الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصراع في باكو...

الصراع في باكو...
29 سبتمبر 2010 20:22
تفتح رواية “علي ونينو” للقارئ العربي منطقة قريبة منه وبعيدة عنه في نفس الوقت، الرواية مجهولة المؤلف، حيث ان الاسم الذي تحمله هو اسم حركي أو مستعار. فهي تحمل توقيع “قربان سعيد”. ظهرت الرواية عام 1937 في فيينا، وقرئت على انها رواية عاطفية أو قصة حب وزواج بين شخصين بينهما تباين كبير، وقتها كان العالم يتهيأ للحرب العالمية الثانية لذا لم تجد اهتماما من النقاد ولا احتفى بها القراء، ثم ترجمت الى اللغة الانجليزية ولم يكن هناك سوى أرملة الناشر الاصلي التي أكدت فقط ان اسم المؤلف ليس حقيقيا وانها لا تعرفه، لكن بعد ان نُشرت في الولايات المتحدة ظهر اناس كانوا اصدقاء للمؤلف ومعارفه، فكشفوا بعض ما يعرفونه، وان اسمه الحقيقي “ليفانو نوسيمبوم” ولد في مدينة باكو عاصمة اذربيجان عام 1905، والده رجل اعمال يهودي وامه معلمة ألمانية ثم اعتنق الإسلام وصار اسمه “اسعد بيه” وحين قامت الثورة البلشفية عام 1917 رحلت الاسرة الى اسطنبول وماتت امه، ثم انتقلوا من اسطنبول الى المانيا حيث تعلم والتحق بالجامعة وبدأ يكتب وهو طالب ثم اصبح صحفيا وكاتبا مرموقا، له كتاب بعنوان “محمد” وكتاب عن “لينين” وثالث حول “رضا شاه” ورابع باسم “نيقولا الثاني” واصدر هذه الرواية ورواية اخرى “الفتاة ذات البوق الذهبي”. وتزوج من اميركية ثم وصل النازيون الى حكم ألمانيا فهرب الى فيينا ولما اقترب النازيون من النمسا فر الى إيطاليا ووجد الحال هناك اسوأ ثم مات في ظروف لا يعرفها احد ودفن في مقبرة عليها شاهد إسلامي تقليدي، رسمت عليه عمامة ووضع تحت رأسه مصحف طبقا لوصيته. بغض النظر عن شخصية الكاتب فالمهم العمل، الذي بين ايدينا، البطل فيه “علي خان” مسلم من منطقة اذربيجان، والراوي في العمل مسلم ايضا مشبع تماما بالروح وبالثقافة الاسلامية، ويبدو ان فيها اشياء من شخصية وحياة المؤلف، كانت اذربيجان وقتها تتبع إيران وكانت روسيا القصيرية تهاجم الدولة العثمانية وتهاجم اذربيجان تريد الاستيلاء عليها وكانت روسيا تمثل الغزو الاوروبي بثقافته الحديثة، بيما كانت اذربيجان آسيوية ذات ثقافة إسلامية، وكان علي خان وزملاؤه يحملون اعتزازا بتاريخهم وثقافتهم، ثم ظهر البترول في اذربيجان فجاء الاوربيون واقتربوا من باكو واقاموا في مدخلها ما يكاد يكون مدينة وتغلبت روسيا القيصرية على بلدهم، وكان ان اخذوا الى مدرسة يتم فيها التعليم باللغة الروسية. المدرسون اوروبيون دخل احدهم الفصل ومن الحصة الاولى في درس الجغرافيا بدأ يشرح لهم حدود اوروبا ثم قال لهم: “يرى بعض الدارسين ان المنطقة جنوب جبال القوقاز جزء من آسيا ويعتقد اخرون من منظور الثورة الثقافية فيما وراء القوقاز، ان هذه البلاد تعتبر جزءا من اوروبا ومن ثم يا أبنائي عليكم الى حد ما مسؤولية تحديد ان كانت مدينتنا تنتمي لاوروبا التقدمية ام لآسيا الرجعية”. يصمت الاطفال ثم يرفع محمد حيدر يده من اخر صف ويجيب: “من فضلك سيدي يجب ان نبقى في اسيا” لا تعجبه الإجابة فيعاود سؤال التلميذ: “تريد ان تبقى آسيويا؟ هل يمكن ان تقدم سببا واحدا لهذا القرار؟” ولا يجد التلميذ الصغير إجابة، فنادى المعلم “علي خان” ليسأل: “انت على الاقل هل يمكن ان تقدم لنا سببا؟ فيرد عليه “نعم احب آسيا”. فيعاود السؤال “أوه تحبها. هل تحبها؟ حسنا، هل زرت بلدان من البلاد المتخلفة تخلفا حقيقيا، هل زرت طهران على سبيل المثال؟ فيجيب علي ويدور حوار طويل بينهما ينهيه المعلم بالقول “هذا تخلف اجلس”. الحوار والكلمات في الرواية هكذا صريحة ومباشرة بل حادة احيانا، واعتزاز البطل والمسلمين في العمل بهويتهم قائم حتى ان “علي” جاءه سؤال في الامتحان حول المعركة التي بمقتضاها انتصرت روسيا القيصرية وانتزعت اذربيجان كان يعرف ان الاجابة التي تضمن له النجاح والتفوق هي ان يتحدث عن عظمة وقوة الجيش القيصري وكيف انه بالبطولة الراسخة والعبقرية العسكرية حقق انتصارا باهرا لكنه يقدم الاجابة التي ترضيه وهو مقتنع بها حتى لو حصل على صفر، وهي ان الجيش الروسي لم يكن باسلا ولا اي شيء كان غازيا وانتصر فقط لان لديه مدافع حربية. الرواية ترصد الصراع بين الثقافة الاسلامية في باكو والثقافة الاوروبية التي جاءت بها روسيا القيصرية ولم يتغير الامر بعد روسيا الشيوعية ونجد اعتزاز اهل باكو بثقافتهم التي يجري تدميرها بإصرار بدءا من آداب المائدة وتناول الطعام حتى اللغة والتفكير، كان الأهالي هنا هادئون حتى حينما وقعت الحرب بين روسيا والمانيا فإن خليفة المسلمين السلطان العثماني وكذلك شاه ايران اتفقا على الا يدخلا هذه الحرب ـ حرب بين كفار ـ لكن نتائج هذه الحرب امتدت اليهم. يزداد الانتشار الاوروبي بعد ظهور البترول في اذربيجان ونجد انفسنا امام تيارين من ابناء المدينة تيار متأورب سعيد بما يحدث وتيار اخر اقوى قلق ويتمسك بهويته. ورغم تمسك “علي” بهويته الاسيوية والاسلامية فإنه يقع في حب “نينو” التي تسكن في المدينة الجديدة، هي مسيحية لم يقف اختلاف الدين عائقا، ويعلن انه لن يلزمها باعتناق الاسلام هي من أسرة چورچية واهلها يعيشون حياة اوروبية تماما، وفي اللقاء الاول يدور بينهما نقاش يؤكد كل منهما فيه هويته، تقول هي “الحريم امر مخز” فيرد عليها “لن اتخذ حريما على الاطلاق يا نينو”. وتقول له” لكن أظن انك ستجعل زوجتك تلبس الخمار” ويجيبها “ربما على حسب الظروف. الخمار يفيد ويحمي من الشمس والغبار ونظرات الغرباء”. اندهشت نينو وقالت”ستبقى اسيويا على الدوام يا علي”. المشكلة في نظرات الغرباء؟ تود المرأة ان تبتهج” فلا يتركها بل يشرح هو موقفه “تبهج زوجها فقط. وجه مكشوف وظهر عار وثديان شبه مكشوفين، وجوارب شفافة على سيقان ملفوفة. كل هذه عهود على المرأة ان تصونها. على المرأة ان ترتدي الخمار”. تظل هذه الثنائية الحادة طوال الرواية حتى حين تتعرض نينو للاختطاف، يخطفها تشارارين في سيارة انجليزية سوداء مغلقة كصندوق فيطارده خان على حصانه وبمسدس يضرب اطارات السيارة وينقذها بعد ان يطعن الخاطف بخنجره ويغرس اسنانه في لحمه. ربما تكون هذه الرواية ليست عبقرية بالمعنى الفني والادبي لكنها تقدم صفحة من الصراع بين الشرق والغرب. اسيا واوروبا. التقاليد الاسلامية والثقافة الغربية وتكشف صفحات من التاريخ بات نسيا منسيا في وعينا وذاكرتنا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©