الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وشْمٌ بَرْبَرِي

وشْمٌ بَرْبَرِي
3 يوليو 2013 22:07
خيرالدين جمعة اللعنة!... رنّ منبّه الهاتف النقال.. أغنية فرنسية رومانسية تأخذك إلى عالم الجنّ والملائكة.. أنهض من فراشي مسرعةً.. عكس الأيام السابقة... إنها الساعة السادسة والنصف صباحا. أتعثّر في اللحاف الأبيض. أمسك بالهاتف أوقف رنينه الدافئ الملحّ. إنه يوم أشبه بصهيل الذاكرة أو بشموخ وشمٍ بربريّ. اليوم سألتقيه الساعة السابعة والنصف بجانب مقر عملي. لقد نظّمت كل شيء كي أكون في الموعد المحدَّد.لا أريد أن أتأخّر عليه كما كان يحدث كل مرة. لقد رتّبتُ كل شيء حتى سيارة الأجرة التي ستقلّني من شارع قرطاج حيث أسكن إلى مقر عملي. اتفقتُ معه على الوقت. قلتُ له: الساعة السابعة والنصف بالضبط لا أريدك أن تمرّ عليّ، لا تحرمني جنون اللقاء ولذّة التحدي.. الآن كل شيء في مكانه حتى حذائي الجديد الذي اشتريتُه في موسم التخفيضات الكاذب.. جواربي السوداء الشفافة التي تثيره تنظر إليّ في إثارة.. شالي الرمادي القطني نائم على الكرسي مثل قطّ شيرازي.. مجفّف الشعر.. مكياجي على الطاولة أمام مرآة الزينة.. كل شيء في مكانه.. أندفع نحو بيت الحمام. يخترقني العنفوان تحت الماء الدافئ. لا أريد أن أتذكره وأنا عارية تحت الماء. مسحت بخاره المثير وأنا أدلك جسمي بالصابون السائل. شعرتُ به يبعثر أحلامي ويخترقني حيث لا أريد.. ولأن الوقت لا يرحم، كتمتُ أحلامي الجريئة بأن أغلقتُ الحنفيّة وهرعتُ إلى المنشفة.. ما زالت أربعون دقيقة.. أذهب إلى المطبخ، أتناول قطعة مرطبات وأضغط على زرّ آلة القهوة الكهربائية التي أعددتُها من البارحة.. أعود إلى غرفة النوم. ألبس ملابسي، التنّورة السوداء القصيرة حدّ الركبتين، القميص الأبيض ثم السترة.. ألبس الجوارب بعناية، بقي الحذاء.. أين هو؟ أين هو؟ إنه هنا، المعطف؟ آه لقد علّقتُه عند باب الخروج من البارحة. سأبيّن له كم أحبّه.. كم أعشقه.. هذه المرّة لن يقول تلك العبارة التي دائما يردّدها “نحبك يا سخْطة.. أما انت فوضى فوضى كبيرة!”. في كل مرة ألتقيه لا بد أن يغضب مني لأنه يعرف أنني أتأخر دائما في الحضور.. هذه المرة تحدّيتُه قلت له: “أريد أن أراك قبل أن أذهب إلى العمل، نشرب القهوة معا وسترى كيف سأحضر في الوقت المحدد وحتى قبلك”.. آخر مرة غضب وقال لي إنه يشك في حبي له لأنني في كل مرة أجعله ينتظر، قال إنه يشك حتى في احتفاظي برسائله وكيْ أبرز له أنه فريسة الشكوك والأحكام الخاطئة، قمت بتنظيمها البارحة بحسب التاريخ واحتفظتُ بها بعناية في مغلَّفٍ ذهبيّ، ووضعتُها في حقيبتي السوداء حتى لا أنساها.. سأريها له حتى يعرف أني أحبُّه وأعشقه ولكنِّي لا أرضى أن ينعتني بـ”سَخْطة” أو “فوضى”.. هذه المرة وبعد خمس سنوات من اللقاءات المجنونة سنتحدّث بشكل جدِّي عن خطوبتنا، قال لي: “لن أقبل أن تظلّي بمفردك في شقّة وبدون سيارة ماذا ستفعلين إذا حصل لك شيء؟!”