الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العبار.. مثل مسبار يخوض اللجة ولا يتعب

العبار.. مثل مسبار يخوض اللجة ولا يتعب
3 يوليو 2013 21:56
العبار.. على تعاريج المركب، مثل إبن الفارض، قارض أسفار الموجة الصوفية، فارض لذة الترانيم الكونية، ناهض باتجاه الحلم الأزلي، راكض في دماء النسيج، سارد عنف القلق والصيرورة.. العبار.. أنت معيار البحر، ومسبار الموجة، ومسبار المهجة، ودوار اللجة، وحوار المركب والمنكب، وسوار الشهب والتعب.. أنت في البحر، طيف النهار المبتل بحرقة القيظ، وحدقة الطير الراقص في أحداق الفضاء. أنت.. أنت، في الضحى وقت الانتظار، أنشودة تخبئ أغنيات الفرح، في غضون الجبين المعقد، والشفة المنضدة، بحبات العرق والأرق، والمزق وطرائق الذين عشقوا الماء، فاستحموا في بحيرات السغب، رافعين الأسئلة، أشجاراً وارفة الظلال، محتمين الهوى، كؤوساً من أمل.. العبار.. أنت إبن الفارض، في الصوفية، وجمال الروح، والقدرة الفائقة على التوغل في اللحظة، في الراهن المتشرب من فجاءات الألم اللذيذ.. أنت في اللوح المحفوظ، تجرح البحر بمجداف وهتاف، وأطراف، وتمارس لعبة التكوين بفطرة الأولين، بحب السالفين بقدرة العاشقين، بشهوة الساحل العارمة، حين تبيض الموجة، والرغوة الناصعة، جنين ما جرى بين الضدين.. أنت المسافة السهواء ما بين ساعد البحر، ومجداف الشاطئ، أنت المتواطئ مع الريح لأجل احتمالات تسرج خيول المعرفة، بفلسفة الصبر الجميل. أنت يا سيدي، يدي ولساني وكياني الذي بات على الرمل المبلل، بريق المحار يدنو ويحنو، ويوشوش البحر عن سر اللذة، عن لحظة تعيد ترتيب الأجزاء، وتلون العيون ببياض الذرة القصوى.. الممعن في السفر أنت يا سيدي، عشقت وتفانيت، وأنجزت مشروعك في خفاء الليل، في رداء الوضوح، تحت ظلال الشمس، نسجت خيوطك الذهبية، وأمعنت في السفر.. سافرت ما بين الضفتين، في عروق الماء، على اللسان البحري العذب، أنشأت لغة التواصل، ألغيت الفواصل، هناك في التجاويف كنت أنت القلم والعلم، وخير الكلم، كنت الألم اللذيذ، يتسرب لذة في خلايا البحر، في نسيج الناس، في ثقافة الطير الهارب من وحدة، بحثاً عن سرب يعيد له معيار المحبة، وسر الألفة. العبار.. كان هدير الآلة يخض بدنك الناحل، ترتشف أنت قطرات العرق، النافرة على الشفتين، تنشف تعبك، تقتعد عند المِقْود كرسيك رباناً وقرصاناً، تحدق في الفراغات البحرية، تحدق في سراب اليباب، تحدق في مكان لا تشبهه الأمكنة، تحدق في تلافيف الأزمنة، وترتد عصاك وتداً تتكئ على خاصرته، تروغ به كهولة زمن تستدعي وعيك، تهش به على غيك، وغمك وسقمك. العبار.. لا تذكرك الآن الأمكنة.. لا تذكرك الآن الأزمنة، فالنوق التي جئت تسأل عنها، باتت اليوم في عراء المخيلة، لم تعد تذكر ما كان يُبحر هنا، ما كان يمخر العباب بحثاً عن أسئلة. في هذا “الخور”، في اللسان المائي كنت تداعب خصلات الموج، وتبتسم، كنت والوشوشة ناي وأنامل، وفكرة حُبلى