الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صقلي غنّى له الأندلسيون

صقلي غنّى له الأندلسيون
3 يوليو 2013 22:05
الدكتور عارف الكنعاني من أجمل ما تركه العرب في الأندلس كان الشعر والموسيقى. وإذا كان التاريخ الذي في الأندلس لا يختلف كثيراً عنه في بقية أنحاء الوطني العربي، إلا أن التعايش الحضاري بين العرب والإسبان ترك أثره على الشعبين، وتأكدت ولعدة قرون إمكانية العيش المشترك بين جميع شعوب العالم. ومن الشعراء الذين ساهموا في صنع تلك النهضة الثقافية في الأندلس، شاعر يدعى ابن حمديس، وهو عبدالجبار بن أبي بكر بن حمديس الأزدي الصقلي. وكان يلقب بأبي محمد. لم يولد هذا الشاعر في الأندلس ولكنه هاجر إليها شاباً. ولم يولد أيضاً في أي من الأقطار العربية كالمغرب أو الجزائر أو تونس، بل ولد في جزيرة صقلية والتي كان لها مع العرب تاريخ طويل، ترك العرب فيها آثاراً لا تزول. ومن الواضح أن ابن حمديس تلقى علومه الأولى ونبغ في الشعر في صقلية بمدينة (سرقسطة) قبل أن يهاجر إلى الأندلس، وقد ظل ابن حمديس يتذكر مسقط رأسه ومرتع حياة صباه وشبابه ويناجيه في شعره حتى آخر يوم من عمره. ولد إذن في سرقسطة جزيرة صقلية عام 447 هجرية الموافقة لـ 1053 ميلادية. ولما استولى النورمان سنة 471 هجرية على معظم جزيرة صقلية، رأى ابن حمديس أنه مطلوب لدى النورمان لكونه مثقفاً وشاعراً، فوجد أن أفضل ما يفعله هو الهجرة.. غادر ابن حمديس صقلية متجهاً إلى تونس، ومن هناك انتقل إلى الأندلس. فوصل إلى إشبيلية عاصمة المعتمد بن عباد وأقام فيها.. وما كاد المعتمد بن عباد يعلم بوجود شاعرٍ مجيد في عاصمته حتى أرسل يطلبه، وقامت بين الشاعرين صداقة جميلة لم تنفصم عراها حتى بعد أن قلب الزمن ظهر المجن للمعتمد بن عباد وسقطت مملكته وأسر من قبل المرابطين ونقل إلى المغرب، حيث قضى آخر عمره فيها في القيود والسلاسل في أغمات إحدى البلدات التابعة لمراكش. لم ينس ابن حمديس أيام المعتمد، وتلك الحظوة التي نالها عنده وذلك المال الذي تكرَّم به عليه. وتلك الحياة المرفهة التي عاشها في ظله ورعايته. ولقد أعجب المعتمد بن عباد بابن حمديس وأدرك أنه أمام شاعر حقيقي صادق، يتميز بالرقة والغنائية الواضحة.. نسمعه وهو يقول: عذبت رقة قلبي ظلماً بقسوة قلبك وسحبت جسمي سقماً وما شفيت بطبك أسخطت كل عدوٍ رضيته لمحبك من لي بصبر جميلٍ على رياضة صعبك فيا تشوق بعدي على تنسم قربك لقد جنحتُ لسلمي كما جنحت لحربك فكي من الأسر قلباً عليه طابع حبك في أشبيلية عاصمة المعتمد بن عباد، جال ابن حمديس وصال، ولها ما شاء له اللهو. وأخذ المغنون قصائده يتغنون بها. ويجعلونها بألحانهم الجميلة والمتجددة على كل لسان حتى أصبح من أشهر شعراء عصره. وظلت سرقسطة مدينة الطفولة والشباب تثير إلهامه وتشعره بالغربة رغم كونه يعيش بين أهله وصحبه وفي ظل ملك كريم فيهم الشعر ويقدّر الشعراء لأنه كان منهم. أسمعه وهو يقول: كم غريبٍ حنت إليه غريبه وكئيبٍ شجاه شجو كئيبه سلطت كربة التنائي علينا فعسى فرحة التداني قريبه فمتى نلتقي فتصبح منا كل نفسٍ لكل نفسٍ طبيبه نظم ابن حمديس عدة قصائد يذكر فيها صقلية والمدينة التي شهدت طفولته وشبابه الأول.. فهي بالنسبة له الوطن فيها ولد. وفيها عرف الحياة ورأى الحقائق. ذكرت صقليةً والأسى يجدد للنفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنّةٍ فإني أحدِّثُ أخبارها ولولا ملوحة ماء البكاء حسبت دموعي أنهارها وكبقية شعراء الأندلس لم يلجأ ابن حمديس في شعره إلى استخدام الألفاظ غير المألوفة أو المستخدمة لدى عامة الناس، بل كانت لغته الشعرية سهلة الفهم، ميسورة الإدراك لجميع من يتلقاها أو يصغي إليها وهذا بطبيعة الحال يجعل المتلقي يعيش الشعر ويطرب للإبداع في المعنى والمبنى. يقول ابن حمديس: وجدٌ عن الدمع فض الختمَ فانسكبا به أردت خمود الجمر فالتهبا وما تيقنت أن الماء قبلهما يكون للنار ما بين الحشا حطبا ولكن ما جعلني أعجب بهذا الشاعر الرقيق، كان الصدق، والوفاء، وخضوعه لقيم ومثل الحب. لم نسمع عنه أنه قام بهجاء أحد، أو الإساءة إلى أحد مستخدماً سلاح الشعر الذي لا يقاوم. حتى هو نفسه ذكر