الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نهاية الكبير

نهاية الكبير
30 سبتمبر 2010 21:56
نزح إلى العاصمة هرباً من الفقر، وهو لا يملك حتى قوت يومه. لكنه تحول بين عشية وضحاها إلى نجم أكثر شهرة من نجوم السينما وكرة القدم بعدما ظهر له “فيديو كليب”، وهو يتعرض للتعذيب في قسم الشرطة، وقامت الدنيا ولم تقعد فقد تحركت كل أجهزة الدولة بين، تحقيقات وتحريات ومعلومات وأسئلة وأجوبة، انتهت إلى إحالة ضابط إلى المحاكمة بتهمة التعذيب والتعدي على مواطن بلا حق، وانتهت المحكمة بحبس الضابط. عاد الحق إلى “عماد” وعادت إليه كرامته ومن هنا جاءت نجوميته فأطلقوا عليه لقب “الكبير”، كل من حوله رأوا فيه بطلاً استطاع أن يقهر السلطات أو الحكومة، حسب فهمهم. حملوه على الأعناق، أصبح هو الفتوة الذي يحمي الديار ويحسب له الأعداء ألف حساب بل والأصدقاء أيضاً. أعاد إلى المنطقة التوت والنبوت وعصر القوة أو جعل القوة هي القانون، كما كان في الزمن السحيق، ومعها أصدر “فرماناته” بأنه هو المرجع الأول والأخير في كل مشكلة أو رأي أو قضية تخص أي واحد ممن حوله، لا يقطعون أمراً ولا يحسمون ولا يناقشون إلا إذا وضعوه أمامه برمته. جاء أقارب “عماد” من كل حدب وصوب يلتفون حوله ينهلون من قوته، حولوه إلى عمدة يحكم بينهم ويوجههم ويصدر أحكامه الباتة والنهائية يلتزمون بها مهما كان بها من جور، فهم لا يريدون أن يخرجوا من تحت عباءته، فقد بدأوا يجنون مكاسب انتمائهم إليه، حتى الذين لم يكن لهم به أي صلة رحم. تمسحوا به واختلقوا صلة من دون أصل أو حقيقة، وهو قبل منهم هذا وهو يعلم أنه غير صحيح. لأنه أيضاً مستفيد. فكثرة المريدين والاتباع تعطيه قوة وهيبة وتزيد سطوته وتزرع الخوف في نفوس من حوله. لم تكن الفوائد التي بدأت تنهال على الكبير معنوية فقط وإنما كانت أيضاً مادية، فقد فتحت أمامه أبواب المال، من الهدايا أو التغاضي عن أشياء أخرى، فأصبح الباعة في المنطقة يتعاملون معه بشكل خاص جداً ويبيعون له بأسعار أقل من أسعار الجملة، ويستفيد أيضاً من هذه التنزيلات الإجبارية كل الذين يعرفونه وأقاربه وأعوانه. الأسوأ من هذا كله تلك المشاجرات التي يفتعلها مع الجيران والسكان في المنطقة ولا يستطيع أحد ولا يجرؤ على الوقوف في وجهه لأن عقابه سوف يكون أليماً، وسيطر الخوف على القلوب ففر الجميع من أمامه يسوقهم بعيداً ويؤثرون السلامة. يحرصون على الحياة في أمان. يهربون من المشكلات التي لا قبل لهم بها. والأهم أنهم يقبلون المذلة حتى لا يصل الأمر إلى الشرطة، لا يريدون أن يذهبوا إلى هناك سواء أكانوا جناة أو مجنياً عليهم. ليس لأنهم خائفون من رجال الشرطة وإنما من الكبير وبطشه وعقابه؛ لأن أحدهم تجرأ مرة وقدم شكوى ضده لأنه تعدى عليه بالضرب، فكان نصيبه من التنكيل ما لا يطاق حتى اضطر للتنازل عن شكواه وكأن شيئاً لم يكن. وقد كانت هذه الواقعة عبرة للجميع. وأصبحت قاعدة عامة ومنهجاً يسير عليه كل من يتعامل معه. السكوت الإجباري.. زرع الخنوع والوهن في النفوس، كل واحد لا يريد أن يكون كبش الفداء، ولن يستطيع أي شخص أن يقف وحده أمام هذا الجبروت. فتمادى الكبير في طغيانه، وفرض “الأتاوات” على كل السكان، أصبح على كل منهم أن يدفع الجزية صاغراً كل يوم، أعاد إلى الواقع أيام الفتونة، لكن بشكل مختلف، ففي الماضي كان الفتوة يفرض “الأتاوات”؛ لأنه يحمي الحمى ويمنع أي غريب من الاقتراب من الحارة. ابتعد الناس عنه وانفضوا من حوله إلا أعوانه الذين اكتفى بهم ويتوكأ عليهم وجعل منهم العصا التي يرفعها في وجوه من يعارضونه. ورغم كثرتهم، فإنهم غير ظاهرين، هو يعرف بكل تأكيد أنه مكروه منهم