السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السّوبرمان الأخـير

السّوبرمان الأخـير
26 أكتوبر 2017 02:55
يبدو أنّ الأدب قد ابتدع، قبل الفلسفة، فكرة «الإنسان الأرقى» surhomme النّيتشويّة، على نحو فتن إمبرتو إيكو Umberto Eco ودفعه إلى تأليف كتابه الجذّاب «من السّوبرمان إلى الإنسان الأرقى». وهو مجموعة من المقالات كتبت في مناسبات متفرّقة، ولكنّها عل تنوّعها ظلّت مشدودة إلى فكرة واحدة ثابتة تعود إلى غرامشي Gramsci، وردت في كتابه «الأدب والحياة القوميّة»، في الفصل الثّالث منه «الأدب الشّعبي»، حيث يقول: «أعتقد أنّه يمكن أن نثبت أنّ فكرة»الإنسانيّة الأرقى surhumanité الّتي تنسب إلى نيتشه لا يرجع أصلها ومنوالها النّظريّ إلى زرادشت، وإنّما إلى الكونت دي مونت كريستو». للتّعمّق في هذه الفكرة شرع إيكو في القيام بسلسلة من التّحقيقات في مجال الرّوايات الشّعبيّة بمختلف تنويعاتها من ألكسندر دوما Alexandre Dumas وفرسانه الثّلاثة وهم يحاربون الكاردينال رشيليوRichelieu، إلى إيان فليمنغ Ian Fleming، مبتدع شخصيّة الجاسوس الّذي لا يقهر جيمس بوند James bond حامل الرّقم الشّهير 007. وقد شملت بحوثه في مجال «قصص البطولة» نماذج مختلفة من الإنسان الأرقى، وجدها في أبطالٍ مختلفي الطّبائع والقيم، من مونت كريستو إلى روكمبول Rocambole، ومن أرسين لوبان Arsène Lupin إلى طرزان، ومن جيمس بوند إلى السّوبرمان. وعموماً يمكن اعتبار هذا الكتاب الشّيّق نزهةً رائقة في غابات السّرد المختلفة، في شعاب نوع من الأدب كثيرا ما وسم على نحو تحقيريّ بنعت «الأدب السّفليّ»، «sous-littérature» الّذي لم يكتسب آنذاك ألقاب نُبله حتّى يلتحق بمرتبة الأدب الرّسميّ. ولكنّه، في واقع الأمر، صنف من أصناف «الثّقافة السّفلى»، «sous-culture»، كانت فيه الرّواية الشّعبيّة (وأنموذجه الرّواية الانجليزية في القرن الثّامن عشر) نتاج الصّناعة الثّقافيّة الّتي كانت تتّجه في ذاك الوقت إلى مستهلكين جدد من برجوازيّة المدن. أسطورة سوبرمان في رحاب تلك الثّقافة، وذاك الصّنف من الأدب، نشأت أسطورة السّوبرمان الّتي امتصّت كلّ الأساطير السّابقة من هرقل إلى بيتر بان Peter Pan، البطل المزوّد بمواهب خارقة. فالبطل الّذي يتمتّع بقوى تفوق كثيرا مستوى البشر الفانين، إنّما ذلك ثابت من ثوابت المخيال الشّعبيّ. غير أنّ ما كان يجعل سوبرمان مختلفا عن طراز الأبطال السّابقين هو أنّه ظهر في مجتمع صناعيّ أصبح فيه الإنسان مجرّد رقم داخل نظام يُقرّر له ما يفعل، وأضحت فيه القوّة الفرديّة مضطهدة مقهورة أمام قوّة الآلة الّتي حلّت محلّ الإنسان. في ذاك المجتمع تحتّم على البطل أن يكون مفرط البطولة حتّى يُلبّي، على نحو يتجاوز حدود الخيال، شروط القوّة الخارقة الّتي تغذّي استيهامات المواطن البسيط، فاستبدّت به أيّما استبداد دون أن يتوصّل إلى إشباعها أو إرضائها. فسوبرمان بهذا المعنى