الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوسف الخطيب.. مجنون فلسطين

يوسف الخطيب.. مجنون فلسطين
6 يوليو 2011 20:02
ثمانون حولاً دفعت الشاعر العربي الجاهلي زهير بن أبي سلمى إلى أن يسأم الحياة وتكاليفها، لكنها لم تفلح في أن تجعل الشاعر العربي الفلسطيني يوسف الخطيب “رحمه الله” يسأم لا تكاليف الشعر ولا تكاليف أو تبعات ممارسته للحرية إلى تخومها القصوى، وما ترتب على تلك الممارسة من مواقف مبدئية جرَّتْ عليه من المتاعب ما تنوء به العصبة أولو البأس، ولم تفلح كل محاولات النفي ولا التشريد ولا التغييب والمنع المتعمد ولا الحرب التي تعرض لها هذا الشاعر إعلامياً ونقدياً أن تفت في عضده، ولا أن تزحزحه قيد أنملة، عن مواقفه المبدئية سواء فيما يخص الشعر والفن والفكر أو فيما يخص فلسطين ومتعلقاتها... وها هو يغادرنا تاركاً لنا مع أعوامه الثمانين إرثاً كبيراً من الإبداع الشعري والأدبي وسيرة ثرّة تستحق أن تروى... قبل الدخول إلى دهاليز هذه التجربة الشعرية الممتدة يبدو من المناسب إيراد ما قاله يوسف الخطيب نفسه في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت، بعد جهد جهيد، قبل موته بأيام فكحل عينه بها بعد هذا الحصار الإعلامي الذي ضرب حول تجربته الشعرية لأن قريحته البرية المشاكسة لم تمتثل للسائد والمرغوب ثقافياً وسياسياً: “ها أنذا الآن، ربما في السنة السادسة أو السابعة من بعد الألفين في دمشق، ولم يعد لي أي حضور أدبي أو معنوي يستحق الذكر على سطح القشرة الظاهرة من حياتنا الثقافية المعاصرة.. ولكنني على الرغم من كل ذلك التغيُّب، أو التغييب، لم أتراجع يوماً عن محاولة الصعود بخطِّ بياني الشعري، أعلى فأعلى، ليس كملاذٍ نفسي من واقع ما أعانيه من حصار خارجي خانق، وإنما كاستجابة إنسانية معافاة لتحديات ذلك الحصار الذي أعلم جيداً أنه ليس قاصراً عليَّ بمفردي، وإنما يشتمل في الوقت نفسه، وبالقدر ذاته، على جميع “أرثوذكس” القضية الفلسطينية المتشبثين بجذورها العميقة، كأصل وأساسٍ لمجمل القضية العربية بأكمل أبعادها، ولم “يتكثلكوا” يوماً في متاهاتها الفروعية المتبدِّلة والمتساقطة بطبيعتها”. العشق كاملاً في قرية “دورا” التي تقع في مدينة الخليل الفلسطينية وتنفتح على أفق الساحل الفلسطني الساحر، في غلالته البرتقالية المطرزة بالأرجوان، في تلك المساحة الخضراء بين يافا شمالاً وغزة في أقصى الجنوب، ولدت موهبة شعرية قدر لصاحبها أن يكون من رعايا الحزن الفلسطيني الطويل، وحادياً من حداة الأمل والداعين إلى النهوض بعد كبوات كثيرة رأى فيها من الأحداث والخيبات والخذلان ما شاب له قلبه، لكنها من جهة أخرى صقلته وأسهمت في إضفاء غنىً فكري وفلسفي على تجربته وساهمت في صياغة روحها وصميميتها الإبداعية. ولا تتعجب من صبره الأيوبي على المحن، وضربه عرض الحائط بكل الصعوبات لأنها لا تستحق في نظره سوى “أن تكون تحت الأقدام”، فالشاعر إلى جانب استفادته واستلهامه لدروس التاريخ وعبره إن على مستوى تجربته الشخصية ومواقفه ومسلكياته أو على مستوى تجربته الشعرية، هو أيضاً ربيب مدينة خليل الله إبراهيم “عليه السلام” كما يحلو للفلسطينيين الصامدين