الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أمينة بوشهاب.. الاحتجاج بمضمون عقلاني

أمينة بوشهاب.. الاحتجاج بمضمون عقلاني
29 سبتمبر 2010 20:18
أقلام نسائية إماراتية (14) تحتل الكتابة النسوية مكانة استثنائية في المشهد الثقافي الإماراتي. فهي غنية بأقلامها واسمائها. مبادرة في موضوعاتها. غزيرة في انتاجها. متنوعة في إبداعاتها ما بين الشعر والقصة والرواية والريشة. هنا إطلالات على “نصف” المشهد الثقافي الإماراتي، لا تدعي الدقة والكمال، ولكنها ضرورية كمدخل للاسترجاع والقراءة المتجددة. إذا تحدثنا عن القاصة والباحثة الإماراتية الدكتورة أمينة عبدالله بوشهاب، فإننا بالضرورة نتحدث عن حقبة مفصلية ومهمة من تاريخ الإبداع الإماراتي، ألا وهي حقبة الثمانينات، تلك المرحلة التي شكلت مناخاً خاصاً للكتابة والإنجاز، وبخاصة (الكتابة النسوية)، واللافت للانتباه أن ولادة الحركة الأدبية الحديثة في الإمارات، اتسمت بحضور الصوت النسائي الاحتجاجي على كل مظاهر الحياة وقوانينها الميكانيكية ومفاهيمها وحضور المرأة في مجال القصة، بل وريادتها في هذا الفن إذ ظهرت قصة “الرحيل” للقاصة شيخة الناخي عام 1970. تقول الناقدة التونسية ريم العيساوي في هذا السياق وفي مقالة لها بعنوان “التغيرات الاجتماعية وأثرها في قصة المرأة الإماراتية”: “يكفي أن نذكر أن نسبة القاصات في المجموعة القصصية المشتركة “كلنا نحب البحر” أن الأقلام النسائية حظيت بحوالي 35% من مجموع القاصين المشاركين، من بينهم 7 قاصات، وهي نسبة مهمة قياساً إلى أدب القصة في أي دولة عربية على الإطلاق، وباعتماد المجموعة الانتولوجية “كلنا نحب البحر” والمجموعة الثانية الصادرة عن اتحاد كتَاب وأدباء الإمارات لسنة 1989، والتي تشمل 12 قصة يتراوح إنتاجها بين 1970 إلى 1987، ضمن الثمانية والثلاثين قاصاً، توجد 14 قاصة، وهي ظاهرة مثيرة للسؤال في مجتمع تقليدي كمجتمع الإمارات، مما جعل البعض يعتبرها ظاهرة استثنائية ونموذجية ومغامرة باهرة، وهذه ظاهرة متفوقة تصور نشاطاً متفوقاً على ما في البلدان العربية سواء من الناحية الإحصائية، أو من ناحية عدد العاملين في النشاط الإبداعي، فضلاً عن التطور الفني لبعض القاصات، وما يتميزن به من جرأة فنية وموضوعية في تناول الواقع”. في مثل هذا المناخ والمزاج الكتابي، انطلقت تجربة الكاتبة أمينة بوشهاب وزميلاتها، حيث برزت ظاهرة “الإبداع الجماعي” وتشكلت مجموعة “النشيد” التي اشتركت فيها ثلاث كاتبات هن: أمينة بوشهاب، مريم جمعة فرج وسلمى مطر سيف، لكي تشكل تجسيداً لموضوعة طغيان وجود المرأة المحلية داخل هذه القصص بجانب قصص قليلة أخرى. أحافير وملامح في قصة “ظهيرة حامية” لأمينة بوشهاب نقف أمام نموذج حفرت ملامحه بعناية وإتقان فني متميز بين النماذج القصصية لكتاب الإمارات. وتبدو في القصة شخصية (خميس) منكسرة في ماضيها، كما يلازمها هذا الانكسار في الحاضر، ولا يلوح في الأفق ما يوحي بأنه سيتخلص مستقبلاً من هذه الإشكالية والتي جاءت بفعل حدث لزوجته في الماضي، في فترة ما قبل النفط: “آه يا للوعة لقد انتزعها من هم سادة البحر يومها، لم يكتفوا بزوجاتهم البضات السمينات، تجاهلوا وجوده وكانوا يحومون حول خيمتها، يا للمسكينة امتصوها لآخر قطرة ورموها مهترئة لحي البغاء، هو لم يفعل شيئاً، كان يقف تحت لهيب الشمس في الخارج، أو