الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ديمقراطية مقلّمة الأظافر

ديمقراطية مقلّمة الأظافر
26 أكتوبر 2017 02:55
الديمقراطية هي النظام السياسي الذي توصلت إليه الأمم المتقدمة، واختبرته نظرياً وعملياً، ودعت الأمم التابعة إلى تبنيه وتوظيفه كأحسن (لا كأكمل) طريقة توصلت إليها البشرية لتدبير الشأن السياسي أو الشأن العام. صحيح أن الديمقراطية تحمل معها في جيناتها صبغة أصلها، والمتمثلة في أن هذه المجموعات البشرية المتقدمة لم تجد حلاً لمشاكلها الداخلية المتمثلة في الصراع والاقتتال حول الِملكية (بكسر الميم) والسلطة والحظوة والمعنى إلا في الصيغة الديمقراطية التي تقوم في جذورها الأولى على مبدأ تساوي الناس في الحقوق والحريات، وأن لا فضل للون على لون أو لعرق على عرق أو لمعتقد على آخر، ولا منطقة على أخرى... وأن للجميع حق التعاقد على إنشاء نظام سياسي تتساوى فيه الحقوق والحظوظ، وأن هناك مجالاً اجتماعياً للحوار والتداول حول الشأن العام هو المجال السياسي. لكن السمة الأساسية الثانية للنموذج «الكوني» للديمقراطية هي تمييزه الضمني والصريح بين العنصر الاجتماعي أو الدنيوي ومجال المقدس، وهذا هو الأساس الأول للتمييز بين مجالين. لكن هذه التجربة ركزت نظريا وعمليا على ضرورة التمييز بين ما هو ديني وبين ما هو دنيوي، بهدف نزع أوراق أو علامات التفوق من الطرفين. فبما أن مجال الدين هو مجال المقدس، وهو مجال أثير ومتميز من حيث أنه مصدر المعنى والقيمة، فإن من الضروري حظر استعماله في التنافس أو الصراع السياسي. الديمقراطية تضمر هذه الخلفية الفكرية وتعطي الحق لكل أطراف الفعل السياسي في استعمال أدوات الصراع والتنافس باستثناء المقدس مما يوفر لهما فرصة تساوي الحظوظ. يتداعى عن الفصل بين مجالين بشريين متمايزين التمييز في المجال السياسي بين نوعين متعارضين من المشروعية: المشروعية المتعالية والمشروعية السياسية والدنيوية. المشروعية السياسية الدنيوية تستمد من التمثيلية/&rlm والمأسسة/&rlm والتمييز/&rlm والتنظيم/&rlm والمحاسبة/&rlm الانتخاب الجماعي في كل المستويات/&rlm دسترة التعاقد السياسي والاجتماعي/&rlm القانون كضابط تجريدي غير مشخصن. الديمقراطية ذات المصدر الكوني بشقيه، الليبرالي والاشتراكي، وإن كانت أقرب إلى الشق الأول منها إلى الثاني، هي نظام سياسي لكنه قائم على بنية ثقافية وفكرية حداثية. وهكذا فليست الديمقراطية مجرد آليات سياسية يمكن اقتباسها أو استعارتها، بل إنها من حيث هي في ظاهرها كذلك، بنية ثقافية أبرزنا بعض عناصرها الأساسية. وهكذا فعندما استفاق العرب في العصر الحديث على الطرقات الحادة للحداثة في شقيها، الاستعماري والعلمتكنولوجي، واستكشفوا أن جوهر الحداثة هو القوة (التقنية والعلمية (=الفكرية)، انتبهوا أيضا إلى ملمح أساس آخر للحداثة هو التنظيم السياسي لمسألة الحكم والمتمثل في الديمقراطية، كما لامسوا بالتدريج عناصرها ومكوناتها وتراتباتها وصورة العالم المبهمة الثاوية خلفها. استكشاف قارة الديمقراطية تطلب من العرب عقودا وربما قرونا، وذلك مراوحة بين الاستيعاب النظري والاستيعاب العملي، لدرجة يمكن معها القول بأن استفاقة العرب على العالم الحديث (نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر) مرتبطة