الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النقل قتل العقل!

24 أكتوبر 2017 23:09
لا علاقة أبداً لنظام التعليم أو الفقر أو البطالة أو التنشئة بالإرهاب.. فهذا كلام معاد مكرور ممل، وربما يقال لإبراء الذمة أو البحث عن سبب ليبطل العجب أو هو كلام يقال بالنقل لا بالعقل.. وفكرة النقل والعقل في الثقافة العربية تؤرقني للغاية.. نحن أعطينا العقل إجازة مفتوحة أو حتى فصلناه من العمل تماماً.. ووظفنا النقل بدلاً منه.. فنحن نقول ما نقلناه لا ما عقلناه.. وثقافتنا كلها سمعية بصرية وليست ثقافة عقل ولا بصيرة.. وكثيراً ما يكون النقل من بعضنا بلا عنعنة.. أو بلا رواية أو روية.. وكثيراً ما دخلت حوارات بلا جدوى لأن من أحاوره ناقل لا عاقل.. فقد قال أحدهم مرة جزءا من آية قرآنية: «.. سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ» (سورة الزخرف: الآية 19). فقلت له: كارثتنا أن نجتزئ الآيات، ونأخذ منها ما يوافق رؤيتنا أو رغبتنا في الإسقاط أو حتى سب الآخرين.. وهذا ليس فيه أدب مع الله والقرآن.. فراح يحدثني عن خصوص السبب وعموم اللفظ، وما قاله الطبري وغيره، وقال: كلامك هذا لم يقله أحد أبداً.. قلت: وماذا في ذلك؟ وما المشكلة في أن أقول كلاماً لم يقله أحد أبداً؟.. تريد أن تتحدث عن شهود الزور.. عندك آية واضحة وقطعية وهي: «وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً» (سورة الفرقان: الآية 72)، فما الداعي للاجتزاء في آية نزلت في الذين قالوا إن الملائكة إناث؟.. أليست آية «الفرقان» فيها عموم اللفظ وعموم السبب معاً؟ وانتهينا إلى لا شيء. «وكلامي الذي لم يقل به أحد أبداً».. هو آفة العرب.. أي يجب أن أقول ما قاله الآخرون قبلي وإلا فإن كلامي ليس مقنعاً أو هو كلام غريب وعجيب وخروج على النص.. والنص في أسباب الإرهاب ومبرراته واحد عند العرب.. نظام التعليم.. البطالة.. الفقر.. غياب الديمقراطية والقمع وانتهاك حقوق الإنسان.. إنها ثقافة النقل وغياب العقل الذي أصابه الصدأ وأصبح متهالكاً كسولاً خاملاً.. فلا أحد من العرب تقريباً إلا من رحم ربي يستطيع أن يستغني عن النقل.. لأنه لو أراد الكلام بالعقل فسوف يسكت تماماً.. كل حركتنا في الحياة بالنقل لا بالعقل حتى علاقات الحب وكلام الحب وأسطوانات الحب كلها منقولة من الأفلام والمواقع والدراما، وإلا لماذا كل علاقات الحب في الأمة العربية متطابقة ونسخة من بعضها البعض، فهي حرمان وعذاب ولوعة ودموع.. ولا يمكن أن تكون سعادة ورضا وقناعة ومودة ورحمة! فالراحة والسعادة والرضا والمودة أمور مملة وسخيفة.. ولا بد من «الأكشن» والشطة والفلفل الحار حتى يكون الحب لذيذاً وملتهباً.. هذا ما وجدنا عليه آباءنا.. ولذلك تفشل كل زيجات الحب في العالم العربي.. لأن الحرمان واللوعة والعذاب والدموع والفراق انتهت أو انطفأت.. وظهرت الأمور المملة.. السعادة والسرور والمودة والرحمة وتحقق الأمل.. وكثيراً ما يبحث الأزواج والزوجات عن حب آخر يعيد إليهم اللوعة والحرمان والفراق والعذاب