الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حتى الشعر الحديث نهل من الروحانيات

18 يوليو 2014 02:56
محمد الغزي* لا شكّ في أنّ الجوانب الروحية كانت وما تزال من قوادح الكتابة الشعرية ومن أسبابها القويّة: فمن روافد الشعر تلك الوشائج العميقة التي تشدّنا إلى السماء، إلى الماوراء، إلى الغيب، فما من شاعر إلاّ ويحمل جمرة المقدّس فيه، يستضيء بها في ليل العالم، ويستدلّ بها كلّما تداخلت أمامه السبل. وشعرنا العربي لا يختلف في هذا عن الشعر الإنساني بل ربّما كان أكثر ارتباطا بالروحي من أشعار الشعوب الأخرى، وعبارة الشعر المتحدرة من اللغات الشرقيّة القديمة تنطوي على معاني الابتهال والذكر والشعيرة (وليس معاني الشعور والمشاعر كما كان يردّد الرومنطيقيون). لن أتوقّف طويلا عند الشعر القديم الذي استرفد في الكثير من نماذجه هذه الجوانب الروحية ولكن سأقتصر على الشعر الحديث الذي استدعى هو الآخر هذه الجوانب وحوّلها إلى إيقاع متواتر في الكثير من نصوصه.. وفي هذا السياق أشير على وجه الخصوص إلى استدعاء المناخات الصوفية في الشعر الحديث والتي باتت سمة متميّز التجربة الشعرية العربية الحديثة. أدونيس اهتمّ بالتصوّف لإيمانه بأنّه دعوة لتحرير العقل الباطني، وهذا ما جعله يقرن في مناسبات عديدة بين التصوّف والسوريالية ويجدل علائق فكريّة وفنيّة بينهما. الكتابة الصّوفيّة تصدر في رأيه، عن الرؤيا، كما تصدر الكتابة السورياليّة عن اللاّوعي، والمتصوّفة يعوّلون على «الإملاء المتحرّر من كلّ رقابة يمارسها مثلما يعوّل السورياليّون على «الكتابة الآلية»، وشطحات البسطامي، في رأيه خير مثال على هذا النّوع من الكتابة التي يصدر فيها الإنسان عن طور يتجاوز طور العقل، ويتساءل أدونيس بصيغة الإنكار قائلا: «أنا لا أفهم كيف يقدر شاعر عربيّ أن يكون سورياليّا أو أن يدرس الحركة السّورياليّة دون أن يكون صوفيّا أو يدرس الحركة الصّوفيّة». وعلى هذا الأساس يدعو أدونيس شاعر اليوم أن يأخذ من الصّوفيّة إرادة الكشف المستمرّ والنّضال ضدّ المنطقيّة العقلانيّة. أمّا البيّاتي فقد اهتمّ بالتصوّف لأنّه يقدّم له «البطل النموذجي الذي يعبّر عن المحنة الاجتماعيّة والكونيّة»، من هنا كانت صوفيته، إذا استعرنا مصطلح عز الدّين إسماعيل «صوفيّة ملتزمة» والتي هي في صميمها تعبير عن الوجه الجمالي لموقف التمرّد الثوري و«تأكيد لدور الشّعر في التغيير. وفي فعل التمرّد... إنّه الموقف الذي يزاوج فيه الشّاعر بين الفنّ والالتزام. فالفنّ بطبيعته يرفض الواقع بمقدار ما ينغمس فيه. حين تتخلّى الصّوفيّة عن وجهها السلبيّ لكي تنغمس في الواقع الذي ترفضه وتبتعد عنه فإنّها تصبح بذلك فنّا، تصبح شعراً. إنّها تجعل من كشوفها وسيلة لتغيير الواقع». أمّا صلاح عبد الصّبور فقد اعتنى بالتصوّف لأنّه مثل الشّعر «عودة بالكون إلى صفائه وانسجامه» والتصوّف مثل الشّعر سفر لكنّه سفر إلى الوراء إلى البدايات السعيدة حين كان الإنسان والكون وحدة لا تنفصم عراها. هكذا كان التصوّف متعدداً، في شعرنا المعاصر، على وحدته... متنوّعا على تجانسه. لئن حظي الأدب الصوفي في العصر الحديث بعناية الشعراء ونهض له نقّاد من مشارب فكريّة متعدّدة يكشفون ملغزه ويجلون معمّاه فقد ظلّ عصوراً طويلة مهملًا لأسباب سياسيّة عضدها تحرّج المتصوّفة أنفسهم من فنّ «الأدب» حتى أنّهم كانوا يرفضون أن يعدّوا في زمرة الشعراء ذلك أن آداب المتصوّفة على ما يقول «الطّوسي» ليست آدابا لسانيّة وإنّما هي آداب قلبيّة والغالب على المتصوّفة تعلّم الصّمت لا تعلّم الكلام، والانسحاب إلى الدّاخل لا السّياحة في الخارج لهذا جاء أغلب المنقول من الشّعر الصّوفي غير مسند لقائل، والمقطوعات القليلة التي بقيت لم ترد على رواية واحدة لا من حيث نصوصها ولا ترتيبها. * كاتب تونسي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©