الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما بعد الحداثة وشرعية المتناقضات

ما بعد الحداثة وشرعية المتناقضات
29 سبتمبر 2010 21:02
يتطلب التلقي الجمالي لأعمال معرض “جائزة جميل 2009”، الذي يستمر حتى الرابع والعشرين من أكتوبر المقبل في مقر متحف الحضارة الإسلامية بالشارقة، من الناظر لا لتكرار مشاهدتها لأكثر من مرّة بهدف تعميق الوعي بها وبالدلالة الواسعة لكل منها فحسب، إنما يتطلب أيضا وعياً نظريا قابلاً للتحول بحكم أن كل عمل من هذه الأعمال يُنتِج المعرفة الجمالية الخاصة به. بهذا المعنى، تمثل هذه الأعمال الفنية التي تنتمي إلى فن ما بعد الحداثة، تحدياً نظرياً من المفترض به أن يسعى إلى إنتاج “خطاب” ثقافي مواز للخطاب الفني، فتقترح الجائزة، وأهدافها وسيرورتها والمكان الذي انطلقت منه، مَداخِل بعينها لمناقشة أعمال فنية ذات بنية وسياق خاصين. في مقدمة المطوية الخاصة بالمعرض، يَرِد التعريف التالي للجائزة: “هي جائزة عالمية جديدة تُقدَّم للفنانين والمصممين المعاصرين الذين يستلهمون أعمالهم من الحرف والتصاميم الإسلامية التقليدية. وتمَّ إطلاق هذه المبادرة من متحف فيكتوريا وألبرت بهدف استكشاف الحوار الثقافي بين التراث الفني الإسلامي والفن المعاصر والإسهام في إثراء النقاش حول الثقافة الإسلامية.” إن أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو: هل تحتاج الثقافة العربية والإسلامية بكل ما تشتمل عليه فنونها من عناصر إلى الالتفات إليها (الآن، وهنا)؟ لقد نشأت الجائزة في لندن العام 2006، بمبادرة وتمويل من “الشيخ محمد عبد اللطيف جميل الذي وضع تصورا للفكرة”. ما يعني أن الرجل، والفريق الذي يعمل معه، بادر إلى الردّ على خطاب مضاد للثقافة العربية والإسلامية ساد في أعقاب تفجيرات مترو الأنفاق في لندن العام 2005، من خلال موقف إنساني ومعرفي مثقّف ومتحضّر قائم على خطاب منفتح غير متجهم ومتوجّه إلى جمهور عالمي عريض من الفنانين والمصممين والجمهور. علماً أن ذلك الخطاب المضاد قد اتخذ له في بعض الأحيان وجها اختزل وكثّف إشكاليات سياسية وثقافية تعاني منها أقليات ومجموعات مهمّشة، كالعنصرية مثلا لا حصرا، والموقف المضاد لهذه العنصرية يدخل في صُلب ما تُنافح ضده فنون ما بعد الحداثة، إذ إن التعبير عن القضايا السياسية الصغيرة والتفصيلية يلجأ إليه فنانو ما بعد الحداثة لرفع صوت أفراد ومجموعات تعمل على قضايا حقوقية وإنسانية وسياسية، في الوقت نفسه الذي تعيد فيه هذه الفنون إنتاج مواقف من سياسات الهوية والسياسات المحلية وفعالية الأفراد الكفاحية. بهذا المعنى الثقافي، بكل مضامينه ومحمولاته السياسية، تنتمي “جائزة جميل” إلى زمنها الراهن وإشكالياته. بل إن زمنها ما بعد الحداثي هو الذي أنتجها. بالتالي من العسير أن تنطلق الجائزة من مكان غير شبيه؛ من مكان آخر بعيد عن مجتمعات ما بعد الحداثة بكل ديناميكيتها وتناقضاتها. وتأسيساً، يمكن القول إن حركة ما بعد الحداثة قد بات حضورها تاريخيا، أي أنها تيار عريض يعبّر عن نفسه بأدواته الخاصة، سواء عليه أأدرك الفنان ذلك أم لم يدركه، وأن ما بعد الحداثة تقوم فكرتها الأساسية، على هدم المرئي، أي هدم فكرة إعادة إنتاج الواقع