هو الأسطورة الأنموذجيّة لهذا الصّنف من القرّاء الّذي صار يستهلك الرّواية في شكل صور مرسومة BD. غير أنّ هذا البطل الّذي نشأ في أسواق الرّواية الشّعبيّة، لا في رحم الأساطير القديمة، قد كانت صورته، خلافا للمعهود، مزدوجة. فهو من ناحية يمتلك قوى غير أرضيّة، لأنّه أتى من كوكب آخر، فنشأ في الأرض وترعرع، واكتشف فيها قواه الّتي لا حدود لها. فهو يستطيع أن يطير في الفضاء بسرعة الضّوء، ويستطيع، بمجرّد أن يضغط على يديه، أن يحوّل الفحم إلى ألماس، ويستطيع بأشعّة إكس الّتي تخرج من عينيه أن يرى ما يوجد في أيّ جسم ولو من مسافات بعيدة لانهائيّة في بعدها، ويستطيع بسمعه الخارق أن يسمع كلّ الأحاديث مهما يكن مصدرها. وفوق كلّ ذلك هو بهيّ الطّلعة سخيّ معطاء، قد نذر نفسه لمحاربة قوى الشّرّ، فكان للشّرطة خير نصير. ولكنّه من ناحية أخرى هو يعيش بين النّاس البسطاء بهويّة زائفة حاملا اسم صحفيّ يُدعى كلارك كانت Clark Kent، يبدو في الظّاهر خجولا فَزِعا متوسّط الذّكاء، مرتبكا في تصرّفاته، يحمل نظّارة لنقص في بصره... وهو يخضع خضوعا تامّا لجبروت زميلته المتسلّطة الصّحفيّة لُويِس لاين Lois Laine الّتي كانت تزدريه لأنّها كانت تقارنه بسوبرمان المغرمة به أيّما غرام. كلّ هذه الملامح الّتي تقمّصها كلارك كانت تمثّل على نحو بارع ملامح صنف القارئ المتوسّط المكتظّ بالعقد، المعرّض كلّ يوم لاحتقار أمثاله من البسطاء وازدرائهم. وبذلك صار سوبرمان بمقتضى قاعدة التّعاطف والتّماهي مع البطل يمثّل، «كلّ موظّف بسيط، في أيّ مدينة من مدن أميركا يغذّي سرّا الأمل في أن ينبعث يوما من أنقاض شخصيّته، إنسان أرقى، قادر على تعويض سنواته التّافهة». أسياد الذاكرة وإذا كان إيكو في كتابه هذا الشّيّق قد فتنته فكرة غرامشي، فاجتهد في إثباتها من خلال دراسته لنماذج متنوّعة مختلفة من أبطال الرّواية الشّعبيّة فإنّ فكرة غرامشي في حدّ ذاتها يمكن أن تُوسّع أو تُستبدل تماما. فلا الكونت دي مونت كريستو ولا زرادشت ولا أيّ شخصيّة أخرى كانت أوّل من مثّل، ولا آخر من سيمثّل، الإنسان الأرقى، لأنّ أصول هذه الفكرة ضاربة في القدم، منتشرة في الكثير من الثّقافات، وإن كانت دائما ملتبسة التباسا عظيما بفكرة البطل الخارق. فإذا سلّمنا بأنّ الأبطال لا تخلّدهم أعمالهم الخارقة فحسب، وإنّما الذّاكرة الّتي تمجّدهم وتجعل صيتهم باقيا على مرّ الزّمان، ثمّ استحضرنا في الآن نفسه أنّ أسياد الذّاكرة القدامى كانوا منذ الإغريق وغيرها من الحضارات القديمة، من الشّعراء والكهّان والحكّام العادلين، ثمّ اعتبرنا أنّ المتحكّمين في لعبة الخلود والنّسيان هم أسياد الذّاكرة، جاز لنا أن نفترض أنّ الإنسان الأرقى الأوّل كان في أصل النّشأة سيّدا من أسياد الذّاكرة. فأن يكون إنسان الذّاكرة هو الإنسان الأرقى، ويمكن أن يكون السّوبرمان الأوّل، فتلك فكرة ليست بالجديدة. فقد عبّر عنها خورخي لويس بورخيس في مجموعته «تخييلات قصصيّة»، Fictions، بشيء من الاختزال في غضون قصّته الرّائعة «فيونس أو الذّاكرة»، وهو يصف بطله إيريني فيونس Iréné Funes بهذه العبارة الّتي أوردها على لسان بيدرو لياندرو إيبوتشي (وهو شخصيّة خياليّة) في مقال كتبه متحدّثا عن فيونس، هذا الفتى الآتي من أرياف أورغواي، بأنّه «المبشّر بمجيء كلّ إنسان أرقى»، وأنّه «زرادشت في حال متوحّشة بلهجة محلّيّة». ويبدو أنّ مربط الفرس في هذه القصّة هو ذاك الحوار الّذي أجراه الرّاوي مع فيونس قبل نصف قرن، لمّا «بدأ إيريني يعدّد باللاتينية والإسبانيّة حالات الذّاكرة العملاقة المذكورة في موسوعة»التّاريخ الطّبيعيّ«، كقورش، ملك الفرس، الّذي كان يستطيع أن ينادي على كلّ جنديّ من جيوشه باسمه، والإمبراطور ميثريدات الّذي حكم بالعدل باثنتين وعشرين لغة كان يتكلّمها النّاس في إمبراطوريته، وسيمونيدس الّذي ابتدع فنّ التّذكّر، ومترودورس الّذي كان يعلّم فنّ رواية ما سُمع مرّة واحدة بكلّ أمانة». وقد وصف بورخس هذه الشّخصيّة في بعض محادثاته بأنّها شخصيّة شديدة الجهل، إلاّ أنّها تمتلك ذاكرة مثاليّة. فقد مات فيونس وهو في ريعان الشّباب رازحا تحت أثقال ذاكرة رحيبة ثقيلة لا يحتملها أحد. فمأساة فيونس أنّه لا يستطيع أن ينسى. ومعنى ذلك أنّه عاجز عن التّفكير، لأنّ التّفكير يقتضي التّعميم أو أفكارا عامّة، أي «أن ننسى» ما لا يحصى ولا يعدّ من الجزئيّات في الواقع. وهو نسيان لم يكن بطلنا بقادر عليه. فهو مثلا لا يستطيع أن يعيد تشكيل الماضي، وإنّما كان بمقدوره أن يُحييه. فما استغرق من الأحداث (س) من الزّمن في الماضي يقتضي أيضا (س) من الزّمن حين يستعاد مرّة أخرى في الحاضر. وينقل راوي القصّة أنّ فيونس قد فعل ذلك: «مرّتين أو ثلاثا، تمكّن فيها من إعادة بناء يوم بأكمله، ولم يتردّد أبدا في ذلك، إلاّ أنّ كلّ إعادة بناء كانت تستغرق يوما بأكمله. وقال لي: عندي وحدي من الذّكريات ما يفوق ذكريات كلّ البشر قاطبة منذ أن كان العالم عالما، [...] ذاكرتي يا سيّدي مثل أكوام القمامة». إلى هذه السّلالة من إنسان الذّاكرة، أو الذّاكرة المفرطة hypermnésie، كان ينتمي بطل بورخيس. وهو نقيض «إنسان النّسيان». فقبل أن يصدمه الحصان ويجعله كسيحا ملازما الفراش إلى الأبد منذ سنّ التّاسعة عشرة، عاش فيونس كأنّه في منام، ينظر دون أن يرى، وينصت دون أن يسمع شيئا، والأدهى من كلّ ذلك «كان ينسى كلّ شيء، أو يكاد». وإذا كان من المفروض أن تقلب الكوارث والحوادث الصّادمة الإنسان السّليم إلى إنسان «ينسى كلّ شيء» إذا ما أصاب دماغه عطب فإنّ حادث الحصان قد جعل من فيونس إنسانا لا يستطيع أن ينسى شيئا. وهذا الحادث العجيب يمثّل حالا من الأحوال القصوى الّتي يندر أن تصادفنا في الحياة اليوميّة، إلاّ أنّها شبه شائعة في الأدب والسّينما أيضا. فإذا كانت ذاكرة فيونس المفرطة تسجيليّة لا تفرّط في شيء فإنّها تظلّ ممثّلة لصنف نادر من الذّاكرة