ذلك في شعره حيث قال: يقولون لي: لا تجيد الهجاء فقلت: وما لي أجيد المديحْ فقالوا: لأنك ترجو الثواب وهذا لعمري قياسٌ صحيحْ فقلت: صفاتي، فقالوا: حسانٌ فقلت: نسيبي، فقالوا: مليحْ فقلت إليكم، فلي حجةٌ وللحق فيها مجال فسيحْ عفاف اللسان مقال الجميل وفسق اللسان مقال القبيحْ ومالي وما لامرئٍ مسلمٍ يروح بسيف لساني جريحْ وكما أشرت في البداية، فإن أهم ما شدّني إلى ابن حمديس هو وفاؤه لصديقه المعتمد بن عبّاد.. فقد خالف ابن حمديس مقولة أحد الشعراء: إن قلَّ مالي فلا خلٌّ يصاحبني أو زاد مالي فكل الناس خلاّني ولم أخف عن ابن حمديس هذا الرأي.. ما يجعلني افترض هذا الحوار معه: * ما الذي جعلك وفياً إلى هذا الرجل الذي انتهى؟ ـ أردت أن أرضي نفسي. * النفس أمّارة بالسوء.. بالخيانة.. بالجحود. ـ صحيح... ولكن نفس الشاعر تميل إلى الجمال... وأن أكون وفياً لصاحب مال عنه الجميع فهذا أمر جميل، إنه تعبيرٌ عن الحب، فالمعتمد بن عبّاد لم يعطني المال والرفاهية والحياة الهانئة كما يظن بعضكم. * لقد أعطاك ذلك كله.. أرجو ألا تنكر. ـ وأرجو أن تفهم أن هذا كله لا شيء... * وما هو الشيء.. ـ الشيء الذي ما زال يشدني إليه وسيظل يشدني إلى آخر رمق في حياتي، هو الحب.. * أحببت المعتمد بن عبّاد لأنه أعطاك. ـ بل أحببته لأنه أحبني... كان المعتمد شاعراً مجيداً، وكنت أيضاً شاعراً، وكان يجب أن يفرقنا هذا ولا يجمعنا.. لأن الشاعر يضيق بالشاعر الآخر.. المنافسة مفرقة لا جامعة.. ولكن المعتمد قربني وأكرمني لأنه كبيرٌ حقاً.. عشت تحت ظل عرشه في نعمة.. كان قريباً مني قرب الوريد في القلب يفتح لي قلبه ويشرح لي همومه. * أكان على حق في مقاومته ليوسف بن تاشفين. ـ حتى لو لم يكن.. فأنا كنت وسأظل إلى جانبه. * ولكن المرابطين هم الحكام الآن.. ألا تخشى منهم. ـ لا يكون هناك شعر بغير إثارة... وشاعر بلا موقف هو شاعر ساقط... وأنا لم أشأ السقوط. هذا الحوار الذي دار بيننا لم يكن من وحي الخيال بل من وحي ما قرأت عن الشاعر وما أدركته وأنا أقرأ أبيات قصيدته التي نظمها بعد زيارته لأغمات ولقائه بالمعتمد بن عباد وهو أسير. لقد أدرك ابن حمديس أن الزمن لا يظل على حال واحدة.. وأن التغير سمة الكون. أسمعه وهو يقول: ألا كم تُسمعَ الزمن العتابا تخاطبه ولا يدري الخطابا أتطمع أن يرد عليك إلفا ويُبقي ما حييت لك الشبابا لم تر صرفه يبلي جديداً ويترك كاهل الدنيا يبابا لقد تغير زمن المعتمد بن عباد، فكان ابن حمديس مع الملك الأسير ضد الزمن ولم يكن مع الزمن ضد الملك الصديق. قضى المعتمد في أغمات أسيرا، وقضى ابن حمديس في جزيرة مايوركا في عام 527 هجرية ميلادي، وظلت قصة الوفاء بين الرجلين خالدة. وبهذه القصيدة التي تحمل عنوان “الغريب” سجل ابن حميس أصدق المشاعر وأنبلها. غريبٌ بأرض المغربين أسيرُ سيبكي عليه منبر وسرير(1) إذا زال لم يسمع بطيِّب ذكره ولميرَ ذاك اللهوَ منه منيرُ وتندبه البيض(2) الصوارمُ والقنا(3) وينهلَّ دمعٌ بينهنَّ غزيرُ سيبكيه في زاهيه والزاهرِ الندى وطلابُه والعرفُ ثم نكيرُ إذا قيل في أغمات قد مات جوده فما يرتجى للجود بعد نشورُ مضى زمنٌ والملك مستأنس به وأصبح عنه اليومَ وهو نَفورُ أذلَّ بني ماء السماء زمانُهم(4) وذُلُّ بني ماء السماء كثيرُ برأيٍ من الدهر المضلل فاسدٍ متى صلحت للصالحينَ دهورُ فما ماؤها إلا بكاءٌ عليهمُ يفيض على الأكباد منه بحورُ فيا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً أمامي وخلفي روضةٌ وغديرُ بمنبتة الزيتون مورثة العلى تغني حمامُ أو ترفُّ طيورُ بزاهرها السامي الذي جاده الحيا تشيدُ الثريا نحونا ونشيرُ ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده غيورين والصبُّ المحبُّ غيورُ تراه عسيرا أو يسيراً مناله إلا كلُّ ما شاء الإله يسيرُ 1 ـ سرير: عرش. 2 ـ البيض الصوارم: السيوف القاطعة. 3 ـ القنا: الرماح. 4 ـ بني ماء السماء: آل المعتمد بن عباد. المراجع 1 - ديوان ابن حمديس/ د. يوسف عيد. 2 - وفيات الأعيان/ ابن خلكان. 3 - لسان العرب/ ابن منظور. 4 - ابن حمديس/ تحقيق الدكتور إحسان عباس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©