حتى وإن قابلوه بالابتسامة والترحاب، وهذا لا يدل على المحبة وإنما فقط من أجل تجنب أذاه وأضراره. اتسعت أنشطة الكبير الإجرامية وانتقل إلى موقف سيارات الأجرة وفرض سطوته على السائقين، أوامره واجبة النفاذ، أصبح على كل سائق أن يقدم له “الأتاوة” كل يوم بلا نقاش أو جدال، لا يعنيه أن كان معه أم لا، من أراد أن يعمل هنا فعليه أن يدفع بلا نقاش، كأن المكان ميراث وحق له وملك خاص يديره كيف يشاء. يمنع ويمنح ويعطي ويحرم. التحرك من الشرطة لا يأتي إلا بشكوى أو فعل آثم ظاهر، والعقوبة لا تتم إلا إذا كانت هناك جريمة، ورغم أن جرائم الكبير أكثر من أن تعد، فإنها لم تصل إلى الجهات الرسمية، ورغم هذه القوة التي يتسلح بها مازال هناك ممن يقف في وجهه ويقول لا ويرفض هذه الأفعال. لذلك كان الجو محتقناً ومشحوناً بينه وبينهم، كأنه قنبلة على وشك الانفجار، التوتر يخيم على المنطقة، لكن مازال كل واحد يبتعد على المشكلات حتى تقع الكارثة بعيداً عنه، لكن عندما يزيد الأمر عن حده فلا مجال للاحتمال، وقعت مشاجرة مع أحد السائقين لانه رفض دفع “الأتاوة”؛ لأنه لا يملك سيارة، ويجب أن يكون الدفع فقط على أصحاب السيارات؛ ولأن الكبير تعامل معه بالسباب والشتائم، وقعت مشاجرة أُصيب فيها من أصيب ونجا من نجا، وأُلقي القبض على الكبير وعدد من أعوانه، لكن الأمر لم يكن يرقى إلى حد أن يتم حبسه هو أو أي شخص من رجاله، وانطبق عليه مبدأ “الضربة التي لا تميتك تقويك”. وما كانت هذه الواقعة إلا دافعاً أكبر للكبير ليزيد من تصرفاته. فقد تأكد أن هذه ليست الأحداث التي تهزه، واليوم جاءه ابن عمه يستنجد به للرد على السائق الزهيري الذي تجرأ ورفض دفع “الأتاوة”. بل وتمتم ببعض الكلمات التي تدل على رفضه هذا النظام. لذا أصبح تأديبه واجباً حتمياً وسريعاً، كانت عقارب الساعة تشير إلى ما بعد منتصف الليل بثلاث ساعات، الهدوء يعم المكان وإن كانت ارتفاع درجتي الحرارة والرطوبة يمنع الناس من النوم؛ لذا كان الكثيرون ساهرين، انطلقت أصوات الرصاص وسط هذا الهدوء ومعها الشتائم والسباب، عشرون شاباً في عنفوانهم مثل الإعصار الحارق يدمرون كل ما يواجههم، يضربون من يصادفهم، لا يهم إن كان له صلة بهذا الرجل المقصود أم لا، المهم أنهم يجب أن يظهروا العين الحمراء للجميع، فخربوا المحال التجارية وأصابوا أكثر من ثلاثين رجلاً وامرأة وطفلاً، حطموا واجهات المنازل، أشعلوا النيران، وأمام هذا الطوفان اختبأ الجميع واختفوا حتى تضع الحرب أوزارها. نصف ساعة من الزمن كانت مثل الدهر، انسحب الكبير ورجاله بمحض إرادتهم بعدما حققوا الهدف من هجمتهم وأثبتوا أن لا أحد يستطيع أن يقف أمامهم، وتأكدوا من أن الجميع سيأتون صاغرين في الصباح، يقدمون فروض الولاء والطاعة. انتهى الموقف، لكن الرجال والنساء وحتى الأطفال أصبحوا يلومون أنفسهم؛ لأنهم لم يواجهوا هذه العصابة حتى لو كانت النتيجة الموت، وبينما هم كذلك امتلأ الشارع برجال البوليس يلقون القبض على كل من شارك في المعركة، ولأول مرة يتحول الكبير إلى أرنب اختفى في جحر غير معروف. لم يصدق أحد أن هذا المتجبر بهذا الضعف، إنه مجرد أسطورة وهمية. صنعوها بسلبيتهم وصمتهم عن الحق. وعندما ضيق رجال الشرطة خناقهم عليه وتأكد أنه واقع لا محالة سلم نفسه محاولاً التنصل من المسؤولية، لكنه لم يفلح، وأمرت النيابة بحبسه ووجهت له خمس اتهامات تصل عقوبتها إلى السجن خمسة عشر عاماً، بل وبالبحث في الأوراق تبين أنه مطلوب في ست وعشرين قضية أخرى هرب منها من قريته، وانطلقت الزغاريد ابتهاجاً بنهاية الطاغية والألسنة تدعو بألا يعود.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©