميل بإمكانها أن تعيد “الشيخة إلى صباها”، وأن تجعل من المرأة الخمسينية شابة في ريعان الصبا!. بالطبع، جمهور غفير من النساء يصدقن أو (يرغبن في أن يصدقن) أن المثل الشعبي خاطئ مائة في المائة، وأن بإمكان “العطار” وهو في هذه الأيام حقن البوتكس وعمليات التجميل وأسماء أخرى كثيرة لم يتح لي شرف معرفتها يستطيع بإمكاناته الحديثة أن يصلح ما أفسد الدهر وزيادة! لكن، وعلى طريقة شهد شاهد من أهله، يخرج أحياناً من بين هذا النظام الضخم من يكشف الزيف، ويعلن بالفم الملآن أن كل ما يجري دجل في دجل أو قبض الريح، وأن على المرء أن يعترف بحكم الزمن ويقبل بما يتركه على ملامحه من آثار وإن كانت لا تسرّ حواء، وهو أمر لا تنتطح فيه عنزتان على حد تعبير بلاغتنا العربية. خرساء الأساور ولكي نعرف حجم التغيير الذي حدث على مفهوم الجمال الأنثوي تكفي نظرة سريعة إلى أدبيات الشعوب والثقافات السابقة وليس العرب وحدهم حتى يصاب المرء بضربة شمس فكرية للفارق الهائل بين الصورتين، والتغير الشامل الذي طرأ على صورة المرأة الجميلة حتى باتت على ما هي عليه في الثقافة المعاصرة. فالعرب على سبيل المثال كانوا على عكس الصورة الحالية تماماً يرون البدانة من أهم مقاييس جمال المرأة، والمرأة الجميلة هي العبلاء التي وصفوها بخرساء الأساور لأن بدانتها كانت تمتد الى الرسغ فتمنع احتكاك الأساور فتصبح خرساء. في المقابل كانوا يرفضون النحافة إلى درجة التعوذ بالله من الزلاء أي خفيفة الشحم، وفي هذا يقول الشاعر: أعوذ بالله من زلاء ضاوية كأن ثوبيها علقا على عود إلى ذلك تتحدث الأدبيات العربية عن جمال أصيل قوامه: الأنف الدقيق والعيون الواسعة الكحيلة والعنق الصافي الطويل والجسم الممتلئ مع الشعر الأسود الطويل والبشرة البيضاء الصافية. أما اليابانيون فيفضلون المرأة القصيرة ويعتبرون الطول عيباً لا ميزة، ويرون الجمال في النعومة ورقة الشكل وصفاء البشرة وبياضها وهدوء الصوت وصغر الأقدام بشكل خاص. بينما اهتم الفراعنة بالعيون أكثر من غيرها ناهيك عن اهتمامهم الخاص بالعطور والأبخرة. لكن البياض والشعر ليسا دائماً سيدي الموقف الجمالي، ففي أفريقيا تجد بعض القبائل الأفريقية أن جمال المرأة في سواد بشرتها ولهذا يزيد مهرها كلما ازدادت بشرتها سواداً، كما يفضلون المرأة بدون شعر ويحلقون للفتيات (على الزيرو) لكي يبدين أكثر أنوثة وفتنة. وللجمال شؤون وشجون لا تنتهي غرائبها، فقبائل منغوليا والتبت تمارس طقساً لا إنسانياً بل وحشياً للحصول على الجمال المبتغى: عنق الزرافة، وذلك بأن يضعوا في أعناق الإناث منذ الولادة أطواقاً حديدية تزداد مع نموها لكي يكون عنقها طويلاً... أما الأوروبيون فهم بشكل عام يفضلون الطول ويهتمون به كأهم مقاييس الجمال ثم يليه الشعر الأشقر والجسم النحيل الرشيق، وهي الصورة التي مسحت الصور السابقة وحلت محلها في قريتنا الكونية! لتستلب المرأة بكامل إرادتها، وتصادر إنسانيتها بموافقتها ورغبتها بل تسعى هي