يضطجع في القارب مستعذباً أوجاعه، لم يعرف كيف يتصرف، من أنت يا خميس حتى تقطع أرجلهم عن امرأتك”. شخصية خميس التي رسمتها الكاتبة بعناية شديدة، هي نموذج مركب يلتقي فيه الإثم الاجتماعي والذاتي، فتظل طوال أحداث القصة أسيرة لعجزها من أن تقوم بأي فعل، إنها تعلن أن الظلم الاجتماعي ينبغي مقاومته منذ اللحظة الأولى ابتداءً من أول وقوعه، وألا يكون من الصعب مقارعته، أو يكون من السهل استمراؤه بعدئذ. وفي قصتها “مهره” ثمة تصوير فني بارع لفتاة عنيدة، ذات كبرياء لا يطال، تتنقل مهرة تدريجياً من كونها فتاة صغيرة صلبة إلى رمز اجتماعي يحمل ملامح الخلاص لبلدتها. حول هذه القصة كتب الدكتور ثابت ملكاوي في كتابه “الرواية والقصة القصيرة في الإمارات ـ نشأة وتطور” يقول: “المتلقي في قصة “مهره” لا يجد صعوبة في كشف الستر عن هذا الرمز، فالكاتبة تبينه بأسلوب مباشر مما يفقده لذة الكشف: ماذا تمثل له مهرة؟ أهي كل هؤلاء المساكين الذين يحتقرهم، هل سبب عذابه انه مهزوم أمامها، لابد أن البلدة اللعينة قد تآمرت ضده، لابد أنها هي التي توحي لمهرة بكل أشكال التعذيب التي تمارسها”. في قصة “مهرة” تطرح أمينة بوشهاب موضوع أزلي حول العلاقة بين المادة والإنسان أو بين المادة والروح، فالمال هو القوة والسيادة والمركز، هو الذي في بعض المستويات يخضع القيم، والمرأة حينما تكون مثل البضاعة تباع وتشتري لمن يدفع أكثر. ولتحقيق الأبعاد الخطيرة لهذا الموضوع طرحت القاصة إشكالية زواج المسنين الأثرياء من الفتيات القاصرات، إنها تريد القول باختصار أن مثل هذه الظاهرة السلبية هي نتاج التحول الاجتماعي والاقتصادي وظهور طبقة تهيمن على المجتمع وخاصة الفئة الفقيرة منه. وتصور القاصة هذا المفهوم من خلال شخصية (مهرة)، الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، لكنها تتحدَى ذلك الثري العجوز بصرختها التي تشكل إدانة وورقة اتهام للمجتمع الذي يعزز مثل هذه الظاهرة: “إني أكرهك بقدر ما استطيع”. انه على ما يبدو صراع الأجيال، الجيل الجديد الرافض لمثل هذا الواقع الذي تداس فيه كرامة الإنسان وحريته في الاختيار، وجيل الحرس القديم الذي تسوده القيم المادية والتسلط وانتهاز الفرص للسيطرة على الفقراء والمعوزين وتحقيق المكاسب السهلة. المفارقة الأهم في موضوع هذه القصة تتمثل في انتصار ارادة التغيير، فعلى الرغم من زواج العجوز من (مهرة) رغما عنها، الا أنها تنتصر عليه في النهاية: “خرجت مهرة لتعلن أن سليمان قد جنَ وأنها ستعمل على أن يرحل في اليوم التالي، ورحل بلا ضجَة”. وهنا تؤكد الكاتبة أن القيم الجديدة التي نتجت بفعل الثروة النفطية لا يمكن لها أن تسود أو أن تصبح شعاراً للحياة وهذا هو المهم في ظل التقدم والتنوير الذي يشهده المجتمع بما يحقق أسباب الرفض لدى أبطال القصص. إن الرسم الواضح والدقيق للبيئة النفطية في المدينة نقرأه بوضوح في قصة “ظهيرة حامية”، فالمكان بارز وجاد وقاس، وهو على وشك أن يعصر بطل القصة خميس، بعد أن كان قد عصر إنسانيته في فترة ماضية (فترة البحر). والقصة كما يبدو عامرة بالفضاءات الفنية التي في مجموعها تشكل نشيداً متناغماً يعلو ويهبط من خلال المرور على الأمكنة المتناقضة داخل المدينة الكاشفة لبيئات اجتماعية متفاوتة: “أمام سوق الذهب أمرته سيدة في منتصف العمر برفقة شابة صغيرة بالتوجه بهما ناحية البيوت