والدموع.. وهكذا يظل العشاق عشاقاً حتى يتزوجوا. كل خطوط الثقافة العربية تلتقي عند نقطة النقل وتفارق العقل والقلب.. حتى الكراهية بالنقل وحتى المعارضة بالنقل والموالاة بالنقل والدين بالنقل والإرهاب بالنقل.. وتصنيف الإسلام بالنقل.. هذا إسلام إخواني.. وهذا إسلام سلفي.. وهذا إسلام سني وإسلام شيعي وإسلام داعشي وإسلام قاعدي وإسلام متطرف وإسلام معتدل.. والإسلام لا يوصف أبداً.. ووصفه وتقسيمه خروج على الملة.. ومؤخراً.. ناقشتني إحداهن حول فوائد البنوك وأنها حرام وربا.. فقلت لها: في ذلك آراء.. فقالت: أنا مقتنعة بما قال مشايخي.. فقلت: ألا تستمعين إلى الأغاني؟ قالت: نعم.. قلت: هناك من يحلها ومن يحرمها.. ألا تأكلين اللحوم المحفوظة؟.. هناك من يحلها ومن يحرمها.. ألا.. ألا.. ألا مليون أمر في حياتنا بها رأيان.. أين عقلك؟ قالت: هكذا سمعت وهكذا اقتنعت. لذلك مات الاجتهاد في أمة العرب.. ولم يعد عندنا سؤال: ماذا قيل؟ بل عندنا سؤال: من الذي قال؟ لأن ثقافتنا سمعية بصرية لا عقلية وتديننا قولي لا قلبي.. والصورة متدينة والأصل يعلم الله به.. كل شيء في المركز التجاري الضخم يبرق ويلمع ويتلألأ لكن لا توجد بضاعة «والسؤال الدائم، ليس عندنا ما تريد.. ولكن ما رأيك في النظام؟». لا أطيق حضور ندوة أو منتدى أو مؤتمر في الأمة العربية ولا أطيق أن أسمع كلمة أو خطاباً أو أشاهد فيلماً أو تمثيلية أو مسلسلاً أو أستمع لأغنية.. فالعنوان الرئيسي هو: لا جديد.. لا عقل ولا قلب ولا مشاعر فيما يقال وإنما هي مهمة يؤديها من يؤديها ويقبض ثمنها.. الثقافة الببغائية هي السائدة.. أو قل هي ثقافة الزحام يغلب فيها الأعلى صوتاً والأكثر وسامة وجمالاً وأناقة.. وليس مهماً أن يكون هناك مضمون لذلك ساد الإرهاب الأمة وسيطر على ثقافتها.. لأن الإرهاب قائم على قدمي السمع والطاعة في المنشط والمكره.. لا نقاش ولا حوار ولا عقل ولا مخ ولا اجتهاد.. والسمع والطاعة ليس لله.. ولكن لزعيم التنظيم أو أمير الجماعة أو المرشد.. والعربي يحب من يعفيه من العقل.. ويفكر له ويقترح له ويلزمه.. يحب أن يكون كسولاً متواكلاً ولو أخذه من يفكر له إلى الهاوية. والإرهاب مثل الحب في العالم العربي.. قائم على «الأكشن» واللوعة والحرمان والعذاب والعنف والحماقة وجنود زعيم الإرهاب.. مثل العاشقة التي يضربها حبيبها بالحذاء ويسبها ويلعنها، ومع ذلك لا تستطيع أن تفارقه.. بل تتلذذ بالعذاب والإهانة، وتتمنطق بالحزام الناسف لترضيه. وقد قرأت يوماً في بعض أمهات الكتب العربية قولاً عرضته على عقلي واقتنع وهو أن العربي ثابت في الفتنة خامل في الجماعة.. وزدت على ذلك أن السبب في هذا أن الجماعة هي اجتماع عقول، وأن الفتنة تعتمد على النقل وليس فيها عقل.. فالفتن التي نسميها كذباً ثورات تبدأ صغيرة ثم سرعان ما تكبر لأنها عدوى.. والعدوى تعني النقل لا العقل.. ولذلك أيضاً نادراً ما تجد عملاً جماعياً عربياً.. ونجد دائماً فتناً عربية.. فقد قتل النقل العقل! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©