في العمل الفني، كما هو سائد في الفنون الحديثة والكلاسيكية. ويعني هذا الأمر، أن فنون ما بعد الحداثة قد تنزع نحو ما هو تاريخي كموضوع أو مفهوم أو حتى فكرة، لكنها غالباً ما تكون مرتبطة بإنتاج قيم ثقافية ذات صلة بالهوية وبإشكاليات راهنة تخص الفنان أو شريحة اجتماعية ينتمي إليها. غير أن أعمال معرض الجائزة لا تطرح قضية سياسية مباشرة بل تركّز بوصلة ما بعد حداثتها باتجاه تشظي “ذات” الفنان إلى أكثر من “ذات” تنطوي كل منها على هويات متناقضة يتم إنتاجها بإدخال أكثر من نوع واحد من الفنون في العمل ذاته. ربما، يكون العمل “صالون ـ مواد مختلفة” للفنان حسن حجاج، المتنقل بين مرّاكش ولندن، أكثر تمثيلًا لهذه النزعة. ففي المقدمة وإلى الأسفل وعلى أرضية خشبية تقليدية الطراز، هناك أربعة أوعية (براميل) تحمل ماركة تجارية عالمية لنوع من الألوان أو الدهان الذي يُستخدم لأغراض منزلية، يحيط كل اثنين منها بطاولتين صغيرتين تقليديتين ما يشير إلى أن لهما وظيفة نفعية ما، وإلى الخلف منها مجلس هو عبارة عن صناديق من الكوكاكولا تعلوها مقاعد اسفنجية في ركن، إلى الأعلى منه، جدار أصفر يتقاطعه البرتقالي وتتكرر في هذه التقاطعات صورة الجمل العربي بما لا يُحصى من المرّات، فضلا عن صورتين لرجل وامرأة بلباسين مغربيين تقليدين وخزانة صغيرة فيها الكثير من المشروبات ذات الماركات العالمية. بالتأكيد، هناك تقصُّد في إنجاز العمل على هذا النحو، أي في تركيب هذه العناصر متعددة الثقافات إلى حدّ التناقض والتنافر وعدم الانسجام، لكنه تعبير قوّي عن إشكالية أخرى لا تتصل بالحال الراهنة للثقافة العربية والإسلامية بشيء بل تتخذ من واقع تشظي الهوية محوراً أساسيا تقوم عليه فكرة العمل، ورغم تاريخية هذه الإشكالية معرفياً وثقافياً إلا أن العمل بحدّ ذاته من الممكن هدمه هنا وإعادة إنتاجه هناك بكل بساطة، لأن فكرة الهدم وإعادة التأسيس هي واحدة من أكثر المشاغل التقنية والأسلوبية التي تشغل فناني ما بعد الحداثة. وبالتالي يصبح من الممكن إعادة إنتاج وعي يتعلق بالتلقي يختلف من مكان إلى آخر يتم فيه عرض العمل. لكن عمل “1001 صفحة” لأفرو أميغي، الإيرانية التي تعيش في الولايات المتحدة، أكثر تعقيداً إنما أكثر صفاء فنيا أيضاً. تقيم هذه الفنانة في قطعة واحدة من عملها، الذي هو سلسلة متصلة من الأعمال، جدلا بين النور والظل وتجعل من الفراغات التي تصنعها في التصميم الهندسي للعمل، المأخوذ من تصميم السجّاد والمنمنمات الفارسية، مساقط ضوئية تقع على تصميم آخر في الخلف من التصميم الأقرب إلى المتفرج، ليكتشف المرء بعد ذلك أن التصميم عبارة عن قطعة واحدة وأن التصميم الخلفي هو الضوء نفسه وقد تسرب من الفراغات فأنتج تصميماً موازياً، حيث تقوم أميغي بذلك على نحو غير متوقع يدهش عين المتفرج. في حين أن غياب العمل ككل متكامل يجعل من الكلام عليه مغامرة، فإن المادة الخام التي استخدمت في إنتاج العمل ذات خلفية سياسية راهنة ولافتة، فالمادة بلاستيكية شفافة من النوع الذي يُستخدم في تشييد مخيمات اللاجئين، بمعنى أن الذهاب عميقا في إنتاج تصميم إسلامي يوازيه بالمقابل طرح سياسي من خلال المادة الخام لقضية راهنة وعالمية، إذ إن اللاجئين موجودون في