أن يقولوا مستمدين من بركة الاسم وصلابته في الأسطورية في الدفاع عن الحق ما يعينهم على صمودهم، تلك المدينة التي انزرعت في روحه منذ الطفولة وظلت تلهمه الصبر والتحدي وتعينه على سداد تكاليف العشق كاملة غير منقوصة. لم يكن ممكناً للشاعر الذي ولد في بواكير الألم الفلسطيني إلا أن يتجرعه بعد ذلك مرارة إثر مرارة، حتى امتلأ به وفاض في شعره وكتابته ليسمها بميسمه النضالي الخاص: لا تنازلات ولا مساومات ولا تكتيكات بل وطن كامل من الماء إلى الماء، ولعل أجمل الأسماء التي حملها هذا الشاعر المشاكس الغاضب اسم: “مجنون فلسطين”، وإن كان هذا لا يقلل من جمال اسمه الآخر: “عندليب فلسطين”... ومن يقرأ شعره يوقن أنه كان بحق عندليبها ومجنونها. ففلسطين كلها، بشحمها ولحمها وقضها وقضيضها، بطبيعتها ومدنها العتيقة وكرومها وحقولها وجبالها وسهولها ووديانها ومخيماتها وجرحها النازف، ومآذنها وكنائسها وأجراسها وأسماء شهدائها وملاحمها التاريخية على مر الزمان ارتسمت في قصائده، حتى باتت صورة كاملة الموت والميلاد تحضر في المكان والزمان والتاريخ والجغرافيا رافلة بكل الألوان والصور والتفعيلات، يغنّيها على كل البحور ويمتاح من بحرها غذاءه الشعري والفكري ويضخ في شرايين القصائد ماءها فتأتي مندّاة باسمها، عابقة بابتهالاتها وابتهاجاتها الطفولية وخبرات الصبا ومفارقاتها اليومية... بكل تفاصيلها جاءت فلسطين إليه تسعى، تملي عليه ما عنَّ لها من الشعر وتعطيه منه محصولاً وافراً. لقد وسمت فلسطين روحه بميسمها الحاد حتى يمكن القول إنها بطلة شعره والحاضر الرسمي والوحيد في قصائده. فيما نذر هو نفسه لها، شعراً وممارسة، وآمن بها وطناً وأماً وحبيبة وحلماً وأملاً ظل يسبح في أوقيانوسه طوال مسيرته. لم يصرخ “عائدون” ويضع نقطة في آخر السطر، ولم تكن مجرد جملة شعرية بل ظلت كلمة يتغرغر بها في كل أشكالها الشعرية والنضالية ورافقت سنوات عمره الثمانين، ولعل آخرها ذلك النشيد البهي الذي كتبه لرائعة ابنه باسل الخطيب التلفزويونية “أنا القدس”. ترحال شعري منذ تعلم يوسف الخطيب فك الخط في المدرسة وردد خلف المعلم “راس.. روس.. دار.. دور” دار رأسه أكثر من دورة شعرية، وانفتحت في روحه آفاق رحبة لا يضاهيها في الاتساع سوى تلك الحقول الخضراء التي كانت تنفسح أمام ناظريه في بلدته.. مذّاك سيعرف الخطيب ترحالاً لغوياً شاسعاً يأخذه من قلبه إلى عالم الشعر، سيعلق قلبه الصغير بجمال المعلقات، وتغرد روحه مع ناي جبران، وسيصحو ألمه المرّ في مراحل مقبلة في أكثر من مدينة وعاصمة عرفت رحيله السندبادي وغربته الأبدية التي ظلت تأكل روحه في صمت رهيب. وكما كانت الحرية حاديه ونبراسه في ممارسته لفلسطينيته وعروبته ووطنيته، كانت أيضاً حاديه ونبراسه في ممارسته الإبداعية للشعر والكتابة، فسعى إلى التجديد والابتكار لكن ضمن الأصول التي بها يظل الشعر شعراً وفق رؤيته الخاصة للشعر، فهو وإن كان من شعراء العمود إلا أنه جرب في إطاره وتنقل بين بحوره وإيقاعاته وتفعيلاته في محاولة لبناء خريطة شعرية إبداعية حدودها مفتوحة ما شاءت لها فصول القصيدة أن تنفتح، وصوره ضاجة وحارة وغنية ما شاء لها غنى الحياة ذاتها أن