إلى الخضوع لآليات هذا الاستلاب المتوحش الذي يبرق ويضيء جداً من الخارج فقط. أما زمان التفرقة بين الجمال الأصيل أو الجمال الطبيعي والجمال المصطنع المتكلف مما دأب عليه العرب فقد ولى إلى غير رجعة، وعلى المتنبي أن يعيد النظر في نظرته الى الجمال أو الحسن: حُسنُ الحضارةِ مَجلوبٌ بتطريةٍ وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوبِ فالحسن الطبيعي لم يعد له وجود، والنساء بتن مثل الدمى الصينية المتشابهة التي لا تختلف عن بعضها ولا تميز واحدة عن الأخرى. ولا مكان للحديث عن نسبية الجمال فلم تعد المرأة تمتلك خيارات كثيرة لكي تحوز لقب الجميلة، هي وصفة واحدة لا غير عليها أن تتبعها في زمن التسطيح الجمالي والتنميط البشري والاختزال لكل ما هو إنساني، وفي عالم الديجيتال والرقمنة نجح الاتصال القاري في توحيد الذوق وقولبته حتى ليكاد المرء يقول إن البشرية اختلفت في كل شيء واتفقت على شيئين: تسليع المرأة وإنجاز الكوارث. في مناخ كهذا، يصبح الحديث عن جمال الروح والنفس والأخلاق والفضيلة بلا معنى، لأنه بلا قيمة (لا ثمن له)... ويغرق الداخل في عتمة التجاهل والإهمال، ويمضي الى أغوار سحيقة جمال الروح في ظل الانشغالات الدائمة بجمال الجسد الظاهري... هذا زمان المساحيق وعمليات التجميل التي تجلب الجمال رغم أنفه الى أنوف الفنانات وفتيات الإعلان و(المودلز)، وتجلب في الوقت نفسه المليارات الى جيوب المستفيدين. أما الجمال الباطن فلم يعد له في السوق درهم ولا دينار، وفي حال تمت المقارنة بين جمال الباطن وجمال الظاهر فإن الثاني سيصرع الأول بالضربة القاضية من دون أن يرف له جفن خجلاً من المعلم الفارابي الذي كان يقول إن “حُسن الصورة جمال ظاهر وحسن العقل جمال باطن”، أما الغزاليّ فعليه أن يلم بضاعته العتيقة التي باتت منتهية الصلاحية أمام طغيان ست حسن وجمال القرن الواحد والعشرين. فالعربي لم يعد يعتقد بما اعتقد به أجداده، ولم يعد يفضل حسن النفس (الجمال الباطن) على حسن الوجه (الجمال الظاهر)، ولم يعد بينه وبين ابن شرف القيرواني، الذي كان يحذر من حسن الوجه إذا لم يقترن به حسن النفس، أي علاقة تذكر. مع ذلك، علينا أن نعترف أن للمرأة قيمتها وأهميتها وفعاليتها المجتمعية والحياتية بعيداً عن مشاغل الحسن ومعايير الجمال، وعلينا أن نؤمن ـ نحن النساء بشكل خاص ـ بقدرتها على العطاء حتى لو غزا رأسها الشيب، أو “تكرمش” الجلد تحت عينيها، فالشيب ـ على حد علمي ـ لا يغزو القلب، والتجاعيد الحقيقية ليست تلك التي تظهر تحت العيون أو فوق الشفاه، بل هي التي تحفر عميقاً في العقول والأرواح... لا ترفعوا حواجبكم دهشة، ولا تمطوا شفاهكم استغراباً، فالعقول فعلاً قد تمتلئ بالتجاعيد وعندها لا ينفع فيها دواء ولا مساج ولا حتى “تغييرها” عند ميكانيكي بارع في تبديل الرؤوس. تغرِّد خارج سرب الجمال الشكلي سوزان بويل.. حطمت مقاييس الجمال بـ «ضربة صوت» رغم كل هذه السطوة التي تمارسها العولمة في