العالم كله بسبب إشكاليات سياسية. تلك هي الرسالة. لكن طبيعة الطرح هنا غير مباشِرة بل هي كامنة في خلفية العمل وطرائق إنتاجه ولو لم يتضِح ذلك من خلال مطوية المعرض فإن العمل للناظر إليه في راهنيته هو عمل حداثي يستلهم عناصر من الفنون التقليدية الإسلامية لا أكثر. وإذ لا يضير فنون ما بعد الحداثة التطرق إلى ما هو “منحطّ” أو مسكوت عنه وخفيّ في الثقافة، سواء الشعبية منها أو النخبوية، فإن الإيراني رضا عابديني، المقيم في هولندا، يذهب إلى ما قد طواه النسيان في الذاكرة الشعبية ليعيد تقديمه بوعي ثقافي وفني مختلف، ففي “أحلام التراب” مثلما في “الجسد” اللتين نفذهما بتقنية الطباعة الحريرية (سيلكسكرين) هناك ملصقات لأفلام إيرانية تنتمي إلى عهد مضى. غير أن ذلك ليس سوى ذريعة فنية جعلت من الحروف والكلمات خيالًا للجسد. ثمة خلفية ترابية تميل إلى الأصفر قليلا، وصورة جانبية لوجه امرأة صنعت لها الحروف والكلمات جسداً أبيض وآخر موازٍ على نحو ما يكون ظلّ الجسد عادة، فينتج الفنان عابديني بذلك رؤية شعرية حروفية غامضة للجسد الإنساني تتكئ على التناغمات والتوازنات التي يصنعها الفنان على السطح التصويري بما يتوافر عليه الخط من انسيابية وطواعية في التشكيل تجعل العمل مثيراً للإدهاش رغم البساطة البادية للعيان ودلالته الواسعة القائمة على التأويل لا على الطرح المباشر لإشكالية من نوع ما. أما في “علامات2”، فيقوم اللبناني كميل زخريا، المقيم في البحرين، بإنتاج زخارف يستلهمها من فن التصميم الهندسي الإسلامي، لكنها تخصه هو أي أنه يبتكر زخارف خاصة به، تتصف بأن بعدها الهندسي شديد الصرامة، لكنها في الوقت نفسه أقرب انتماء إلى البيئة والمجال. ففي حين أن هذه الزخارف نباتية تماماً فإن التحويرات التي يقوم الفنان بإدخالها إلى التصميم أقرب إلى “لعبة الخداع البصري” الذي يُحدِثُه التكرار في الشكل. فهي تنطوي على جانب تعبيري فردي عن شيء ما يتشظى إلى أحاسيس ومشاعر متدفقة وقابلة للتقليب على أوجه التأويل بحكم أنها تجريدية صافية وعلى تماس أكيد بالمرجعية الهندسية للزخرفة الإسلامية. أما سلسلة “يا علي مدد” للفنان الإيراني حسن خسرو زاده، المقيم في إيران،التي توفّر منها في المعرض عملان فقط، فربما هي الأكثر التصاقا بالثقافة الشعبية، أو بالأحرى بجانب من هذه الثقافة. غير أن الاعتبار الأساسي هنا لا يتوقف عند المزج بين فنون متعددة بل فيما يتجاوز ذلك إلى أسلوب الإنتاج الفني الذي يمزج بين السيلكسكرين والتصوير الفوتوغرافي من جهة والحروفية من جهة أخرى، إنما بطريقة بصرية تجعل كل عناصر العمل التشكيلي وحدة واحدة. فيرى الناظر إلى اللوحة صورا لأشخاص بلا ملامح وقد اتخذت أوضاعا جسدية مختلفة أكثر شبَها بتلك الصور التي تظهر فيها الفِرَق الموسيقية الشرقية أو ما يُعرف بالتخت الشرقي، إنما وقد بدت الشخوص المبهمة مشدودة إلى خلفية سوداء تتوزع عليها حروف، تُشكِّل أحيانا كلمات تبدو مفهومة، لتخلق بذلك تناغما لافتا بين الكتلة البشرية ودوامة حروف تقرّب العمل من فن الفيديو آرت ومونتاجه بسبب التفافها حول الكتلة البشرية، على نحو يوحي بأن هذه الشخوص تعيش في دوامة بالفعل. وهذا الميل نحو الثقافة الشعبية يجد صدى آخر له