تغتني. لم يتأطر في الشكل التقليدي للقصيدة بل جنح إلى تخليق إيقاعاته ليقيم عمارته الشعرية التي تتنوع فيها الأشكال والرؤى. وهو يقول عن ذلك: “أضع قصيدتي في الشكل الفني الذي أرى، بمحض حريتي واختياري، أنه يناسبها أكثر من غيره، مبتعداً إلى أقصى الحدود عن كثير من انفعالات النقاد الذهنية السقيمة والعقيمة فيما يملونه على المبدعين من مواصفات فنية جاهزة، وغير آبهٍ على الإطلاق بكل ما هو رائج ورديء معاً في سوق الحداثة الأدبية من “بالة” الحضارة الغربية، ساعياً من وراء ذلك كله إلى ابتداع حداثتي المستقلة التي تخصني بمفردي، دون أية استعارة من هنا، أو اقتباس من هناك”. لقد جعلتُ هَمِّي أن أكون أنا “الشاعر الحر” في المقام الأول، فتأتي بعد ذلك حرية الشعر، والفكر، وسائر الحريات الأخرى، في موقعها الطبيعي كثمرة في شجرة، وكتتويج منطقيٍ وحتميٍّ لحرية الإنسان”. بوح العندليب مع قصيدة “العندليب المهاجر” التي كتبها في 1955 سينتقل إلى لون آخر من الشعر، تلك القصيدة التي وصفها في حوار مع الشاعر طلعت سقيرق بأنها “نقلة مفصلية في نتاجه الشعري لعقد الخمسينيات”، لأنه خرج بها من القصيدة الهادرة، المنبرية، المجلجلة إلى نفَس جمالي غنائي رومانسي إلى حد كبير، كما لو أنها كانت استراحة المحارب التي تعقب حالة الانفعال العاصف بالحدث فيما يشبه التأمل العميق به وبحيثياته. وبعد الرفض الهادر والألم الصارخ سيتبدى نوع من الحزن الشفيف الناجم عن استيعاب حالة الفقدان، فقدان الوطن الذي بات بعيداً ونائياً، واقعياً على الأقل. مع ذلك، لا يلمس المرء في شعره تلك النزعة الرثائية أو البكائية التي وسمت إنتاج الكثيرين في تلك المرحلة، فلم يكن الخطيب من الندابين ولا البكائين ولا كان من الساعين إلى إنتاج شعر يستدر العطف والتعاطف... بل على العكس تماماً كان يعتبر فلسطين ديناً مستحقاً على كل عربي ومسلم، لا منّة فيه ولا “جْميلة” بالدارجة الفلسطينية. وبقدر ما اقترب في هذه المرحلة من روح فلسطين، بوحاً وسرداً، بقدر ما ابتعد عن الشعر المنبري ومضامينه وقوالبه النمطية وجدَّ في طلب التجديد الشعري. وسوف يتيح له سفره إلى هولندا للعمل في إذاعتها أن يجترح من “الأرض الواطئة” قصيدته التجديدية المحلوم بها، وعن ذلك يقول: “وحقيقة الأمر أنني خلال هذه الغربة القسرية العجيبة التي تختلف تماماً عن أية غربة عادية أخرى توخيت أن أقول شعراً يختلف بدوره عن أي شعر عادي آخر، مما كنت قد خلفته وراء ظهري من سجالات أدبية شبه صبيانية حول التقليد والتجديد.. أو ما يدعى اعتباطاً بالقصيدة “العمودية” في مقابل ما يدعى زوراً وبهتاناً أيضاً “بالقصيدة الحرة”، مرتقياً هكذا من قعر الأراضي الهولندية الواطئة إلى أعالي ينابيع الشعر العربي الأصيل عن طريق استحداث “فن التدوير” في بُنية القصيدة العربية المعاصرة، مما لم يسبق لشاعر عربي آخر أن استحدث مثله في مطلق تاريخ شعرنا العربي.. وللأسف الشديد لن أستطيع في مثل هذه المقابلة الصحفية، السريعة بطبيعتها، أن أدخل في تفاصيل مثل هذا الإنجاز الذي يحتاج إشباعه إلى قرابة “رسالة” مطولة قائمة بذاتها.. على أن أي ناقد أدبي ذي صلة مكينة بعبقرية اللغة العربية، وأسرارها “العروضية” الفريدة من نوعها، وإنجاز عملاقنا العماني الخلاق الخليل بن أحمد الفراهيدي في هذا المجال، يمكنه أن يلاحظ بسهولة بالغة ما كانت عليه قصيدتنا العربية المعاصرة قبل أن أضع قصيدتي الملحمية المرسلة المستديرة بعنوان “دمشق والزمن الرديء”، عام 1961، ثم ما أصبحت عليه قصائد أغلب الشعراء العرب المعاصرين بعد ذلك التاريخ، إذ لعل في ذلك ما يغني عن كثير من التفصيل في “فن التدوير”. الشعر مسموعاً في الثمانينيات من القرن العشرين سيدخل يوسف الخطيب مغامرة شعرية أخرى، مدخلاً القول الشعري على المستوى التواصلي في سابقة ستصبح فيما بعد تقليداً شائعاً في نشر الشعر، ذلك أنه في عام 1983 سيصدر ديواناً شعرياً مسموعاً (على شرائط كاسيت) هو الأول من نوعه يحمل عنوان “مجنون فلسطين”، مخترقاً في ذلك الزمن التقاليد الشعرية المكرسة والمعروفة عن طرق نشر الشعر وإيصاله للجمهور. وجمع بين القصيدة العمودية والشعر الحر، في محاولة للتأكيد على أن الشاعر المُجيد سيكون مُجيداً في كل أشكال الكتابة، وبالفعل، برزت في قصائده تلك قدراته الفنية العالية، وتمكنه الشعري، وخصوصيته الأسلوبية، ومهارته في تدوير اللغة وتطويعها وتقويلها ما تعج به الروح ويمور به القلب، وتلك واحدة من أسرار الشعر الجمالية التي كانت تجري في يوسف الخطيب مجرى الدم في الجسد. وظلت تجربته في نماء وتطور، ونشر في 1988 ديواني: “رأيت الله في غزة”، و”بالشام أهلي والهوى بغداد” اللذين حملا همه الأزلي في قالب جديد. وبعد 1988 توقف الشاعر عن نشر الشعر لقناعته أن دواوينه تحجب فلمن يكتب إذن؟!. كتب يوسف الخطيب كل أشكال الشعر، من القصيدة العمودية إلى القصيدة الحديثة، واحتشدت قصيدته بأساليب متنوعة بينها السرد والحوار الذائب في قالب شعري مكين، وقد بقيت الذاكرة باسترجاعاتها وحفرها العميقة وأحداثها وأحلامها وأشواقها وتوقها الهائل إلى الحرية تحتل منزلة كبرى لديه، فيما ظل التاريخ بكل ما فيه من رموز ودلالات وموروثات ثقافية وحضارية وإنسانية بحره الشاسع الذي يسقي منه جذور قصائده، فتنشق عن استفاقات وتوظيفات ذات مستويات دلالية متعددة وفي تصاعد مستمر، ذلك الصوت العميق الآتي من المعرفة المترسخة والعميقة في شؤون الحضارات وافتراقاتها وصراعاتها وتآلفاتها وما طبعت به سيرة الإنسان حاضرة في الكثير من قصائده، ليس بوصفها أحداثاً أفقية تتسول الثراء الشكلي للشعر بل بما هي تجربة روحية إنسانية تقدم ما يشبه الإجابة على أسئلة الراهن وإشكالياته المتعلقة بالهوية والأصالة والمعاصرة والتغيير والحرية وغيرها مما يشغل بال الثقافة المعاصرة... وفي كل ذلك كان يبحث عن خصوصيته وعن أسلوبه وعن بصمته التي تميزه شعراً عن الآخرين، وقد تحقق له ما أراد. لقد كان الخطيب “رحمه الله” يرى أن الكتابة عن فلسطين تشبه صعود “درب الآلام”، ويعترف بأنه ما كتب شيئاً بصدد قضية فلسطين في يومٍ من الأيام إلا وانتابه ما يشبه قشعريرة الرعب من أن لا يكون قادراً على مثل هذا الصعود!... عاش الخطيب بين قضيتين، قضية الوطن وقضية الشعر، وبينهما كانت رحلته على درب الآلام شاقة وطويلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©