الشعبية أقصى الشرق”. من الحوار المتشنج القصير الذي جرى بين السيدة والشابة ندرك أنهما من طبقة اجتماعية متواضعة، كما أن الجهة التي يقصدانها تفصح عن ذلك، والأغنياء كما نقرا في القصة يسكنون في الجهة الغربية: “فاضت رائحتها المتحفزة في المركبة، ومالت بجذعها للأمام طالبة من خميس التوجه لنهاية الجهة الغربية للمدينة”. غزارة الثمانينات لقد كانت الثمانينات حقبة حاسمة إذن، ليس بالنسبة للقصة القصيرة فقط، بل بالنسبة للشعر والتشكيل وفن المسرح وغيرها، لقد كانت المرحلة كما يبدو مرحلة ثقافية واجتماعية جديدة، لا يزال عطاؤها ممتداً حتى يومنا هذا. يقول الدكتور محمد عبد الله المطوع في دراسة تطبيقية قدمها عام 1988 في ندوة الأدب في أبوظبي: “تعتبر القصة القصيرة في الإمارات من فنون الكتابة الأدبية التي برزت بشكل واضح منذ السبعينات على أيدي بعض الرواد ممن تمكنوا في هذا المجال، إلا أن فترة الثمانينات تمثل مرحلة التشكيل الواضح لهذا الاتجاه في الأدب. كما تطور في هذه المرحلة الشكل الفني للقصة ليواكب المضمون والوعي الجديد، فلقصة لم تعد تلك التقليدية على أركان المدرسة القديمة، لقد تجاوز ذلك إلى خوض غمار التجربة الإبداعية المنطلقة بعيداً عن أسر التقليد وجمود القديم، وقد حاولت القصة ولا تزال كسر الشكل الفني القديم وتناول الموضوع ضمن سياق حديث لا يعترف كثيراً بالقيود الأسلوبية واللغوية والبنائية القديمة. لقد كانت النتاجات المنشورة في الصحف والملاحق الثقافية تتجاوز وتتفوق على الكثير من النتاج المنشور في مجموعات، كقصص مريم جمعة فرج وسلمى مطر سيف وأمينة عبدالله بوشهاب وسعيد سالم الحنكي وليلى أحمد وغيرهم”. أمينة بوشهاب التي تعمل حالياً مدير عام مؤسسة حميد بن راشد النعيمي للتطوير والتنمية البشرية في إمارة عجمان هي شخصية عامة وناشطة في مجال حقوق المرأة، كما تمارس كتابة المقالات التي تتمحور حول القضايا الأدبية والثقافية في العديد من الصحف والمجلات المحلية، ومن جملة مقالاتها الكثيرة نقتطف مما كتبته تحت عنوان “الصحافة والحرية والمجتمع” بقولها: “إنه شيء ذو مغزى لنا بالفعل كمجتمع وكنخبة كاتبة نتحاور حول الحرية، ان لدينا نموذجنا الخاص المشرق من الصحافة، هذا النموذج من التاريخ الصحافي القريب العهد الذي نعود إليه الآن ودائماً، نستلهمه ونقيس عليه أحوالنا في أضيق مجالات التعبير وحرية القول. هذا النموذج الصحافي العالي كان في حقبتي السبعينات والثمانينات، وهو يلتقي مع بداية المؤسسات الصحفية والممارسة الصحفية في دلالة لا يخفى ما تقول. إن أهم ما يمكن قوله عن تلك الممارسة الصحفية هو أنها خرجت من باطن المجتمع الإماراتي وعمقه وجوهره، وعبرت عنه كما هو آنذاك في حقيقته وقيمه. صحيح أن تلك التجربة كانت تحمل العديد من عناوين ومضامين التنور والحداثة واستلهاماتها كما هي في تجارب عربية وعالمية، وكذلك كانت حديثة في الأساليب والتقنيات، إلا أنها في الدرجة الأولى كانت إنتاجاً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً لمجتمعها الذي امتلك ذاته وقوته المعنوية بإزاء السلطة السياسية، يجمع هذا المجتمع مع سلطته إطار الولاء السياسي. كان الولاء يقوم على حرية الرأي والقول والمصارحة وحرية التفكير”. كتابة احتجاجية تعتبر قصة “هياج” من أروع ما كتبته أمينة بوشهاب وبخاصة على مستوى اللغة في المتن