في العمل النحتي “أنا” لسوزان حيفونا، ألمانية ذات صلة عميقة بمفردات العمارة الشعبية في مصر وشاركت في بينالي الشارقة الدولي العام 2007، والذي هو عبارة عن “صناعة فنية متقنة” لمشربيات النوافذ في القاهرة التقليدية، لكنه على تماس أكثر مع اللون والظلّ بحيث يمنح العمل الناظر إليه تجربة جمالية متعددة بحكم تقلُّب الضوء الطبيعي عليه، فضلا عن حضور الجانب التعبيري الفردي في إنتاج المشربية. أما عمل سحر شاه، الباكستانية، التي تقيم في الولايات المتحدة، فتقوم فكرته الأساسية على التصميم، وتحديدا على معالجة الفراغ الداخلي للبناء،لكن شاه تقوم بصنيعها وفقاً للاشتراطات الهندسية الصارمة كما يمليها علم المنظور، فلا حضور للفرشاة أو أي ملمس آخر على السطح إلا طفيفا. وهي داخل هذا النزوع الهندسي تعيد إنتاج أرضيات ومنمنمات إسلامية في سياق تخييلي ربما يمكن إدراكه بواسطة المخيلة البشرية إنما من غير الممكن تنفيذه لتجعل منه بذلك عملا فنيا محضا يكتسب شروطه الفنية من داخله وليس لأسباب خارجة عنه. وإلى العمل: “رجاء لا تتقدم” لحمراء عباس، التي ولدت في الكويت وتعيش بين الباكستان والولايات المتحدة والحائزة جائزة لجنة التحكيم في بينالي الشارقة الدولي التاسع عن عملها “احتياطات المستقبل”، حيث تقوم فكرة هذا العمل على رصد طغيان الاستهلاك اليومي من خلال أطباق الطعام التي تُستنفد صلاحيتها مباشرة بعد الفراغ من استخدامها. لكن العمل يكاد يكون اختباراً ل”صمود” الثقافات المحلية في وجه طغيان الاستهلاك، فتقوم حمراء عباس بصناعة أطباق موازية إنما مليئة ب”ثقوب” هي حَفْر زخرفي إسلامي على ورق مقوّى من نوع خاص، بهدف إبراز التناقض بين فكرتي الاستهلاك ممثَّلَةً بالطبق وما هو أصيل في الثقافة اليومية للناس وقد أخذ استعارته من حضور الزخرفة بطابعها الإسلامي. ولا يمكن أن يكتفي المرء بتوصيف صنيع سيفان بيكاكي، التركي من أصول أرمنية، بأنه صنيع صائغ محترف بل هو فعل “ساحر فنان”. إذ على خاتمين يروي بيكاكي وبدقة متناهية سرديات كبرى ذات طابع إسلامي اجتماعي وحكايا أمكنة وأزمنة في مساحة لا تتجاوز استدارة إصبع رجل. صنيع عجيب حقا لا يحتاج إلى المخيلة وحدها فحسب بل كذلك إلى التمكن من إنتاج العمل الفني إذ يحتاج إلى دأب غير مسبوق، حيث الحفر والتلوين والنقش والخط العربي وتطعيم الذهب بالمجوهرات يمكن قياسها بالمللمتر مثلما يمكن احتساب وزنها بالميللجرام. أخيرا، ومع أن عناصر الفن الإسلامي التقليدي يمكنها التعايش مع عناصر حداثية في العمل الفني، بحكم طبيعة فنون ما بعد الحداثة، تبقى هناك ملاحظة أساسية، وفقا لأعمال معرض “جائزة جميل 2009”، تتمثّل في أن فنون ما بعد الحداثة، رغم نزعتها “التدميرية” لما هو سابق عليها، إلا أنها موقف جمالي فردي من العالم والمعرفة يتعامل مع الفن بوصفه إنجازا لعمل فني مميز ومكتمل الشروط، ويتضمّن تداخلا نصيا، إذا جاز التوصيف، بين ثقافات متعددة ومختلفة سواء أكانت فرعية أم أساسية، ويكتسب “شرعيته” من هويته المتناقضة والمتباينة والهجينة ومن استفادته من هذا التنوع وتوظيف عناصره في إنتاج أعمال فنية بأساليب إنتاجية عابرة للنوع الفني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©