الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اشكاليات اللسان

اشكاليات اللسان
3 يوليو 2013 22:05
محمد نجيم حدث ثقافي مهم عرفته المكتبات المغربية والعربية، وهو صدور الطبعة العربية لكتاب المفكر والكاتب المغربي المعروف عبدالفتاح كيليطو “أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية”، وهو كتاب صدر بالفرنسية مطلع هذا العام عن دار النشر الفرنسية Actes S d، وقام بنقله من أصله الفرنسي إلى اللغة العربية المفكر والباحث المغربي عبدالسلام بنعبد العالي. نلجُ هذا الكتاب، بمُفتتح هو بمثابة عتبة من الكاتب الشهير “شيوران” التي يقول فيها: “استبدال اللغة، بالنسبة للكتاب، هو بمثابة رسالة غرام باستعمال قاموس”. وبسُؤال اشكالي من المؤلف يقول “كيف يُمكن للمرء أن يكون أحادي الّلسان؟” وهو السؤال الذي يقودنا إلى البحث عن جواب يُشفي غليلنا. ويأخذنا الدكتور عبد الفتاح كيليطو إلى عالم الطفولة وسنوات الصبا التي عاشها في حارة من حارات الرباط، مُذكرا القارئ أنه حتى سن السابعة، لم يكن يعرف إلا اللغة العربية الوحدانية والثنائية ويتابع كيليطو الذي نهل من الفرنسية وآدابها الغنية: “كانت الفرنسية لغة المعلم، لغة الكتاب المدرسي، والواجبات المدرسية، اللغة الأجنبية، لغة الخارج. كم كانت دهشتي خلال رحلة إلى اسبانيا سنة 1964، انني لم أعثر على اسباني واحد قادر على أن يفهم ما أقوله بهاته اللغة (ما أحراك بالعربية). كان الناس الذي ألاقيهم أناس من أفراد الشعب، كانوا يبدون لي وحيدي لغة سعداء، لا يشعرون بأي حاجة إلى تعلم لغة أخرى، كان العالم يظهر لهم كاملا مع اللغة الإسبانية. (...) يعرف المغاربي عن طريق التجربة، أن الحياة تكون أقل صعوبة عندما تؤازر اللغة الفرنسية اللغة العربية. لذا فهو في حياته اليومية مزدوج اللغة فعليا أو افتراضيا. بناء على ذلك، فاللغة الفرنسية لا تمثل بالنسبة إليه فعلا لغة أجنبية، أو لنقل إنها ليست حقا كذلك”. ويتحدث كيليطو عن الجار الإسباني قائلا “لنعد إلى الحديث عن إسبانيا، لقد أمضيت فيها بعض الأيام حاملا معي كزاد ذكريات من رواية “الأمل” لأندري مالرو، ومن رواية “لمن تدق الأجراس؟” لإرنست همنغواي (أزور البلدان حاملا معي تصورات أدبية: في المناظر والمشاهد التي تتبدى لي أبحث بنوع من السذاجة عن ذكريات قراءات). لم أحمل معي كتبا، وفي المكتبات التي كنت أجرؤ على اقتحامها، لم يكن للكتاب باللغة الفرنسية وجود. استغرقت قليلا من الوقت كي أتبين أن الإسبان لم يكونوا يقرؤون إلا كتبا كتبت بالإسبانية، الأمر الذي لم يكن يخلو من خيبة بالنسبة لي أنا الوافد من بلد فيه عدد المكتبات الفرنسية يضاهي عدد المكتبات العربية. ومع ذلك، فعند تجوالي في دروب قرطبة ومدريد، كنت أقرأ إعلانات وأعمدة إشهار، وأسماء بعض المتاجر، وعناوين بعض الصحف، فكنت أعجب في فهمي لدلالة بعض الكلمات، وهي كلمات من أصل عربي. وهكذا غدت اللغة الإسبانية مألوفة لدي ألفة غريبة، غدت طرسا شفافا يكشف عن بقايا لغة قديمة، وآثار كتابة ممحية. حتى الآن لا أستطيع أن أصادف عبارة إسبانية من غير أن أعتبرها لغزا، فأسعى، من غير أن ألح في غالب الأحيان، أن أردها إلى أصل عربي. لا حاجة إلى التأكيد أن الإسباني أو الفرنسي بإمكانهما كذلك أن يتعرفا بسهولة على بعض كلمات لغتهما في الدارجة المغربية”. ويعالج المؤلف مسألة اللغة بالنسبة للأجنبي، فيقول: “نعرف أن الفرنسي الذي يحل بالرباط أو الدار البيضاء، لا يشعر انه بعيد عن موطنه: إذ لا بد وأن يعثر على من يتكلم لغته. وسرعان ما يكشف له كشك الجرائد عن الازدواجية اللغوية التي تميز البلد (ففيه يجد اليوميات والأسبوعيات والمجلات المكتوبة بالفرنسية بقدر ما يجد منها ما هو مكتوب بالعربية). تتجلى الازدواجية أيضا في المذياع، والتلفاز، مثلما تظهر في التعليم والإدارة. أسماء الأزقة مكتوبة باللغتين، مرسومة بحرفين. الأسباب الكامنة وراء ذلك معروفة. في سياق تعد فيه الازدواجية مقوما أساسيا متجليا في كل المستويات، لا يشكل ظهور الكتاب ذوي اللسان المفلوق ما يبعث على الاستغراب”. اللسان المفلوق ولكن ما الحال بالنسبة لمن يكتبون باللغة العربية؟ يجيب كيليطو: “إنهم ذوو لسان مفلوق، ليس فحسب لانهم يتمكنون من اللغة الفرنسية قليلا أو كثيرا، ولأن بعض تعابير هاته اللغة ولويناتها تتسرب إلى نصوصهم، وإنما خصوصا لأن نماذجهم الأدبية هي فرنسية في جزء منها. اما الآخرون “الفرانكفونيون” (وهي كلمة ذات إيحاءات متعددة)، فهم يصرون على كونهم يتكلمون اللغة العربية وأن إنتاجاتهم تعكس ذلك. صحيح انهم يكتبون بالفرنسية، إلا أنهم يؤكدون أنهم لا يغفلون العربية. فهم يدعون إذن إلى قراءة نصوصهم كما لو كانت طروسا، فوراء الحروف الفرنسية، هناك حروف عربية. كتابة عكرة، تقابلها قراءة مشوشة”. ويعرج كيليطو للحديث عن سبب إختاره الكتابة باللغة الفرنسية التى برع فيها قائلا “لماذا تكتب باللغة الفرنسية؟ سؤال يطرح عادة على الكاتب الذي ينشر كتبه بهاته اللغة، وهو سؤال من شأنه أن يثير قلقه وشعوره بالذنب. وعند رده، يظهر لباقة ورهافة، يذكر فعل التاريخ، كما يذكر التكوين الذي تلقاه، وقد يقول أيضا إنه يحس أنه يتمتع بنوع من الحرية الفرنسية، وانه يلمس بدرجة أقل تابو الجنس والسياسة. كما سيقول بأنه عاجز عن الكتابة بلغة أخرى، وقد يتحدث أحيانا بطريقة غامضة عن اللذة التي توفرها له الفرنسية. لن يعترف دوما أن الكتابة بالفرنسية تحقق لكاتبها بعض الحظوة وتمنحه اعتبارا، وتمكنه من جمهور مضاعف (ها نحن مرة أخرى أمام اللسان المفلوق!)، وانتشار واسع. يمكن تصور افتراض آخر: الكتابة تجاوز للذات، حتى إن إقتضى الأمر أخذ مسافة مع اللغة الأم. فباستطاعة الكاتب أن يختار، لو توفرت له الإمكانات، اللغة البعيدة، الغريبة الأجنبية، كي يقترب من ذاته. لغتان وإكراهات وينتقل الدكتور كيليطو إلى مقالته “الجمل وطائر البجع” ليعرفنا هنا أن لفظ العقل، يحيل، في اشتقاقه إلى العقال والرباط، فيقول: “وهكذا يبدو العقل لجاما وطوقا. ترتسم، والحالة هذه، صورة طائر البجع المالارمي، سجين الثلج، وهو يحرك جناحيه للتخلص منه بلا جدوى، أو ترتسم الصورة الأكثر تواضعا للجمل المقيد مخافة أن يتيه في الصحراء على هواه. نظرا لارتباطي بلغة، فها أنا بالضرورة مشدود إلى أرض، وها حركاتي محدودة بالفضاء الضيق الذي من نصيبي. وبما أنني أدور في حلقة مفرغة في حكاية لغتي، فأنا أتأمل الآفاق البعيدة، وذلك اللاتناهي الذي ليس في مقدوري أن أبلغه”. يتابع كيليطو: “قد يقال لي: لك لغتان، ونوعان من الإكراهات: فبما أنت مغاربي، وبما أنت عربي، فأنت إلى حد ما جمل مضاعف، أو إن شئت، جمل مرفق بطائر البجع. يحيل ألا تلقي نظرتك ذات اليمين، وذات الشمال؟ أليست هذه النظرة المضاعفة، وهذا الانجذاب المتعدد، هو الذي يمكنك من أن تتكلم عن اللغة؟ وإلا فلن يكون ذلك في مقدورك ليرد على محاوره “أعلم ذلك: للحديث عن اللغة، من الضروري معرفة اثنتين على الأقل. صحيح أن بعض أحاديي اللغة، افتراضا بأن لهذا الصنف وجودا، يأخذ في الكلام عن لغته، إلا أنه يتحدث عنها آخذا بعين الاعتبار ماضيها وحاضرها، فاحصا مستوياتها المختلفة، أنواع الدارجة، واللهجات، والأصناف اللسانية الجهوية، مادامت كل لغة متعددة متباينة الأشكال. قد يحصل في بعض الأحيان أن يكون أحد أطراف المقارنة لغة الحيوانات، وهذا ما نلفيه في استهلاك بعض المؤلفات العربية حول البلاغة: الحمد لله الذي فضلنا على البهائم بأن وهبنا النطق.. في السياق نفسه، هل يمكننا أن نتحدث عن أدب ما من غير أن نكون على اطلاع على آداب أخرى، أو على الأقل أن نفترض وجودها؟ هل هناك منظر للآداب لا يعرف إلا أدبه؟”. ختاما، يمكن القول إن كتاب “أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية”، هو كتاب إشكالي، يُحاول فيه المؤلف رفع اللبس عن ما يعتري اللغة التي تسكن ذواتنا، ونحملها بين ظهرنينا. كما تحملنا هي لتجوب بنا آفاق المعرفة الرحبة. الكتاب: أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية المؤلف: عبد الفتاح كيليطو المترجم: عبد السلام بنعبد العالي الناشر: دار توبقال
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©