هي الذّاكرة الحيّة الطّبيعيّة المثاليّة، تلك الّتي يتمتّع بها قلّة من النّاس، فتجعلهم في مصافّ الإنسان الأرقى. ولكنّها ليست الصّنف الوحيد شريطة أن نعتبر فكرة الإنسان الأرقى موضوعا أدبيّا بالدّرجة الأولى، قد ترجم قصصيّا بطرق شتّى، تارة بوساطة الأبطال الخارقين من طراز السّوبرمان، وطورا بوساطة إنسان الذّاكرة المفرطة. «مانديل» زفايج ويبدو أنّ الأدب والسّينما قد افتتنا بهذا الموضوع وعالجاه بطرق مختلفة. فقد استوحى ستيفان زفايج موضوع قصّته «مانديل بائع الكتب القديمة» من فكرة الإنسان الأرقى، وجسّمها من خلال شخصيّة جاكوب موندال. وقد وصفه زفايج وصفا استبق فيه على نحو عجيب ملامح السّوبرمان في هذه الفقرة البديعة. يقول: «فقد كان ذلك اليهوديّ الغاليسي الصّغير، النّحيل، القبيح الخلقة، الكثّ الشّعر، جبّارا من جبابرة الذاكرة. فكأنّ خلف ذلك الجبين الشّاحب اللّون، القذر، حتّى بدا كأنّه مغطّى برغوة رماديّة، قد انتقش، كما ينتقش على البرونز، بِيَدِ الذّاكرة الشّبحيّة اللاّمرئيّة، كلّ اسم وكلّ عنوان طبع على صفحة الكتاب الأولى. فقد كان في مستطاعه أن يستعرض لكلّ كتاب، سواء صدر أمسِ أو قبل مائتي عام، ودون تردّد، اسم مؤلّفه، ومكان الإصدار، وثمنه الجديد أو القديم إن كان مستعملا؛ بل كان يتذكّر بوضوحٍ عجيبٍ، تسفير كلّ كتاب، وتصاويره، ونسخه الأصليّة المدرجةَ في الملحق، بل كان يملك لكلّ الكتب، سواء تلك الّتي أمسكها بيده أو تلك الّتي رآها عن بعد في واجهة مكتبة، أو في مكتبة من المكتبات، رؤية صافية، كرؤية فنّان يتأمّل في أعماق روحه عملا غير بادٍ بعدُ لعيان الناس، ولمّا يُشرعْ بعد في ابتداعه. [...] بل كان يعرف المكتبات أفضل من أصحابها؛ ويحفظ عن ظهر قلب ما يخزّنه التّجار الكبار من كتب أفضل من هواة المجموعات المزوّدين بقوائم وجذاذات، رغم أنّه ليس مزوّدا بشيء آخر عدا سحر التّذّكر الّذي لا يضاهى،». لا يعرض زفايج في هذه اللّوحة بورتريه جاكوب موندال فحسب، وإنّما يرسم ملامح ذاكرة مفرطة ذات طريقة جديدة في التّذكّر مختلفة عن ذاكرة فيونس التّسجيليّة التّصويريّة. فهي شبيهة في نظامها بترتيب الفهارس، وتنظيم الموسوعات والكاتالوجات والمجاميع القديمة، وحتّى خزائن الكتب وبيوت الحكمة والمكتبات... ورغم ذلك، لم يكن جاكوب موندال في تلك القصّة، القريبة إلى حدّ مّا من أجواء الدّيستوبياdystopie السّوداء، مجرّد ذاكرة تختزن كمّا هائلا من الفهارس وثبت القوائم... إنّما كان يمثّل أنموذجا سابقا لأوانه من الإنسان الدّيجيتاليّ، الّذي يوجد في شكل افتراضيّ في ذاكرة الحواسيب، وفي شبكات الإنترنت العملاقة. فبطل زفايج يمثّل آخر حلقة من سلالة إنسان الذّاكرة المفرطة. ويبدو أنّ نهاية هذا الإنسان قد تقرّرت إبّان ظهور الأنظمة الكليانيّة، حيث غدا الإنسان فيها «زائدا على الحاجة»، حسب عبارة حنّة أرندت الصّادمة، ونفاية من النّفايات. ففي «مجتمعات