السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الموسيقى تملأ الفراغ بالرقص والحب

الموسيقى تملأ الفراغ بالرقص والحب
29 سبتمبر 2010 20:23
تتوافق الموسيقى والحركة في إطار المعنى عند فن “الباليه”، حيث يجد الجسد لغته الخاصة ويتحرك في تناغم استثنائي ودقيق بين الإيماءة والنغمة الموسيقية. هو فن الإيماء والرموز والصمت الذي يكشف عن لغة لا تقال بالكلمات. هو فن الروح التي تعبر عن نفسها بالبهجة والحزن والألم والحب.. وربما الموت. هو فن عالمي لم يعد محسوباً لأمة من الأمم، شاركت فيه أمم الغرب وأمم الشرق، حوّل لغة الشعر إلى نص شاعري، قدم للناس حكايات قيلت شعراً فلم يأبه بالشعر، بل خلق لنفسه شعرية خاصة. أسهم فن الباليه في انتقال الحكاية من مفهومها السردي قولاً إلى مفهوم سردي آخر ارتكز على الحركة والانفعال والعاطفة وكلها تقدم في إطار “هندسي” وتشكيلي وتعبيري صامت، حيث يمتلئ الفراغ، فراغ المسرح أو فراغ القاعة بحركة عنيفة أو شفافة قل نظيرها. حكايات شرقية وأخرى من الغرب تتحول إلى عمل راقص، عمل يعتمد نغمة الجسد في توازٍ مع نغمة الموسيقى التي تروي هذه الحكاية، وكأننا إذاً أمام مؤلف موسيقي يناظره مؤلف للحركة والأداء وكلاهما يجتمع ليعبر عن حكاية وردت عند أمة من الأمم؛ ولذا لا بد من أن يكون هناك مؤلف ثالث وهو مصمم الديكور والأزياء. لنقل إن هناك 3 عناصر داخلية وأساسية في فن الباليه، وهي “أولاً الموضوعة/ الثيمة” و”ثانياً الموسيقى” و”ثالثاً الأداء الراقص”. أما العناصر الخارجية المكملة، فهي أربعة: أولاً الديكور وثانياً الإضاءة وثالثاً الإكسسوار ورابعاً الملابس. ونتساءل: كيف يمكن أن تجتمع هذه في عمل واحد؟ فلا بد أن يكون بينها تناغم أقل ما يقال فيه إنه التناغم المحسوس الذي لا بد للمتلقي أن يشعر ويحس بوجوده معاً في كل لحظة طوال مدة العرض. لفن الباليه قواعد وأسس تكمل الخيال الموسيقي والأدائي، ومن قواعده حركاته الجسمانية، حيث الأوضاع الخمسة للقدمين والأوضاع الثلاثة للأذرع، وكيف يمكن تجسيد القفز والالتفاف السريع والطيران المباغت. لم يعرف فن الباليه رقصاً عل كامل القدم، بل ترى الراقص سائراً كالريح، راجعاً كالغيمة على أطراف أصابعه، وكأنه يحاكي البطات البحرية وهي تسير على الماء. كان لرقص البلاط أثره في نشوء هذا الفن الذي استقى منه تركيبته الثنائية فأبدع الفنان/ الإنسان في تحويل هذا التناغم إلى روح في فن، وفن يقبع في روح. بين نصين يتشكل الجسد مثلما تريده الموسيقى وتعبر الموسيقى مثلما تريد الحكاية، وتكتمل الصورة بين الجسد والموسيقى والحكاية في نسق ثلاثي يعطيك المتعة، أصابع أقدام تمشي، وأثقال الأجساد مختفية، والعاطفة والحزن والفرح تمشي على الأصابع.. أما الموت، فهو نهاية كل شيء. هذه صورة ما قدم الأسبوع الماضي في باليه “روميو وجولييت” من تأليف الموسيقار الروسي سيرجي بروكوفييف (1891 ـ 1953) عن مسرحية وليم شكسبير (1564 ـ 1616) “روميو وجولييت” التراجيدية الكبرى، وقد صمم الرقصات بنصها الأوبرالي فالنتين اليزاريف، أما تصميم المشاهد والأزياء فهو لأرنست غيد بريخت. قدمت العمل فرقة الأكاديمية الوطنية ـ بولشوي للأوبرا والباليه لمسرح جمهورية بيلاروسيا بمناسبة الأسبوع الثقافي البيلاروسي الذي أُقيم بالتعاون بين هيئة أبوظبي للثقافة والتراث وسفارة جمهورية بيلاروسيا لدى الدولة. أوبرا باليه “روميو وجولييت” تعتمد على دراما كلاسيكية ومعروفة في ذاكرة المتلقي، أي أن العرض لا يقدم دراما جديدة على صعيد النص الأدبي، حيث قرئ النص الشكسبيري أو عرفت تفاصيله من جميع المتلقين تقريباً. إذاً ماذا تقدم الباليه؟ إنها تقدم المستوى الثاني للإبداع في تحويل النص الشكسبيري إلى متعة بصرية متوهجة بالحركة وسابحة بالموسيقى على خشبة المسرح في تواز ومطابقة بين الحركة الراقصة والنغمة المتموجة بالإحساس والخوف والبهجة والمرح والموت وحتى العاطفة وهي تنبع من الذات نراها من خلال تنقل الجسد في روح النص الجديد. “روميو وجولييت” لوحات مرسومة بعناية مستوحاة من فضاء درامي تتآزر جمعيها في حركات جماعية للراقصين وهي تهبط وتصعد في تجسيد الحكاية التي ليس فيها جديد عند المتلقي، إنما جديدها صورتها الثانية “الموسيقى” وصورتها الثالثة “الرقصة”. ولكن هل تقل في الباليه قيمة النص الشكسبيري؟ أقول وأنا أتابع الباليه وعبر عاطفة الحزن والفرح وصراع الشخوص ولحظات القتال وبهجة لقاء الأحبة وألم الموت يتأجج النص الشكسبيري، بل إن المتلقي يشعر بأن شكسبير هذا السهم الخارق في تاريخ الحضارة قد نسج شعراً، حكاية قديمة، فلنقل إذاً إن الموسيقى والرقص لم يقوما في الباليه على أنقاض الحكاية، بل قاما وتأسسا على جسد الروح الشاعرة لشكسبير، وهنا لا بد أن يشعر المتلقي بأن الباليه يمتلك قوانينه وأنماطه التي تقترب من الشعر في الحكاية لا الحكاية في الشعر. الحكاية “روميو وجولييت” لا تعني شيئاً أسوة بأي حكاية في العالم، فليس أي حكاية يمكن أن تقدم في الباليه، إلا أن هذه الحكاية قدمت شعراً عبر انثيالات شكسبير فاستحقت أن تتحول إلى باليه. ولنقل أيضاً أن الباليه قد ألغت اللغة فتحولت إلى لغة صامتة هي لغة الجسد ولكنها لم تلغ روح الشعر في الأصل الذي جاء به شكسبير، وإلا كيف يمكن أن نفسر أن “روميو وجولييت” قد نسبت لشكسبير ولم تنسب لمن قال بها قبله كما يدعي الكثيرون؟ العرض المبهر كانت ليلة “روميو وجولييت” على مسرح قصر الإمارات شكلاً مختلفاً عن الليالي. ابتدأت بموسيقى هادئة قدمها ما يقرب من 40 عازفاً، بينما أغلقت ستارة المسرح، وعم الظلام الشفيف قاعة المسرح التي لم يبق فيها مقعد فارغ لم يملأ. كان صوت “الفلوت” الحزين ينذر عن واقعة آتية، عن قصة يتصدع لها القلب وتنثلم الروح وتتشقق النفس بالعبرات فيها. يأتي الكمان الحزين ليرد على صوت الفلوت النائي.. وتفتح ستارة المسرح على صوت البوق الصاخب، الصادح خلف جدران قلاع البارونات والأباطرة في مدينة “فيرونا” في إيطاليا إبان القرن الرابع عشر الميلادي. ينكشف المسرح عن رسوم معلقة على سقوف قاعة كبيرة، وفي العمق هناك بحر أزرق بعيد، وما بين جهتي المسرح اليسرى واليمنى يمتد جسر يفتح ويغلق وعلى الجهة الأخرى اليسرى من المسرح أيضاً. يقف شامخاً قصر عائلة جولييت وتبدو شرفتها المعروفة في تاريخ الأدب الشكسبيري واضحة، وهي الشرفة التي وقف تحتها روميو مناجياً ولهان “يغيب هذا المشهد الرائع عن نص الباليه، وهو مذكور في النص المسرحي”. الفصل الأول (فقدان الشرفة) ينفتح الجسر فتبدأ الباليه بمقدمة موسيقية ذات ألحان غنائية عريضة تتناوبها الوتريات وآلات النفخ الخشبية. تتألف “روميو وجولييت” من 3 فصول وقد ألفها بروكوفييف في 1936 وله أيضاً الحرب والسلام 1943 وبيتر والذئب 1936. يبدأ الفصل الأول على شاطئ البحر في مدينة فيرونا، حيث الشباب اللاهي والعابث يتلهى فيه العشاق وهم بعواطفهم يداعبون الموج، وفي هذا الجو يدخل روميو مونتاغيو ابن عائلة مونتاغيو التي تتصارع مع عائلة “كابوليت” التي تنتمي إليها جولييت. كان روميو بصحبة صديقيه المقربين بينغوليو وميركوتشيو، حيث يندمج الثلاثة في مرح الشباب. ويدخل ليتبالد ابن أخ السيد كابوليت، فيتعكر الجو كونه باحثاً عن المشكلات ومن هذا المشهد تبدأ الأزمة بين العائلتين، في الفصل الأول يتحول المشهد من شاطئ البحر إلى قصر كابوليت، حيث الحفل الراقص الذي تقيمه عائلة جولييت التي تبدو في غاية السعادة، حيث فرحها الطاغي بالحفل، وهنا يقدم والدها لها خطيباً، وهو “باريس”، إلا أن شخصاً مقنعاً، وهو أحد الثلاثة يلفت انتباهها