الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مساءلات وجودية

مساءلات وجودية
3 يوليو 2013 22:06
د. عبد الملك مرتاض إنّه لا يمنعني، انتظارُ توافُرِ شيءٍ من الوقت الملائم لكتابة تحليل ضافٍ عن نصّ رواية: “ك ـ ص: ثلاثية الحب والماء والتراب” للأديب الإماراتي علي أبو الريش التي أُعجبت بها، لدى قراءتها، إعجاباً طافحاً: أن أكتب اليوم هذه الدراسة القصيرة عن هذا النصّ الروائيّ الإماراتي الجميل. ذلك بأنّ هذا النصّ الروائيّ يمثّل، فعلاً وحقّاً، تجربة سرديّة متفرّدة ومثيرة معاً، في كتابة الرواية العربيّة الجديدة؛ فهي تتميّز بلغة سرديّة على غاية من الشعريّة والتكثيف والتصوير. إنّا نرى أنّ هذه التجربة التي يقدّمها الروائيّ الإماراتي المؤتلق في هذه الثلاثيّة العجيبة، هي في غاية التميّز والتفرّد، وكانت جديرةً بأن تُحدث لدى القراء والنقاد جميعاً ضجّة أدبيّة كبرى لو هُيّئَ لها النقد المتخصّص الذي يكتب عنها بالتوازي مع قيمتها الإبداعيّة، لأنّ اللغة الواصفة، أو لغة اللغة، إذا لم تحايث وتُصادِ لغة الإبداع المكتوب عنها لا ينبغي لها أن تكون لغة نقد حقيقيّة، بل أولى لها أن تصنَّف في أيّ ثقافة أخرى ضمن العلوم الإنسانيّة. إنّ النقد إذا لم يكن إبداعاً لا كان! إنّه يبدو لنا من خلال قراءتنا لهذا النصّ الروائيّ الإماراتي، الاستثنائيّ، أنّه خرج عن المألوف، وعن الوعظيّة، وعن المباشَرة، وعن الفجاجة السرديّة الرتيبة التي كثيراً ما تصادفنا في كثير من الأعمال الروائيّة المعاصرة، بل عمد الروائيّ إلى إنشاء عالمٍ جديد خالص له، فتمثّله في فضاء متوحّش يتسم بالعذريّة كطبيعة الحياة الأولى. فكأنّ أحداث روايته تركض في حيز من الأرض لمّا يُفطنْ، فهو يمثّل عذريّة الحياة، وبداية التاريخ الواعي. لغة شاعرية إنّ الروائيّ يتعامل تعاملاً من جنس تعامل الرواية الجديدة بالقياس إلى بناء ملامح الشخصيات التي كثيراً ما تستحيل إلى مجرد أشياء، على أساس أنّها كائنات ورقيّة، لا إنسانيّة حقيقيّة، مثَلُ تعامله في ذلك مع المكوّنات السرديّة الأخرى، كما سنرى. خذ لذلك مثلاً اللغة السرديّة التي نسج بها أبو الريش روايته، فهي على ما فيها، وفي بعضها أطواراً من هنات نحويّة ومعجميّة (قد يكون ذلك إلى طول نفَس نصّها، ممّا جعله يندّ في بعض الأطوار عن تحكّم الكاتب في متابعة لغته)، فإنّها ظلّت متمسّكة بالحدّ الأقصى من الشعريّة، فالروائي لا يتردّد في شحْن لغته السرديّة بأقصى ما يمكن أن تحتمل من ظِلال شعريّة على غاية من التكثيف والتصوير، كما في قوله مثلاً: “جَزَّت المرأةُ الواهنةُ عنق السكون” (ص. 527). وإنّه إذا لاحظ ملاحظٌ ما يبدو نقْصاً في الحسّ النحويّ والمعجميّ، وهو لا يمثُل في هذه الرواية الكبيرة إلاّ أحياناً قليلة على كلّ حال، فإنّ الذي يعوّضها عن ذلك هو حسُّها الشعريّ، المكثّفُ الطّافح، بالإشراقة الدلاليّة التي تشبه اللقطة العذريّة، أو