الرّقابة»، يراقب الإنسان كما تراقب الأشياء. ومن لا يراقب وينفلت من الرّقابة يُلقى في جحيم المعتقلات إلى الأبد. ولعلّ طرافة هذه القصّة تعود إلى أنّها لا تعرض علينا بطلا يضاهي السّوبرمان والجبابرة في عظمة ذاكرته، وإنّما تعرض لنا تشخيصا لعالمها، أو للحظة وعيها الكارثيّ بعالمها في «نهاية التّاريخ». فحياة جاكوب موندال هي حياة من كان يعيش خارج الرّقابة وخارج التّاريخ في عالم أفلاطونيّ علويّ مثاليّ متناغم، ولكنّه، بعد أن قبضت عليه أجهزة الرّقابة من بوليس سرّيّ وشرطة وجيش... وتعرّض لعنفها وبطشها طيلة سنتين في صقيع بعض المعتقلات، انقلب دفعة واحدة من إنسان «خطير الشّأن فريد» إلى «خرقة بائسة» هي أنموذج من «الإنسان الزّائد على الحاجة»، صنيعة المعتقلات، وهو أقصى ما بلغه الإنسان في درجات الشّرّ الجذريّ عندما يُفْرط ويُفَرّط في إنسانيته. يقول زفايج واصفا نهاية بطله في لهجة جنائزيّة «شيء مّا بدا في نظرته قد انكسر إلى الأبد، نظرته الّتي كانت فيما مضى هادئة وواثقة؛ شيء مّا قد تحطّم [...] لا بدّ أنّ عينيه المتعوّدتين منذ عشرات السّنين على رؤية أرجل الذّباب الدّقيقة من حروف المطبعة قد رأتا أشياء مرعبة في حديقة البشر المسيّجة بالأسلاك الشائكة [...] والأكثر فظاعة من ذلك كلّه هو: أنّ دعامة من دعائم ذاكرته المذهلة قد تهاوت، فهوى البنيان كلّه [...] لم يكن مانديل كما كان مانديل. ولم يعد أعجوبة العالم، بل صار خرقة بائسة، ذقنا وملابس، يتنفّس بعسر، [...] صار فضيحة، وشخصا قذرا، نتنا، قبيح الهيئة، طفيليّا ثقيلا.». وبانقلاب جاكوب موندال إلى «خرقة» يكون قد انتقل إلى عالم الأشياء اللاّبشريّ، وكون النّفايات. إنّ جاكوب موندال يمثّل جيلا كاملا من إنسان الذّاكرة، قد عرف أمجاد الذّاكرة الحيّة المفرطة وجبروتها، ولكنّه كان يمثّل في الآن نفسه نهاية ذاك الجيل الخالد، تلك النّهاية البائسة الشّبيهة بالكارثة حين تتهاوى الأعمدة ويتهافت البنيان. «جوني» جبسون ولكن في عوالم الأدب العجيبة لا شيء يحيا ولا شيء يموت. فالأبطال الّذين يندثرون هنا في هذه القصّة، ينبعثون هناك في قصّة أخرى. فبعد زفايج كان ينبغي أن ننتظر نحو خمسين سنة حتّى يصدر ويليام جبسون William Gibson مجموعة قصصيّة من الخيال العلمي سنة 1986، عنوانها «محفوراً على الكروم» مثّلت آنذاك الأعمال الأولى لتيّار في الكتابة الأدبيّة ارتبط بصنف من الخيال العلميّ يدعى «cyberpunk» (حرفيّا: السّيبرانيّة المارقة) كان ويليام جبسون أحد معلّميه الكبار. تتضمّن هذه المجموعة قصّة «جوني الذّاكرة»، «Johnny Mnemonic» الّتي أخرجها للسّينما روبار لانغو،Robert Longo، وأدّى دور البطولة كينو ريفيز Keanu Reeves. يعتبر جوني هذا سليل جاكوب موندال. ولا يختلف عنه إلاّ في نوع الذّاكرة. فقد أصبحت في هذه القصّة صناعيّة، بل ديجيتاليّة، في عالم لم يعد يعوّل فيه على الذّاكرة الطّبيعيّة الحيّة، وإنّما على ذاكرة