وإذ به “روميو” فيقعان في الحب. في النص المسرحي وبعد انقضاء الحفل تذهب جولييت إلى غرفتها لتنام، إلا أنها من شباك شرفتها تسمع روميو يغني (يغيب هذا النص عن الباليه، حيث لا كلمات فيه): “ويحي اسم عائلتي هو عدوي يا ليلة مباركة أخاف أن يكون هذا الليل مجرد حلم إنه أجمل من أن يكون حقيقة” ويغرم العاشقان ببعضهما بعضاً، وفجأة يشاهد “تيبالد” روميو، وهو يقبل جولييت فيقرر قتله فيهرب روميو. في الباليه، كانت جوليت حمامة بيضاء وروميو يناغيها بياضاً وكأنهما عصفوران يتراقصان على أنغام موسيقى بروكوفييف. وبعد أن تحققت لتيبالد رؤية قبلة روميو لجولييت ظل يطارده بالدخول إلى المسرح من جهة اليسار والخروج من جهة اليمين. الفصل الثاني (التثليث) يبدأ بمشهد زواج روميو من جولييت ووقوف القس لورينزو بينهما، وتؤدى المراسيم ثلاثياً في امتزاج بين الأسود “لباس القس” والأبيض “لباس روميو وجولييت. رقصة التثليث هذه قدمت روعة فن الباليه، كانت تعبر عن الامتزاج بين العاطفة والملكوت، عندما يرفع القس بيديه كلتيهما جسد جولييت إلى السماء وكأنه يطلب مباركة الرب على الزواج المقدس. كانت حميمية الغرام بين روميو وجولييت قد لامست مشاعر الراهب لورينزو أملاً في أن ينتهي الصراع بين العائلتين بزواج هذين المحبين. ويظهر تيبالد ليفسد كل شيء فيتبارز معه ميركوتشيو الذي يلفظ أنفاسه بعد أن يجرح ولكن روميو ينتقم لصديقه فيقتل تيبالد. يبرع الراقص بشخصية “ميركوتشيو” في لباسه الأخضر والأبيض، وبصوت صليل السيوف يتجلى الإبداع. وحينما يقتل “تيبالد”، تقدم فرقة البولشوي مقطع العزاء والنحيب والسواد المجلل، حيث الرقص الفاجع والجثة المرفوعة على الأكف والمجاميع تتهادى. الفصل الثالث (اللعبة) هو لعبة، يغادر روميو غرفة جولييت ويأتي السيد والسيدة كابوليت بصحبة باريس الخطيب المقترح وترفض جولييت فتذهب إلى القس لورينزو. يعطي القس منوماً لجولييت ويدخل المقنعون الذين سيروون قصة الموت الحلمي الذي تتخيله جولييت ويأتي روميو فيراها مسجاة وكأنها ميتة فيشرب سماً ويموت إلى جانبها، ولكنها كانت نائمة فتصحو لتراه ميتاً فتنتحر بسكين يعود القس ليراقص جولييت وهو يعطيها منوماً لتخدع الأسرة قبل تزويجها من “باريس” بتمنيهم الزواج من روميو قبل موتها، وتتراقص المشاعر بين النوم/ اليقظة والسواد/ البياض، في فصل تلعب فيه الثنائيات الحياة/ الموت تارة هنا وأخرى هناك، وتنتهي بانتصار الموت في هذه اللعبة.. هنا يظهر شكسبير (1564 - 1616) الشاعر المبدع في النص ويغيب بروكوفيف، حيث ينصرف ذهن المتلقي إلى الحكاية كون المشهد في الباليه كان سريعاً. يبدأ الفصل الثالث بنقر على الأوتار قبل افتتاح الستارة، ثم رقص ثنائي بين روميو وجولييت في تحول من الرقص الثلاثي في الفصل الثاني “القس وروميو وجولييت” إلى الرقص الثنائي “روميو وجولييت” فقط. في جميع الفصول الثلاثة، لم يتغير الديكور “الجسر المفتوح والقصر ذو الشرفة العالية والبحر المزرق البعيد”. وعندما تقدم رقصة محاصرة عائلة جولييت لها نشعر بأن النص الأوبرالي يريد تقديم القصة الشكسبيرية؛ لأنها تتعقد هنا وربما يخاف بروكوفيف أن تضيع الحكاية بين عذوبة موسيقاه، ويدخل القس لورينزو فيغطي جولييت بملاءة كبيرة بعد نومها. ويدخل روميو فيصدم بموت جولييت. وهو من أجمل مشاهد تبادل الموت إثارة وحميمية خاصة عندما حمل روميو جثة جولييت على ظهره. وتدخل الأسرتان بعد موتهما من اليمين عائلة “كابوليت” ومن يسار المسرح عائلة “مونتاغيو” والموت يتوسط المسرح بجثتي روميو وجولييت الساكنتين حركة بطيئة وينغلق الجسر بعد أن كان مفتوحاً طوال المسرحية ليعلن انتهاء الحكاية. انغلاق ضفتي الجسر تنغلق ضفتي الستارة المسرحية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©