المتوحشة التي تطفر لأوّل مرّة في الوجود؛ ذلك بأنّ حيز “شمل فوق”، ولا قرية “معيريض” أيضاً ليسا إلاّ إطاراً فنّيّاً لتقريب الرؤية الفسلفيّة للروائيّ وجعْلها في متناول الرّاهن، وقبضة الممكن، بعد اعتياصها الوجوديّ على التمثّل الواقعيّ. إنّ الصياغة اللغويّة تبدو في غاية الثقل الدلاليّ والتكثيف السرديّ، فهي لغة فنّيّة عالية المستوى، رفيعة النسج الشعريّ. وحين نعمد إلى قراءة الحيز (الفضاء باصطلاح غيرنا)، في هذا النص الروائيّ، نجد الكاتب يتعامل معه على نحو يجعلك تعتقد أنّ الروائيّ يحفر حيزاً عذريّاً متوحشاً كأنّه لا يوجد إلاّ في عالَمه؛ فحيز أبي الريش الروائيّ لا يكاد يقترب من المكان الجغرافيّ التقليديّ، حتّى يتحيّز للحيز العجائبيّ، أو الأسطوريّ، أو الخارق للعادة كما يقال، تحت إحساس أنّ الحيز مفهوم سرديّ سيمَائيّ، لا جغرافيّ تاريخيّ. إنّ الحيز في الأعمال السرديّة ليس من قبيل الجغرافيا في شيء، إلاّ أن يكون سيرة ذاتيّة، أو رواية تاريخيّة تقليديّة البناء، هو مكوّن سيمَائيّ لا صلة له بعالم الواقع الفِجّ، بل هو شكل إبداعيّ من صميم إنشاء الكاتب ليُجريَ عليه أحداث عمله السرديّ. إنّا لا نكاد نجد الكتّاب الروائيّين التقليديّين يُعيرون أهميّة لوظيفة الحيز في رسْم المعالم العامّة للعالَم الدراميّ الذي يُنشئه الروائيّ الجديد من حول الشخصيّات المتصارعة، وعَبر الزمن المتعاقب، وضمن اللغة السرديّة المتوالدة، والشأن في هذا النص الروائيّ يمثُل في أنّ للحيز وظيفةً سرديّة مركزيّة تزدان للحدث فيحدُث فيها، كما تتّسع للزمن فيتعاقب عليها، ونجدها تتبرّج وتتزيّن وتتسمّن للشخصيّات فتتمرّغ عليه، وتضطرب عبر مجالاته المتشجّرة الرحيبة البعيدة الآفاق. حيز عجائبي إنّ الحيز، في هذه الرواية، يقترب في معظم أطواره من العجائبيّ، كما هو الشأن في: جحور شمل فوق؛ الصخرة الملعونة؛ الطوفان الهادر؛ تشكّل ضوء المغارة، وهلمّ جرّاً ممّا يصادف القارئ من أضرُب الحيّز التي تلامس الصفة الأسطوريّة له، وذلك حتّى يُضفيَ على النص الروائي ممّا يجعله قريباً من حيز الملاحم، وهو على كلّ حال يتميّز بكثير من الخصائص التي لا نظفَر بها في عامّة الأعمال الروائيّة التقليديّةِ البناءِ. في حين تبيّن لنا ونحن نقرأ بناء الزمن في هذا العمل الروائيّ، أنّ أبا الريش في تعامله مع التسلسل، أو عدم التسلسل، الزمنيّ، لم يكن تقليديّ التعامل مع هذه القيمة السرديّة التي تكوّن طرَفاً فاعلاً، بل شديد التأثير، في المسار السرديّ، وفي تطوّر الحدث الدراميّ. فالزمن مكوّن مركزيّ من المكوّنات الكبرى للسرديّة من حيث هي، وبناؤه يتطلّب عناية شديدة من الروائيّين الذين اغتدوا يعيرونه عنايتهم الكبرى في الترتيب أو عدم الترتيب، أو في التقطيع بالتقديم والتأخير. إنّ الزمن يُبنَى في هذا النصّ الروائيّ متقدّماً على نفسه طوراً، ويدور من حول نفسه طوراً ثانياً، ثمّ يتيه في الحدث فلا