.. تكلّس عقله، أصبح شرقيا، ربما بدأ يتغيّر هو الآخر بعد الثورة لأنني سبق وأن قلتُ له عديد المرات إنّ أخي يزورني كل نهاية أسبوع ليطمئن عليّ كلّما تأخرتُ عن زيارة أهلي في مدينتي الساحلية البعيدة.. تونس لم تتغيّر كما يدّعي هو.. الناس هم الذين تغيروا، أما تونس فستظل أبدا أقوى من كل الرياح ومن كل البشرْ.. مازالت نصف ساعة.. ينهمل الرذاذ في الخارج مثل انفلات الياسمين، وتونس تغتسل في الصباح بماء الشتاء الربّاني، في المرة الأخيرة رقصتْ لي الدنيا حين حدّثني عن موعد زيارة أهلي.. فاحت رائحة القهوة في الشقة فأسرعتُ إلى المطبخ ملأتُ فنجانا من القهوة وأخذتهُ إلى غرفة النوم.. أخذتُ في تجفيف شعري فذاب صوت الرذاذ على بلّور النافذة خيوطًا من الصباح.. ربطته في شكل ذيل حصان وضعتُ مكياجا خفيفا.. أرتشّف قهوتي الساخنة على عجل، أضع على شفتيّ الأحمر المثير الذي يحبه، وأحيط عينيّ بالأسود الشامخ بعنفوان.. ظلال من الماسكارا الخفيف على الرمشين تكفي.. ليبقى قتيلي إلى الأبد! مازال ربع ساعة.. ربع ساعة فقط وألتقيه.. أطلّ من النافذة الثملة بقطرات المطر فألمح سيارة الأجرة عند باب العمارة، يبتسم الفرح في قلبي كالدفء المزمن.. سأبيّن له اليوم أنني لستُ فوضى وأنني قادرة على أن أكون منظمة ومرتبة حين أريد ذلك، سأصل قبله إلى الموعد.. أنا من سيغضب هذه المرة.. سأصرخ في وجهه وأقول له: لماذا تتركني أقف وحيدة على الرصيف حتى أكون فريسة للعابرين؟!.. أترك غرفة النوم. أعبّ ما بقي في فنجان القهوة. أضع الفنجان في حوض المطبخ. بقيت عشر دقائق، عند الباب أضع معطفي الأسود الطويل.. أعود إلى غرفة النوم لآخذ حقيبتي السوداء.. لن أنساها لأن بها أجمل ما قرأتُ من رسائل، سأجعله يخجل من نفسه هذا اليوم.. أنا التي سأتهكم عليه هذا الصباح.. في أحد المرات قال لي: “أنا أحبك ولكنك فوضى عارمة، كيف سأنجح معك في بناء بيت الزوجية؟!”.. لقد آلمني في ذلك اليوم.. نعم آلمني.. ولكن ربما معه بعض الحق.. أنا لديّ شيء من الاضطراب والعجلة التي أعاني منها نتيجة عدم التزامي بالوقت، ولكنني هاأنذا اليوم أقهر الوقت.. أمسك بحقيبتي.. أعود إلى المطبخ، آخذ كيس الزبالة البلاستيكي الأسود كعادتي كل صباح، فأنا أكره أن أعود إلى البيت مساء لأشمّ رائحة كريهة، ثم لأنني لا أريد أن أشمّها حتى في الحي.. أريد من عمّال البلدية أن يأخذوها بعيدا.. بعيدا.. أعرف أنهم يأتون قبل الساعة الثامنة بقليل... أطمئنّ إلى أن كل شيء على ما يرام.. ثم أهمّ بالخروج، قبل أن أغلق الباب أتثبّت جيدا في كل شيء، كالعادة