بالولادات السليمة، كنت وزقزقة الطير حفلاً بهيجاً، والأريج ماء يزف تباشير اللحظات الحاسمة، ساعة تدفق المسافرين، محملين بالزاد والمهاد، مخضوبين بعشب الحياة، معشوشبين بخضرة الأمل، غارقين في الفرحة، والضحكات سر الجلجلة.. كنت تعقد الإزار على الناحل وتمضي كنصل شب في الوغى ألقاً، كنت الظافر والحافر، والسافر والساهر، والقاهر، والكاسر، كنت الباهر، الناهر، كنت المجاهر والمبادر والمثابر، والقادر على مساومة البحر، برغيف الإرادة، ورشفة القوة والصلابة.. كنت في البحر تسود الحلم بمشهد الفتح المبين، مستعيناً بالصورة المثلى لتلك القامات والهامات، التي عانقت النجوم واستطابت لها السحب سكناً وأمناً. العبار.. أنت الدهر، والعمر، والفكر، والخبر والعبر، أنت اليقظة الصباحية، أنت شهقة الفجر عندما يزيح لحاف العتمة، ويبرى نجمة مشعشعة، تدهن وجهها بصفاء السماوات، وضحكة الطر المنادي حيّا على الفلاح.. أنت كأنك الكائن الأسطوري، حفر في القلب تعبه، ثم سار في الغياب بنحت ذاكرة، مؤدلجة بالحنين، مغسولة بالماء والطين، مجندلة بأحلام خيوطها من سعف السنين، وسقفها من أرزاق قصيدة ما قالها أبرع العاشقين. العبار.. أنت كالنهر الواقف بين ضفتين، يرفع خطابه المائي إلى عشاق العالم، قائلاً: يا عشاق العالم اتحدوا، فالماء سر الارتواء والاكتواء والاحتواء، والانتماء، الماء من صلب الأرض من ترائب السماء، وما بين الأرض والسماء كائن خرافي، يحلب البحر ويقول هاتفاً: “إذا درت نياقك فاحتلبها”.. وها أنت ذا، تحلب وتحلب، وتذب، وتحدب، وتكسب، وتخلب، وتسلب، وتقطب، وتقضب، وتندب، وتنكب، وتعقب، وتحطب، وتخطب، وتهرب، وتحسب، وتخشب، وتسهب.. ها أنت يا سيدي، من نقيض النقيض، إلى نفي لا تثبته إلا مآثر تجلت، وتعلت، وتسامت، فامتلأت أوعية الناس، بما تجلى وعلا.. ها أنت يا سيدي، لم تدع في القلب مكاناً للنسيان، حتى صرت المكان والزمان، والإنسان، المتمدد في البيان والتبيان، أنت هكذا لأنك من الماء نبتت شجرة خلدك، ولأنك من البحر، تفرعت أغصان وجدك، فصرت أنت البحر والدهر، وأنت التلاوة الأزلية، والكتاب المفتوح، نقرأه فتموق في البحر، تحدق في البحر، فتتساءل أين ذاك المركب، أين منكب البحر، وساعد العبار؟ أين، ولا أين سواك الذي تستقر في الذاكرة كأنك العِلّة الأولى، كأنك الجِبلّة، والقِبلة، والقُبلة، كأنك الدفقة المتسربة من رحم النجوم الأبدية، كأنك الفكرة المتناهية في اللا متناهي.. كأنك يا سيدي عرق لعشاق الذي لم ينشف بعد، كأنك ريق البحر الذي لا يجف، ولا يخف، ولا يكف، ولا يقف عند حد العطاء والاستواء والانتهاء.. أيقونة المكان والزمان أنت يا سيدي في المكان أيقونة وفي الزمان رمز.. أنت في البحر، نورس الجناحان مجدافان، وخرخرة الماء تغاريد الفرح. حائك البحر، تنسج رمادك في ذُبل الماء، وتمضي كأنك الوردة الغارفة من رحيق السماء لونها، كأنك لفراشة، تغرق في الرائحة، وتهطل على وريقة الياسمين، مخضوضة