من نوع أخرى، هي خليط من الجسم البيولوجي وقد زرعت فيه أشياء إلكترونيّة من صنع التّكنولوجيا المتطوّرة جدّا. وهو يشبه جاكوب موندال في وجوه كثيرة. فمهنته هو أيضا حمّال، هذا يحمل الكتب ليبيعها، وذاك يحمل لزبائنه معطيات رقميّة تشحن في شرائح من السيليسيوم silicium زرعت في جمجمته، وكانت تسمح له بتخزين المئات من الميغا أوكتات égaoctets من المعلومات الّتي كانت تتعرّض دوما للقرصنة والسّرقة، ونقلها بكلّ أمان.  يمثّل كلا البطلين، جاكوب موندال في قصّة زفايج، وجوني في قصّة جبسون، ما يسمّيه ريجيس دوبريه بالإنسان الوسائطي، Hommedium، وهو إنسان متغيّر الوجوه في التّاريخ، إلاّ أنّ وظيفته ثابتة. وهي: نقل الأخبار والمعلومات مهما يكن نوعها. ولمّا كان هذا الإنسان ضلعا من مثلّث، هو المثلّث الوسائطيّ، وكانت أضلاع هذا المثلّث الثّابتة هي: الدّولة والأنتلجنسيا ووسائل الاتّصال، أمكننا اعتبار إنسان الذّاكرة في كلّ تجلّياته في التّاريخ ممثّلا لوسائل الاتّصال، بل مهيمنا عليها. ولا تتغيّر صور هذا المثلّث في التّاريخ إلاّ إذا تغيّرت طرق اشتغاله. آية ذلك أنّ أدنى تحوير يطرأ على ضلع من أضلاع هذا المثلّث ينعكس تأثيره حتما على الضّلعيْن الآخرين. فإذا ما حدثت على سبيل المثال ثورة في تقنيات النّقل كالانتقال من النّقل الشّفويّ الحيّ إلى النّقل الكتابي، أو الانتقال من الذّاكرة الحيّة إلى الذّاكرة الرّقميّة، فإنّ ذلك يُحدث ثورة في تاريخ أنتلجنسيا مّا وتحويرا عميقا في طرائق اشتغال الدّولة. وقد مثّلت قصّة زفايج أنموذجا رائعا يؤكّد أنّ طرائق اشتغال الدّولة الكليانيّة قد احتاجت في مجتمع الرّقابة الشّاملة إلى نوع جديد من الذّاكرة التّقنيّة، لها أعوانها الجدد، في جمع المعلومات وتخزينها والتّصرّف فيها. وعلى هذا النّحو يمكن اعتبار جاكوب موندال، وقبله إيريني فيونس، أنموذج الإنسان الكارثيّ الّذي شهد، كدون كيشوت من قبلهما، نهاية عصر بأكمله كان يعوّل على خدمات الذّاكرة الحيّة وأنواعها المختلفة، وبدايات ظهور عصر الإنسان الدّيجيتالي.  فقبيل سنوات من ظهور الحواسيب الأولى كان الكاتب الأنجليزيّ هربرت جورج وايلز، Herbert George Wells، الشّهير بكتابة روايات الخيال العلميّ (كـ «آلة استكشاف الزّمن» 1895، و«حرب العوالم» 1898)، قد زفّ بشرى ظهور هذا الإنسان في كتابه «الدّماغُ العالَمُ»، «World Brain». وهو مجموعة مختارة من المقالات نشرها وايلز سنة 1938 تضمّنت سلسلة من المحاضرات ألقاها بين 1936 و1937 عرض فيها مشروع «الدّماغ العالَم»، وهو يقصد من هذه العبارة مشروع موسوعة كونيّة، تحوي ملخّصات مرتّبة تجمل معظم المعارف المعاصرة الّتي أنتجها النّوع البشريّ. ويحرّر هذه الملخّصات مختصّون يشرف عليهم فريق من موظّفي المعرفة. الّذين يتولّون اختيار الخبراء، وفهرسة المواضيع وإعدادها يوميّا لتكون جاهزة للاستعمال العموميّ. وتكوّن هذه الموسوعة الأسس المادّيّة