السردي، فقد رصدت في أحداثها حالة التسلل لتلك العمالة الوافدة داخل البيوت، حينما أوردت بطلة قصتها وهي في قمة انفعالها النفسي واغترابها الذاتي داخل بيت الزوجية والذي لم تتآلف مع أشيائه بعد، حيث إنها وافدة من بيئة أخرى (حي الصيادين الفقير) لا تتسق وهذه المعطيات من حولها. وحينما حاولت التخلص والهروب من هذ الجو المخملي المترف والتحف وقطع الأثاث الثمينة ومن ذاتها القلقة المغتربة، نظرت من النافذة إلى الحديقة لتجد (محمد الملباري) يعكف بجد على تشذيب أغصان الأشجار. هذا الرصد الدقيق ينم عن حالة التسلل لهذه العمالة وتواجدها في كل مكان، أم عن أشياء أخرى لم تفصح عنها البطلة، حيث إنه أيضا (مغترب) في هذا الجو المحتشد بالثراء والغنى الفاحش، وأن هذه الشخصية أيضا المتسللة تعاني من إشكالية الاغتراب بكل مرارته. وفي هذا السياق كتبت الدكتورة أمينة بوشهاب: “يبدو المجتمع الإماراتي في حالة استسلام وتقهقر مكاني بعيداً عن الحضور والفاعلية.. لقد فقد هذا المجتمع ما يكفي من آليات دفاعه وحتى قدراته على منافسة الآخر القادم للربح وتكوين الثروة”. (من مقالة لها بعنوان “المجتمع الإماراتي وهو يتقهقر عن أمكنته” صدرت في جريدة “الخليج” بتاريخ 28 ابريل 2006). عنوان قصة “هياج” رمزي ودال، والموضوع له صلة قوية بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية في مجتمع الإمارات، وهو هياج كظيم تتلاطم أمواجه في دواخل أنثى مقهورة أحاطها زوجها الثري المخاتل بضروب النعماء من حيث بقيت روحها وبقيت هويتها قاحلة جرداء، فالقفص سجن سواء أكان من خشب أو من ذهب. أما الأهم من ذلك فإن القصة تكشف في مضمونها الإنساني النقطة التي يبدأ منها تقييم المرأة كأنثى في مجتمع لا يسمح لها الشعور بجسدها إلا في حالة الانفصال عنه، والنظرة إليه نظرة استهلاكية. كتبت ريم العيساوي حول هذه القصة تقول: “تمثل قصة هياج صورة للوعي المغلق والذي يتحول إلى وعي تدميري للذات المحبطة. أما صراع الوعي هذا فهو صراع تاريخي يستمد جذوره من الحالات التي كرستها الأوضاع التاريخية. والقاصة هنا ترسم حالة وعي قصوى تتولد وتتبلور في نفس أمنى زوجة عبد الرحمن موسى، الرجل الثري الذي يعاملها معاملة السيد للعبد، وتدور الأحداث بين قطبين من الزمان الحاضر والماضي، المرأة القادمة من حي الصيادين، حي فقير تغلب عليه العلاقات الإنسانية الحميمية الصادقة، انها لا تتأقلم مع عالم الثروة الجديد، عالم المجاملات الزائفة والعلاقات القائمة على النفاق والزيف”. التداعي الحر يكسر هذا الاتجاه منطق الزمن ويترك للوعي الداخلي حريته في التداعي، ونجد ذلك في أسلوبية أمينة بوشهاب، حيث تستقصي بتقنية سردية عالية التداعيات النفسية لبطلة قصتها “هياج”، تلك الزوجة الحائرة في غموض زوجها البرجوازي المستهتر وما يشاع عنه من أن له زوجة ثانية، وعجزها عن مواجهته بذلك خشية أن تفقد (حالة الثراء) التي حشرها فيها، وهذه الخصائص عند البطلة، جعلت منها شخصية عالمية، بمعنى أنها تمتلك مقومات وصراعا نفسيا داخليا مما يتوافر عادة في نمط المجتمعات القائمة على الثروة والثراء وعالم المضاربات. لقد منحت لنفسها متسعا لمعرفة تكوين وجوهر شخصيتها وحالة تذبذب شعورها ونوازعها لهذا النموذج النسوي الجديد الباحث عن إنسانيته والغارق في تفاهات النمطية الاستهلاكية، وهذه الشخصية في الواقع تمثل وعي