بالأمل.. أنت يا سيدي، ناسك يرتل مع الموجات الوشوشة، ويخضب الفراغ بأنفاس اللهفة من أجلك، من أجل الذين عشقوا والذين فتقوا القصيدة، خصلات من نار ودوار، الذين رسموا على صفحة الماء خارطة الألم، الذين لونوا التاريخ بالعرق، وأسهموا في صياغة الفكرة بريشة القابضين على الجمرة والعِبرة. حائك النهار، يخيط قماشة البحر، بإبرة التصميم، ويروغ عن العيون، غشاوة الكسل، يجاهر في الفكرة، كما فعل جاليلو حين أحرق الجهل، بموقد الإرادة، فاستعصى على المتسكعين عند هوامش العقيدة، جز عنق الحقيقة.. أنت يا سيدي في حرث البحر، أشبه لبوتين الذي قال بجرأة المكافحين: “الإنسان مقياس كل شيء” فأنت الشيء وكله زنت جله وأصله وفصله أنت مداه وسواه، وعداه، أنت المسافة المطولة، في زجاجة التاريخ، أنت القصيدة العصماء في صدر الملاحم الأسطورية، أنت العجائبية المثلى، والزخم الأزلي، في تأخير المكان، بحرفة جللت البحر، بعنفوان الصولجان، وطوقت الأعناق بالأشواق، وكحّلت الأحداق بأثمد الصبر.. أنت الحائك، والناسك، والسابك، والشائك.. أنت أنت مثل أغنية خالدة على لسان الطير، ترددها الموجة ويعزف البحر لحن السفر الطويل، ومواويل الغاربين والغابرين، والرابضين تحت الجلد رغم إندحار المركب الشقي.. أنت مثل ذاك الذي شق بطن الصخرة، ليبقى في الجوف جنيناً، لا تذروه الرياح، ويذهب جفاء.. أنت مثل الصخرة التي تدحرجت في الحضيض، تخبئ صلابتها في أحشاء التكوين، ولا تجسر الأعشاب الشوكية إن مس إيابها.. أنت مثل الزمن، كائن مكون يكون في الكون، تتغير الأشياء من حوله وفيه ولا يزين لحظاته إلا بالخلود.. أنت مثل الوجود بل أنت علته وفعله المتصل في أصله وفصله، تكونت لكي تكون في الزمان مجدافاً وفي المكان بوحاً لا يخبو ولا ينطفئ.. أنت يا سيدي، عبرت في الدماء كما عبرت في “الخور” بأسئلة الوجود الكبرى، وسخت الحلم، وجداً ومجداً، وبددت خوف البحر، بصرخة استولدت الحنين إلى وجود لا تبدده العاديات، ولا آزفة الدهر. العبار.. الأمنية الأزلية، الغافية على سطح الماء، الطافية عند حافة القلب، الذاهبة بعيداً في أشجان الذين غرقوا في نهر الأشواق.. أنت مثل صومعة كاهنها هذا البحر المسجور، بحرقة الآهات المسحور، بدفقه الذين ترفوا إرادة.. أنت مثل هذا البحر، لايجف مداده، طالما بقي محيط الناس، يرفد التوق بالشوق.. أنت مثل هذا النهار القائض في حرقته، إطلاقه النور، في دفقته، اشتياق الطير للبلل. العبار.. من يكتب عنك سواك، من يذكرك سواك، من يستدعي الذاكرة، ليفتح صفحات كتاب لم تقرأ بعد إلا على مضض.. أنت وحدك، تفسر أحلام فرويد، وتصقل الأنا بالتجريد والتحديد، والتفريد، والتغريد، والتنديد، والتسديد، والتبديد، والترديد، والتمهيد، والتنهيد، والتشديد، والتفنيد، والتجريد.. أنت وحدك الذي جردت البحر من نصل المخاوف، وبادرت في التجديف.. بعيداً.. بعيداً عن شطئان اللحظة المرعبة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©