يُتبيَّنُ له ملمَحٌ طوراً آخر. فليس الزمن في هذا النص الروائيّ مجرّد أداة للتّعداد، ولكنّه مكوّن سرديّ فاعل في المسار الدرامي للحدث، مثله مثل اللغة، والشخصيّة والحيز، وغيرها من المكونات السرديّة الأخرى. وإذا جئنا نومئ بالإيماءة الخفيفة، (لأنّا لا نريد لهذه الدراسة أن تغتدي تحليلاً حقيقيّاً لنصّ هذه الرواية، فلو جئنا ذلك لا ستحالت هذه المقالة إلى مجلّد ضخم، وذلك ما لا نستطيع فعْله الآن على الأقلّ، كما قلنا بعض ذلك في مطلع هذه الدراسة...)، إلى بناء الحدث، نجد الروائيّ يقطّعه على تقطيعات الزمن، فيجعله متداخلاً ولكنْ في تماسُك، ويجعله متناقضاً ولكن في توافق، كما يجعله متزامناً ولكنْ في ترابط، وذلك حتّى يؤدّيَ المكوّن الحدثيُّ وظيفتَه الدراميّة على النحو الأمثل في مَسار السرد، فالتداخل الحدثيّ يشبّك المكوّناتِ الزمنيّةَ بعضَها ببعض، وإنّ عدم إخضاع الحدث للتسلسل الزمنيّ الرتيب، المنطقيّ الترتيب، (وهو الذي لا يزال يستعمل في الرواية التقليديّة) يجعله حيّاً نابضاً مليئاً بالمفاجآت التي لا يعرف لها القارئ أوّلاً من آخر، ممّا يحمله، في الغالب، على التعامل مع النّصّ باستجابة فنّيّة نبيهة وفاعلة تستدعي منه اصطناع كلّ ما لديه من كفاءةٍ في حُسن التلقّي... إنّ الزمان الذي يُبنَى متقدّماً على نفسه، ثمّ يدور من حول نفسه، ثمّ يتيه في الحدث فلا يُتبيَّنُ له ملمَحٌ، ولا الحدث الذي يجِلّ فيخضخض أرجاء بادية شمل فوق، ويدِقّ حتّى يغتدِيَ مجرّد فعْل ملتصق بشخصيّة بائسة شقيّة محرومة: بالطريقة التقليديّة الرتيبة، لهز زمن سيمَائ جديد المفهوم، قشيب الاستعمال. إنّ الروائيّ يجعل من هذا الزمن مكوّناً كفؤاً ضمن أدواتٍ تقنيّةً متضافرةً، يسخّر بعضُها بعضاً للبناء السرديّ العامّ المتماسك المرصوص في طور، والمهلهل في طور آخر، حين تقتضي الضرورة الفنّيّة ذلك، ويندمج بعضُها في بعضٍ في عامّة الأحوال. وأمّا الحدث الذي يكوّن لُحمة من لحم هذه الرواية، فإنّا لاحظنا، أنّه فيها يَدِقّ أحياناً فيستوجب ذلك منك أن تبحث عنه بالمجهر، أو بالشمعة تحت الشمس كما كان يفعل سقراط في بحثه عن الحقيقة، لاِنْدِساسه بين اللغة، ولاندماجه في حركيّة الشخصيّات، ولتمازجه مع الزمن ندّاً لندّ؛ كما يَجِلّ أحياناً أخرى فيصير مرعِباً مدهشاً مخيفاً، يملأ عليك قريحتك وأنت تتابع جرَيانه في هذا النصّ البديع. ويظلّ الحدث الدراميّ، أثناء ذلك، وفي دِقّته وجلالته، مرتبطاً ارتباطاً جدليّاً بحركيّة الشخصيّات وتصارعها، ومعوَّما في الحيز وغائصاً فيه. ملامح وصراعات وندلف إلى الحديث عن تعامل الروائيّ في رسم ملامح شخصيّاته، فنُلفيه يُفلح في أن يجعل الصراع لا يحتدم بين الشخصيات الشرّيرة من وجهة، والشخصيّات الخيّرة من وجهة أخرى، كما ألِفْنا أن نجد ذلك في عاّمة النصوص الروائيّة العاديّة، أو التقليديّة، ولكنّه جعله صراعاً يضطرم بين الإنسان وبين نفسه، وبينه وبين