تنميط البشر يحدث أن تخرج إحداهن عن النمط وتكسر النموذج، وتصنع شرخاً في هذه الصورة النمطية، لكنهن يبقين رغم ذلك الاستثناء لا القاعدة، وفيما هنَّ يغردن خارج سرب الجمال الشكلي تواصل السينما والفضائيات وبيوتات الأزياء ومجلاتها تكريس الصورة النمطية التي تحول المرأة الى كائن مسخ يدور مثل (ثور الساقية) وراء جمال وهمي. سوزان بويل (47 عاماً) من هؤلاء المغردات لنوع آخر من الجمال: جمال الموهبة وجمال الروح حين يكون سفيرها والمعبر عنها صوت ساحر أذهل العالم، وأجبر كل من سخر منها بسبب هيئتها أن يرفع لها القبعة احتراماً لهذه المنحة الإلهية الرائعة التي كشف عنها برنامج اكتشاف المواهب البريطاني الشهير Britains got talent. ورغم أن الأغنية التي صدح بها صوتها الكلثومي في 11 أبريل 2009 حملت اسم “ حلمت حلماً I Dreamed a Dream “ إلا أنها لم تكن حلماً بالمرة بل واقعاً عيانياً حقيقياً جعلها بين عشية وضحاها محط أنظار الملايين ممن تابعوا مشاركتها في المسابقة على الإنترنت عبر موقع اليوتيوب. وخلال أيام تحولت القروية الاسكتلندية إلى نجمة باهرة غزت الشاشات والقنوات وفضاء الإنترنت جاذبة 12 مليون بني آدم زاروا الموقع وشنفوا آذانهم بغنائها الساحر. أكثر من ذلك، وصل الأمر أنها دخلت موسوعة غينيس بعد أن حقق ألبومها أفضل مبيعات حسب ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) التي قالت إن بويل كسرت الرقم القياسي الذي سجله جين ماكدونالد في عام 1998 في عمر الـ35 عاماً. وقد بيعت 4111820 نسخة من ألبومها في أسبوعه الأول ببريطانيا. لكن بويل لم تكسر الرقم القياسي لـ ماكدونالد بل كسرت أوهاماً كثيرة عن مقاييس الجمال وحطمت الصورة النمطية التي تتوسلها الفنانات غير الموهوبات اللواتي تذكر أصواتهن بنقيق الضفادع أو قوقأة الدجاج، كاسحة في طريقها كل ما يقال عن التسهيلات التي يقدمها للمرأة جمالها في عالم الغناء والفن. خاصة أن الجمهور استقبلها بالضحك استهزاء بلكنتها الاسكتلندية الفجة، ومظهرها البعيد كل البعد عن الأناقة والجمال. فقد ظهرت غير متبرجة، بشعر غير مصفف يغزوه الشيب مع حاجبين كثيفين، وارتدت فستانا قديم التصميم من الدانتيلا العاجي في حين أنها ممتلئة القامة وتبدو مسنة، ما يعني أن مظهرها لا يمت بصلة إلى الصورة المألوفة للمطربات والفنانات... لكن المعجزة حدثت، وانقلب الأمر تماماً حين انطلقت بويل بغناء المقاطع الأولى من أغنيتها المأخوذة من العرض المسرحي الغنائي “البؤساء، والتي تعتبر من أصعب أنواع الغناء.. فقد لف المسرح سكون شامل وبدت آثار الذهول والإعجاب على وجوه أعضاء لجنة التحكيم والحضور الذين نسوا تماماً الشكل والهندام والأناقة، ووقفوا تقديرا لصوتها الملائكي. وربما تكون من المرات القليلة النادرة التي تتفوق فيها الموهبة وحدها، بلا أي مساعدات اخرى، في فتح باب النجومية العريض أمام امرأة بهذه المواصفات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©