القاصة ذاتها، وقد تفاعلت بصدق ومعاناة مع شخصيتها بروح من الرثاء والعطف الإنساني. ولعل ذلك يذكرنا على الفور بمنهج جورج لوكاتش الذي سيظل على الدوام رمزا لهذا التكامل المذهل بين الفكر والوجدان، وبين صراع المادة والروح، تماما مثل الإيقاع الذي وجدناه لدى الكاتبة بوشهاب، ومنهجها القائم على العلاقة الجدلية بين المادة والكرامة الإنسانية، ولكن بنظرة أخرى هي في الواقع تجسد الفرق بين النظرة الديناميكية والنظرة الجامدة إلى الحياة، ومثال ذلك ما نجحت به الكاتبة من تحليل الصور الفنية داخل العمل الأدبي بشحناتها الجمالية ومدلولاتها المتنوعة على مستويات اللغة والمونولوج الداخلي والصورة الفنية المزدوجة. لا تزال الدكتورة أمينة بوشهاب رغم رحلتها الطويلة الممتدة ما بين العين ولندن دارسة وباحثة، تعيش في قلب مشهد يحتله البحر الذي يطل عليه بيت أسرتها في عجمان، حيث تلمس في كلماتها وكتاباتها المتنوعة عشقاً خاصاً لعجمان مدينة التكوين وساحة الشعراء المفتوحة على فضاء الإبداع، وحباً أكبر لوطنها الإمارات الذي لم تمل من الحلم به، وحمله عبر ذاكرتها إلى مختلف الأمكنة، حيث تشارك بفاعلية في الحراك الثقافي على المستويين الداخلي والخارجي. لقد ورثت عن والدها فصاحة القول وبلاغة المعنى والاستقلالية، وأكثر ما يشغلها من قضايا الوطن ما يتعلق بالتركيبة السكانية والتعليم والمرأة. حول ما تبقى من مشاهد الطفولة في ذاكرتها قالت في حوار خاص: “ما بقي هو العالم الاجتماعي الحي والمتعدد لمدينتي عجمان التي عشت فيها كطفلة، كان هذا العالم مفتوحا ومتاحا لنا كأطفال، نتنقل بحرية وأمان ضمن المدينة وطرقاتها وأحيائها، كنا نلتقي الحاكم أحيانا أو نلقي نظرة من بعيد عليه في جولاته أو مجالسه المفتوحة، وكنا نرى ونعايش في عالم طفولتنا كل الفئات الاجتماعية مثل التجار وأهل البحر والفئات المثقفة والفئات الأقل أهمية مثل الحمالين والعاملين في المهن البسيطة، وهؤلاء كلهم كانوا إماراتيين، وعندما استرجع هذا العالم الآن أجده عالما متوائما كما كان محبا ومداعبا للأطفال، وراقيا بقيمه الأخلاقية ومثله العليا، وهو عامر طبعا بالشخصيات المتميزة والخلاقة التي لا تزال تحرك في المشاعر والإلهام والإحساس بالمعنى في الانتماء لشيء مغاير للحاضر، وأكثر المشاهد تأثيراً في حياتي هو المشهد الذي كان يطل على بيتنا: البحر وامتداده، وتغير زرقته ورائحته، وصوت أمواجه، وأصوات الرجال الذاهبين إلى البحر والسوق والعائدون منهما، كان بيتنا ينقل هذا الصدى ويطل عليه، وضمن هذا العالم المتحرك والحيوي والمتحدث، كانت أيضا النساء بكل مراحل أعمارهن وتنوع شخصياتهن”. نجحت الكاتبة عبر مجمل كتاباتها من رسم هوية خاصة لما خصصته من مواضيع تهتم بالمرأة واشكالياتها مع مجتمعها، ولعل أهم ما يميزها أنها استطاعت الخروج على المألوف والقفز على الحواجز الشائكة، فقدمت بذلك أعمالاً تميزت بجرأتها وطرقها لمواضيع حساسة، كما استطاعت تطوير لغتها وصورتها الفنية، خارجة بذلك عن النسق التقليدي الذي وجدناه عند بعض الكاتبات في المراحل الأولى من الإبداع القصصي المحلي من صياغة مواضيع بصورة سردية وجدانية إخبارية، بل جاءت نتاجاتها ناضجة من حيث الشكل الفني الحداثي واستخدامات الرمز بكل جمالياته، إلى جانب اللغة المكثفة، ونلمس ذلك كثيراً في قصتها “السفر إلى الجنة” و”صرخة” وغيرها