الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طلاق الجارية

طلاق الجارية
30 سبتمبر 2010 21:55
أعتقد أنني كنت صريحة مع نفسي كما ينبغي؛ لأنني أعيش على أرض الواقع، ولا أحلق في الفضاء ولا استسلم للخيال والأوهام، ولم يكن ذلك من فراغ، ولكن لأنني رضعت المعاناة وشربت البؤس منذ نعومة أظفاري، فأنا واحدة من سبعة أولاد من البنين والبنات، لأبوين فقيرين لكنهما مكافحان بمعنى الكلمة، فلم يدخرا جهداً من أجل توفير لقمة العيش لنا، وإن كنا نعيش على هامش الحياة، لكن الغريب أننا كنا راضين، أو مستسلمين، وإن شئت فقل إنها عيشة والسلام، فلا سبيل لنا للخروج من هذا الحصار، والعجز حتى وإن خرجنا جميعاً للعمل في الحقول أجراء، فالاحتياجات كثيرة والمطالب أكثر، كأنها تطاردنا بسياط فلا نملك إلا أن نركض أمامها ولا نستطيع أن نهرب منها، فلا مفر من القدر والمكتوب. عندما كنا في الابتدائية، عاملني زملائي وزميلاتي بحذر؛ لأنني دائماً في شبه عزلة والسبب أنني ليس لدي ما عندهم، فأنا لا أحصل على مصروف يومي مثلهم، ولا أحمل في حقيبتي المتواضعة طعاماً أستطيع أن أتناوله أمامهم، كنت أحاول أن اختبئ، كأنني أهرب من شيء مشين، هم من جانبهم أصدروا أحكاماً، من دون أن يسمعوا دفاعي أو يعرفوا وجهة نظري، ولا أخفي أنني أريد أن تظل حالي سراً ولا يطلع عليها أحد، فالأفضل عندي أن يعتبروني طفلة غير طبيعية أو منطوية، ولم أكن أحاول المشاركة في أشياء كثيرة وأنشطة عامة لها علاقة بما يسمى “الفلوس”، واستمرت الحال معي في مراحل التعليم المختلفة. ولم يكن في حياتي أي اهتمام غير الدراسة ولا مكان في تفكيري إلا للانتهاء من التعليم والحصول على شهادة جامعية تساندني في معركتي مع الفقر، ومن ثم كانت بعض المقربات مني في مرحلة الصبا والمراهقة يطلقن عليَّ لقب الفيلسوفة، واتخذت قراراً غير معلن بألا وقت لما يسمونه الحب إلا لمن يحقق لي أحلامي، ولا مساومة ولا جدال، لست مستعدة لمواصلة طريق العوز والاستمرار فيه أكثر من ذلك، ولا تثريب علي إذا كانت لي أمنية مشروعة يمكن تحقيقها بشكل مشروع. ورغم ما أنا فيه، لم يذهب تفكيري إلى أي شيء آخر، وقد أعلنت الثورة على الفقر ولا خضوع ولا استسلام، ولم أخفِ ما أريد بل جاهرت به أمام الجميع، حتى لا يضيع المزيد من الوقت والعمر، عندما تقدم لي كثيرون من الشباب من أقاربي وأهل بلدتي يطلبون يدي، كنت كعادتي صريحة إلى حد جارح، أوجه أسئلتي بشكل مباشر، ماذا سيقدم لي من شبكة ومهر؟ وأين سنقيم؟ وماذا يملك؟ وكم رصيده في البنك؟ وأين سنقضي الصيف؟ وأين سنقضي الشتاء، بلا مبالغة كانت الإجابات كلها واحدة، إنهم جميعاً يرددون الكلام نفسه الذي لا يغني ولا يسمن، بأننا سنكافح معاً ونبني بيتنا بأديينا طوبة طوبة. ونخوض غمار الحياة، وبالحب والتفاهم نقهر كل الصعاب، ونتغلب على كل العقبات، ولا يجدون عندي غير الرفض؛ لأن هذا الكلام الأجوف لا يقدم خبزاً ولا يوفر ماءً، والحب لا يعدو كونه مشاعر يمكن أن تأتي في أي وقت لأي شخص ذي خلق وخصال حميدة حسن المعشر. وليس صحيحاً أن الحب لا بد أن يأتي قبل الزواج. وإنما أرى أنه لمثلي لا يأتي إلا بالمال الذي يحقق لي كل ما حرمت منه على مدى ما يزيد على عشرين عاماً. فانفضوا من حولي ولسان حالهم يردد أنني مجنونة، ولا أعيش الواقع، فالبنات كثيرات بل أكثر من الهم على القلب، ولا داعي لكل هذا التعسف في الشروط والمبالغة في المطالب، ويلمحون من وراء ظهري بما يعني أنني ليس عندي ما يغري إلا القليل من الجمال وأسرتي ليست ذات الحسب والنسب وكأنهم يذكرونني بشيء نسيته أو تجاهلته، لكنني في الواقع ما لجأت إلى الشروط إلا لأنني كذلك وأُريد الخروج من هذه الدائرة، مع العلم أنني لا أتنصل ولا أتبرأ من هذا الوضع لكن لا عيب في أن أبحث عن وضع أفضل، يمكن أن نعتبره هروباً، أو بحثاً عن مخرج. اثنتان من أخواتي تزوجتا بمنطلق الذين كانوا من حولي نفسه، بمعنى ظل رجل ولا ظل حائط. وأملاً في الخروج من هذه الأسرة المعدم أهلها وشاهدت وعشت بنفسي واقعهما، فقد خرجتا من بؤس إلى بؤس ومن ألم إلى معاناة، ومن حفرة إلى بئر. وهذا ما جعلني أتمسك بموقفي ورأيي. وإن كان ولا بد فالذل في بيت أبي أهون من الذي في غيره. مازلت مصرة على صحة وجهة نظري ورغم ما كان أبي وأمي يتحملانه، فإنهما لم يفرضا رأييهما على أي منا، بل تفهما أن الدنيا تغيرت وأن من حق الأبناء أن يختاروا حياتهم كما يرون، ومن ناحية أخرى حتى لا نحملهما المسؤولية عن النتائج إذا ما كانت غير مرضية. كنت أرقب في عيني أمي قلقاً ظاهراً لا تستطيع إخفاءه من تأخر زواجي لعدة سنوات، ولم أعثر على فرصة عمل بمؤهلي الجامعي وتكونت فكرة عني عند من حولي بأن مطالبي فوق قدراتهم، فتوقفوا عن التفكير في الاقتراب من بيت أبي. لا أقول إنني كنت متأكدة من الوصول إلى هدفي. ولكن إحساسي يؤكد لي أنه آتٍ وإن تأخر، وبالفعل جاء بعد أربع سنوات من التخرج، وإن لم يكن كما كنت أبغي، هو رجل أعمال ناجح، يملك شركات ومصانع وفيلا بين مساكن الكبار في منطقة لا أستطيع المرور بجوارها. يكبرني بستة عشر عاماً، وهذا لا يهم ولا يجب أن أقف أمامه، الشيء الوحيد الذي لا بد من دراسته جيداً والتفكير فيه ملياً هو أنه متزوج منذ عشر سنوات. لذا تساءلت عن سبب إقدامه على الزواج خاصة أنني علمت أن زوجته جميلة ومن أسرة كبيرة، وكانت بينهما قصة حب قبل الزواج ولم تكن بينهما خلافات. وهذا كله أثار عجبي. وقد كان صريحاً معي، اعترف بكل ذلك، طأطأ رأسه وكأنه في مأساة. قال: كل هذا صحيح. لكنها لا تنجب لم تستطيع أن تأتي بالولد الذي سيحمل اسمي أولاً وثانياً يرث كل هذه الثروة. قلت: تريد جارية تنجب منها الولد ثم تلقي بها في الشارع؟ ثار مستنكراً: بل زوجة تكون صاحبة العصمة والآمرة الناهية، أم الولد قرة العين، أما الأخرى فستكون صفراً إن أرادت البقاء في الدار، وإلا فالباب مفتوح، قلت: لا أريد أن أكون سبباً في تعاسة امرأة أخرى وأكد أنهما متفقان على ذلك وأنه اتخذ قرار الزواج بعد مداولة معها وتفاهم كامل، وان زواجنا لن يكون سراً، بل معلناً للجميع وقد تحضر هي حفل العرس. كان وضوحه مقنعاً لم أتردد ووافقت على الفور الأحلام تتحقق بالفعل وأمنياتي تتحول إلى واقع ما كان بالأمس خيالاً أصبح الآن حقيقة بلا مراء، لو شاهدته في فيلم سينمائي ما صدقته، خاصة أن أبي لن يتحمل أي تكلفة، بل إن أسرتي سينالها جانب من العز قد يحركها من خانة الجوع إلى نقطة أخرى حتى وإن لم تبلغ درجة الغنى، وبمجرد أن أعلنت موافقتي انهالت هداياه علينا خاصة الملابس التي غيرت مظهرنا جميعاً وظهرت علينا آثار النعمة وخلال أشهر معدودة انتقلت إلى بيته، كنت أخشى أن نكون في حلم خاصة أن زوجته تركت لنا المنزل لنعيش شهر عسل، كما ينبغي أن يكون حتى بعده لم تعد بلا انفصال أو طلاق. كنت وحدي في حياته، كان كريماً إلى حد الإسراف. عوضني عن كل أيام الحرمان والبؤس، ليس بماله فقط بل أيضاً بمشاعره الفياضة. يلبي مطالبي بلا نقاش، أصبح كل شيء تحت تصرفي، سيارة ورصيد في البنك، وعن الملابس والطعام ورحلات الداخل والخارج لا تسل. واكتملت سعادتي عندما ألقى الطبيب على مسامعي النبأ السار بأنني حامل في الأشهر الأولى شعرت بأنني أحلق في الفضاء، ولمحت في عيني زوجي دموعاً غلبته، وعندما عدنا إلى المنزل سجد لله شكراً ثم ألقى إليَّ الأوامر الصارمة بألا أتحرك من السرير ولا أحمل شيئاً. وسيأتي بمن تقوم بكل شؤوني، وقد فعل ووعد فأوفى، ولا يمضي وقت طويل إلا ويهاتفني ليطمئن على ابنه رغم انشغالاته الكثيرة التي أعرفها تماماً. وكان ذلك يرضي غروري ويشعرني بقيمتي وأهميتي عنده، إلى أن جاء وقت المخاض وحملني إلى مستشفى كبير أقرب إلى فندق خمسة نجوم، ووضعت مولودي، ولد غاية في الجمال وهذه ليست شهادتي وحدي لأني أمه بل شهادة كل من رأوه. وفي احتفال السبوع كانت المفاجأة حضرت ضرتي، لكنها لم تغادر البيت وتبدلت أحوال ومعاملة زوجي كلية كأنه شخص آخر وحول اهتمامه إليها كما كان يهتم بي من قبل وأوكل إليها تربية الصغير وعدت أنا إلى خانة الصفر رغم أنفي وهددني بالطرد والحرمان من البيت ومن ابني وشعرت بل تأكدت الآن من صدق حدسي الأول بأنني مجرد جارية أرادها أن تنجب له الولد ولا أستبعد أن يكون بينهما اتفاق على هذا السيناريو ولا أعتقد أنني كنت غبية وإنما ضحية مكر وخداع ولم أستطع تحمل هذه المعاناة التي هي أشد من معاناتي في بيت أبي ولم أستسلم ورفضت المذلة وطلبت الطلاق فساومني على ابني. ولأن القانون في صفي توجهت إلى المحكمة وخلعته ورحلت ومعي صغيري وتركتهما عند نقطة الصفر ونجوت بجلدي.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©