عدوان الطبيعة، وبينه وبين إرادته الجامحة، وبينه وبين غريزته الحيوانيّة التي لا تكاد تنبِذ عنها التفكيرَ في إشباع نهمها من الممارسة الجنسيّة، بحيث يغتدي الإنسان، وكأنّه، هنا، معادل لذاك الإنسان البدائيّ الأوّل، الذي قد يراه بعض المؤرخين مشاكِهاً للحيوان، حذْوَ النعل بالنعل. ولذلك، فلم يكن القصد من توظيف الجنس في الرواية، غالباً، لغايةٍ مراهِقة، ولكنّه وظِّف توظيفاً فنّياً، وتربويّاً أيضاً، لتعرية الإنسان من داخله، وتصويره بالصورة الحقيقيّة التي يُخفيها تحت ثياب اللياقة الاجتماعيّة، ويغشّيها بالعادات والتقاليد التي تمنع عليه ممارسة الطقوس الجنسيّة إلاّ في إطار اجتماعي متعارَف عليه، وشرعيّة دينيّة جارٍ عليها العمل بين الناس في مجتمعاتهم. لقد اصطنع الروائيّ أدواتٍ سرديّةً كثيراً ما تصادفنا في بنية الرواية الجديدة، ويجنح فيها للعجائبيّة جنوحاً بادياً، في بناء ملامح الشخصيّات التي عرَضها على أنّها كائنات: إمّا ورَقيّة، وإما أسطوريّة، كما هو الشأن في مثول: الوعل العاقّ الضالّ؛ الحمار السحريّ الذي يحاور أبا متراس؛ الثعبان العظيم؛ النسر الكاسر؛ العجوز العجيبة... كما أنّ الروائيّ استدعى طائفة من القيم والأحداث الدينيّة والتاريخيّة الكبرى مثل قصّة عيسى وأمه مريم عليهما السلام، وقصّة ابنتي شعيب مع موسى حين سقى لهما (وقد سقى أبو متراس لفتاتين من بئر أشبه بالبئر العجائبيّة)، ثمّ عرض شعيب على موسى تزويجه إحداهما، كما جاء أب إحدى الفتاتين مع ابنته إلى أبي متراس في كوخه لإسقاط المشد النبويّ نفسه على هذه اللقطة السرديّة. في حين لم يتردّد في التناصّ مع مجموعة من التعابير الأدبيّة العربيّة الشهيرة ومنها التناصّ مع أبي العلاء المعرّي مثلاً... في حين أنّا نلاحظ أنّ هذا النص الروائيّ يمثّل مأساة الإنسان في وجوده، فهناك ميل بادٍ إلى المساءلة عن الغاية الوجوديّة للإنسان في حياته، وما ذا يصنع؟ ولم سُخّرتْ له الأشياء؟ وما علاقته بالوجود (الفضاء، الحيوانات، الماء، الأرض، الأشجار، الأحجار، البحر...)؟ فليس الرجل المنبوذ، أبو متراس، إلاّ تمثيلاً إنسانيّاً لضِيق الإنسان بوجوده الدراميّ الذي قُيِّض له، وتطلّعه إلى البحث عن فضاء وجوديّ أرحب: يستمتع فيه بحريّته، فيتعامل مع مظاهر الطبيعة النقيّة، عوضاً عن التلطّخ بخطايا البشر، والاستدراج إلى نفاقهم. إنّ هذا النّصّ الروائيّ يضيق بالسطحيّة، وبالراهن، وبالواقعيّ، ويهفو إلى العجائبيّ، وإلى السحريّ، وإلى العلّة الأولى للأشياء للذوبان فيها، من أجل غاية تظلّ غامضة غموض الأسرار التي تتحكّم في وجود الأشياء... وإنّا لنعجب، آخر الأمر، ونحن ننفض اليد من هذه الدراسة القصيرة لهذه الرواية الكبيرة، كيف لم تنل إحدى الجوائز، في حين مُنِحت جوائز لنصوص لا ترقى بأيّ وجه إلى هذا النصّ الروائيّ الذي دبّجه يراع علي أبو الريش.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©