بمجموعة متراكمة من الصدمات: علمية/&rlm تقنية/&rlm سياسية/&rlm فكرية. يعود التردد العربي في تبني الديمقراطية إلى صعوبة تمثلها نتيجة الأبعاد المذكورة، إضافة إلى أن النظام السياسي التقليدي بسلطويته وإطلاقيته ليس من السهل إطراحه أو التخلي عنه. فالمراحل الأولى لتبني العرب للديمقراطية تتمثل في إدخالها في الجسم السياسي «التعايش» معها، والتمزيج بين الاستبداد التقليدي والإجراءات الديمقراطية المستعارة على أن من الضروري استبلاع جرعة مرة منها. من المؤكد أن العرب عاشوا أو ذاقوا العصر الحديث بصيغة المرارة، في إطار وعي شقي وحزين، خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الوراء، تمزق حاد بين وعي الذات ووعي الواقع. ومن ثمة يمكن تقسيم هذا الزمن التاريخي العربي الحزين إلى مراحل: - المرحلة الاستعمارية. - المرحلة الليبرالية في بعض البلدان العربية (مصر- العراق - الشام) وتمتد من نحو 1920 إلى نحو 1950. - المرحلة العسكريتارية (1980-1950) وهي المرحلة التي استولت فيها القوة المنظمة الأولى في المجتمع العربي على السلطة تحت شعارات قومية أو اشتراكية، وفي هذه المرحلة تقزمت الجرعة الليبرالية للديمقراطية وتم تحويلها بالكامل إلى أداة لدعم أو لتزيين السلطة العسكرية. - المرحلة الإسلامية 1980 إلى 2017 وهي المرحلة التي عبرت عن تطور بعض أحزاب الإسلام السياسي نحو القبول بالديمقراطية واعتبارها أداة مع تشذيبها وتقليم أظافرها الثقافية. وهكذا تعرضت الديمقراطية لأكبر اختبار في تاريخها وتعرضت لعمليات مخض وانتقاء بهدف تكييفها مع النظام السياسي التقليدي، وذلك عبر المراحل التاريخية الكبرى (الليبرالية القومية/&rlmالاشتراكية/&rlmالإسلامية...). هذا بالطبع تاريخ عام لا يلغي الخصوصيات المحلية للتجربة الديمقراطية سواء في المشرق أو المغرب ولا يلغي توتراتها القُطْرية. لكن على وجه الإجمال والتعميم نقول إن الوعي العربي ممزق بين رغبتين قويتين: الرغبة في الحفاظ على الذات والرغبة في التطور والتكيف مع العصر، وهذا التمزق يشمل كافة مستويات الوجود الاجتماعي، وهو في الدائرة السياسية أكثر حدة ووخزا. ويبدو أن الانتقال من تنجيس الديمقراطية إلى القبول بها ثم المراوحة في اقتباسها وتبنيها لا يخلو من «انتحاء» تدريجي في تمثلها واستعمالها، خاصة أن أمرها لم يعد أمر اختيار ذاتي بقدر ما هو خطة عالمية لفرض الديمقراطية كشكل متوافق كونيا على أنه الشكل الحديث لممارسة السلطة، شكل ترعاه وتتعهده هيئات دولية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي الذي يلعب دور حكومة عالمية، وهي كلها هيئات تفرض الديمقراطية كنظام سياسي وتدعمها بآليات وقيم الحقوق والحريات التي هي منها بمثابة دعامة أو مرتكز. ومهما ترنح العرب بين الاستلاب المتمثل في ضرورة اقتباس الديمقراطية والارتياح المتمثل في الوفاء للذات والتاريخ، فإن هذه المسألة لم تعد فقط خاضعة لترددات الذات، بل أصبحت خيارا كونيا تدعمه وتراقبه المنظمات الدولية. والعرب - على الرغم من كل التوترات - والتأرجحات يجدون أنفسهم تحت ضغوط التاريخ الكوني منقادين إلى ضرورة الانصياع، وهو ما يفسر الارتفاع البطيء (بمنهج قطرة قطرة) لمنسوبهم من الديمقراطية الكونية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©