لقد نسيتُ هاتفي النقال، أعود إلى غرفة النوم، آخذه بسرعة، أضعه في حقيبتي، ثم أعانق الصباح وأقبّل البرد.. برد تونس الماكر الذي يتسلّل تحت ملابسي بكل جرأة كلحْن غجريٍّ شرسْ! هذا هو اللقاء المجنون.. أحلى لقاء.. رذاذ يراقص بقايا الظلمة في يوم شتوي بارد.. الساعة السابعة والشمس تتمطى في دلال وراء الغيوم، وأنا أقف مع من أحب عند كافتيريا على رصيف من أرصفة مدينة تونس الخرافية.. بقيت دقائق معدودة وألتقيه.. التاكسي ينتظر في الأسفل قبل أن أدلف إلى المصعد الكسول.. ألقي على عجل بكيس الزبالة في المكان المخصّص لسكان الطابق الرابع لينزل إلى أسفل، أسمع صوت ارتطامه متوجّعا وهو يسقط في الحاوية الكبيرة.. هذا ما ورثناه من الهندسة الفرنسية العتيقة.. أنظر إلى ساعتي يأكلني القلق وأفكر.. وأفكر.. وأفكر وأبعد الأفكار السوداء عني.. وقلبي يقول ستصلين قبله.. إنه لقاء التحدي.. ألقي بأغراضي في المقعد الخلفي وأرتمي في السيارة وأنا أحدّق في ساعة التاكسي الداخلية.. طلبت من السائق الإسراع إلى ساحة باستور.. قلبي يغنّي.. سأصل قبله وسيخجل من نفسه.. عندما استدارت السيارة آخر شارع الحبيب بورقيبة مودِّعة تمثال ابن خلدون، لمحتُ ذبابة عنيدة داخل السيارة تطيّرتُ منها ففتحتُ النافذة لتخرج.. تحمّلت البرد رغم نظرات السائق المعاتبة، ولكنني انتبهتُ إلى أن هناك ذبابة أخرى.. شممتُ ملابسي لأتأكد أنني قد وضعت عطرا، فقد أحسستُ أن هناك رائحة كريهة داخل السيارة فتحت النافذة أكثر.. بقيت خمس دقائق بالضبط.. قلت في نفسي بأيّ رائحة سأقابله؟! أنا متأكدة أنني قد وضعتُ عطري المفضل.. لا يمكن أن أخرج بدونه.. تزايدت الرائحة الكريهة فنظرتُ إلى السائق في اشمئزاز.. كيف يستقبل زبائنه وسيارته كأنها مزبلة؟ البارحة اتصلتُ بالشركة كي ينتظرني في الوقت المحدد ثم يأتيني بسيارة كأنها سلّة قمامة.. سأشكوه للشركة حتى يحترم زبائنه في المرة القادمة، هو يعرف جيدا أنني سأدفع له أجرة مضاعفة.. نظرتُ إليه فبدا لي أنه هو بدوره يزمّ شفتيه متبرّما، شككتُ في الأمر وفي لحظة خاطفة التفتُّ إلى الوراء لأتأكد من عدم وجود شيء مريب في السيارة.. نعم التفتّ إلى الوراء.. فتحتُ عينيّ.. لم أصدق ما رأيت.. غلا الدم في عروقي وأحسستُ بدقات قلبي ترجّ كياني.. التفتّ.. أحسستُ خصلة شعري ترتعد مُلامسةً كتف السائق ورأسي يمتدّ إلى الوراء زرافةً من الرعب.. أغمضتُ عينيّ.. فتحتهما.. أغمضتهما مرة أخرى فتحتهما.. لا أصدّق ما أرى.. ذبحني الدوار وزلزلتني الأسئلة.. لم يكن فوق المقعد الخلفي حقيبتي السوداء بل كيس الزبالة الأسود... التفتُّ إلى السائق صارخةً بصوتٍ مزّق البرد وأحالني إلى رُكام: توقّفْ.. توقّفْ.. اللعنة!!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©