الّتي ينهض عليها الدّماغُ العالَمُ، أو ما يسمّيه «عضو العالم الجديد»،a new world organ لجمع المعرفة وترتيبها وتلخيصها ونشرها. إنّ ما حلم به وايلز، وتخيّله بورخس وزفايخ في قصّتيهما، وقد عاش ثلاثتهم في فترة متقاربة، ليدعو إلى العجب. فالقاسم المشترك بينهم جميعا هو أنّهم قد تصوّروا نماذج مختلفة من الذّاكرة المفرطة، إلاّ أنّها ظلّت على اختلافها ذاكرة بشريّة خالصة. وهي بطبيعة الحال تختلف كلّيا عن الذّاكرة الدّيجيتاليّة الّتي تعمل البرمجيّات الرّقميّة كلّ يوم على تطويرها وتجديدها كلّما تغيّرت برامج البحث العلميّ. يكفي في هذا السّياق أن نستحضر برنامجا البحث العملاقين التّوأمين اللّذين بعثا في وقت متزامن تقريبا، هما: «مشروع الدّماغ البشري Human Brain Project للاتّحاد الأوروبيّ» (2013 - 2023)، و«مبادرة الدّماغ Initiative Brain لبراك أوباما» (2014-2026). وكلاهما يعتني بالدّماغ وهندسته ووظائفه في علاقته بالتّكنولوجيات الرّقميّة، وهو ما سيؤسّس لحدود علميّة جديدة خاصّة بالقرن الحادي والعشرين، بعد حدود القرن العشرين الّذي هيمنت عليه الفيزياء النّوويّة والبيولوجيا. مانديل.. الافتراضي استوحى ستيفان زفايج موضوع قصّته «مانديل بائع الكتب القديمة» من فكرة الإنسان الأرقى، وجسّمها من خلال شخصيّة جاكوب موندال. وقد وصفه زفايج وصفاً استبق فيه على نحو عجيب ملامح السّوبرمان، حيث رسم ملامح ذاكرة مفرطة، ذات طريقة جديدة في التّذكّر، وهي شبيهة في نظامها بترتيب الفهارس، وتنظيم الموسوعات والكاتالوجات والمجاميع القديمة، لكنه لم يكن مجرّد ذاكرة تختزن كمّاً هائلاً من الفهارس وثبت القوائم... إنّما كان يمثّل أنموذجاً سابقاً لأوانه من الإنسان الدّيجيتاليّ، الّذي يوجد في شكل افتراضيّ في ذاكرة الحواسيب، وفي شبكات الإنترنت العملاقة. فبطل زفايج يمثّل آخر حلقة من سلالة إنسان الذّاكرة المفرطة. فكرة قديمة وملتبسة لا الكونت دي مونت كريستو ولا زرادشت ولا أيّ شخصيّة أخرى كانت أوّل من مثّل، ولا آخر من سيمثّل، الإنسان الأرقى، لأنّ أصول هذه الفكرة ضاربة في القدم، منتشرة في الكثير من الثّقافات، وإن كانت دائماً ملتبسة التباساً عظيماً بفكرة البطل الخارق. أسياد الذاكرة إذا سلّمنا بأنّ الأبطال لا تخلّدهم أعمالهم الخارقة فحسب، وإنّما الذّاكرة الّتي تمجّدهم وتجعل صيتهم باقيا على مرّ الزّمان، ثمّ استحضرنا في الآن نفسه أنّ أسياد الذّاكرة القدامى كانوا منذ الإغريق وغيرها من الحضارات القديمة، من الشّعراء والكهّان والحكّام العادلين، ثمّ اعتبرنا أنّ المتحكّمين في لعبة الخلود والنّسيان هم أسياد الذّاكرة، جاز لنا أن نفترض أنّ الإنسان الأرقى الأوّل كان في أصل النّشأة سيّدا من أسياد الذّاكرة. فأن يكون إنسان الذّاكرة هو الإنسان الأرقى، ويمكن أن يكون السّوبرمان الأوّل، فتلك فكرة ليست بالجديدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©