من القصص المكتوبة بعناية شديدة وتأن واضح. كما نلمس ذلك في معظم كتاباتها حول المجتمع الإماراتي وقضاياه المختلفة في ظل التحولات، وفي ظل التقدم المتسارع الذي تشهده الحياة الاجتماعية بكافة مستوياتها، ومن ذلك ما كتبته بعنوان “المجتمع الإماراتي وتسامحيته” ونقتطف منه: “هناك وصف ذو معنى ومغزى معين يرتبط بالإمارات ومجتمعها، وهذا الوصف هو “التسامح” وهو كما هو مطروح ومروَج له في مرحلة حساسة وفاصلة ومفتوحة على الاحتمالات من مراحل حياة المجتمع الإماراتي، يعني قبول الآخر، غير الشريك في الوطن والصيغ الثقافية، الآخر الأجنبي القادم من الخارج، قبوله وقبول اختلافه عن المجتمع وممارسته هذا الاختلاف. ولا يخفى أن المعنى لا يقتصر على هذا فقط، فهو بالضرورة يشمل فكرة قبول المجتمع الإماراتي بوضعه الحالي، وموقعه الثانوي، بل والهامشي بين “المجتمعات” الاخرى الموجودة على أرضه الخاصة، ولا شك في أن تسفيها ما وسخرية من المجتمع المقصود يتضمنها هذا الجانب من معنى المفهوم. معنى آخر غير مباشر يحويه طرح “التسامح” هو افتراض قبول التناقضات والاصطدامات والصدمات الثقافية التي تختلف بشكل صارخ مع المجتمع، بل وان أمكن نفي شعور المجتمع بأي تناقض، وفي هذا الموقف الذي يقف فيه ضد نفسه ويستهين بقيمه الى درجة المطاطية والاسترخاص، يسجل للمجتمع الإماراتي “كما يصور” ظاهرة غير معهودة في سجل المجتمعات كما يعرفها العلم الاجتماعي والانثروبولوجي. ان البعض يعزف الآن على وتر “التسامح” لغرض القول إن واقع الإمارات في كونها موقعا لازدهار هويات مختلفة غير هويتها وأخذ هذه الهويات مساحات كبيرة في الظهور والتسيد هو أمر طبيعي في ظل هذا التسامح الحضاري والرحب”. أمينة بوشهاب التي تتعدد نشاطاتها كعضو في لجنة تحكيم مسابقة السيناريو للأفلام الإماراتية القصيرة في مهرجان الخليج السينمائي (حدث ثقافي سنوي غير ربحي، يهدف إلى الاحتفاء بالسينما الخليجية، ويقام هذا المهرجان في شهر ابريل من كل عام في إمارة دبي) إلى عضويتها في لجنة الإشراف على معرض عجمان للكتاب، تحتل مساحة طيبة في الحراك الاجتماعي والثقافي في الدولة. نختتم بما قالته الدكتورة أمينة بوشهاب حول تأثير والدها في تكوينها ولغتها وإطلالتها على عالم الكتابة فتقول: “الشخصية الأكثر حضوراً في تكويني والدي رحمه الله، وان كان المثل يقول “كل فتاة بأبيها معجبة” لكنني أظن أنني موضوعية في حكمي، لأن والدي كان شخصية ثرية شديدة الجاذبية والتأثير الاجتماعي في محيطه. كان صريحا قويا ومهابا وغير مساوم أخلاقيا، وكان واعيا لدوره في تكوين أبنائه ومعلما لهم في الأمور الأخلاقية والدينية، اذ كانت الاستقامة وقول الحق والصدق أهم ما يجب التحلي به. ومما أثر في شخصية والدي اللغوية، بمعنى أن اللغوية التي يستخدمها كانت قريبة من الفصحى أو هي نفسها، وكانت استخداماته الشفوية لها تقع موقعاً خاصاً في نفسي وتبهرني وأنا صغيرة، كما كانت تبهرني طريقة تلاوته للقرآن فجرا، اذ كنا نصحو على هذه التلاوة، وكان يعلمنا اللغة وجمالياتها وأسرارها. وتكتمل هذه الصورة عن الوالد والثقافة عامة في مدينة عجمان بمعرفة أنه كان وإخوته في طفولتهم يقفون وينشدون قصائد أبي الطيب المتنبي في ساحة مفتوحة أمام البيت حيث يتجمع المهتمون والمهتمات للاستماع إليهم”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©