الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنترنت.. المارد الذي خرج من القمقم

الإنترنت.. المارد الذي خرج من القمقم
6 يوليو 2011 20:08
في الفترة الأخيرة طفت قضية العلاقة بين “الإنترنت والديموقراطية” على ساحة الجدل الفكري، وبرزت أسئلة كثيرة حول هذه العلاقة وشكلها وحدودها وغير ذلك، مما يقلق بال شريحة واسعة من القراء والمهتمين ورجال السياسة والأدب والإعلام، وراجت أسئلة من قبيل: هل تسهم الإنترنت في تجديد الديموقراطية كثقافة، وكممارسة وكمؤسسات؟ وهل يؤثر هذا “المارد” والوافد الجديد في الممارسات التنظيمية والتواصلية للأحزاب في اتجاه إرساء الديموقراطية الداخلية، وتطوير اتصال سياسي تفاعلي منتج، وتعزيز قيم الانتماء والالتزام؟ وهل يرسي ممارسات كفيلة بترسيخ شفافية إيجابية تنور الرأي العام دون جنوح إلى تسويق الإشاعات المغرضة والتلصص على الحيوات الخاصة؟”. هذه الأسئلة وغيرها كانت موضع عناية الباحث والمفكر المغربي الدكتور عبدالنبي رجواني، الذي حاول الإجابة عليها في كتابه الصادر حديثاً: “الإنترنت والديموقراطية: إنعاش وتجديد أم تقويض وتأزيم”، ضمن سلسلة “شرفات” التي تصدرها منشورات الزمن في المغرب. يتساءل الدكتور رجواني: “هل خمد نسبياً جموح تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وتوضحت نسبياً مشارف امتداداتها، واستقر نسبياً إيقاع مستجداتها بما يوفر إمكانية الاستشراف ويتيح الفصل بين خطابات الدعوة والتبشير وخطابات التحذير والتهويل؟. هل حققت الدراسات بشأن أثر هذه التكنولوجيا على الاقتصاد والثقافة والسلوكات الضروري من التراكمات المنهجية والمعرفية على درس تأسيس مقاربات علمية تكبح الخطابات الإيديولوجية وتؤطر الإسقاطات الاعتباطية والتنبؤات الاستيهامية؟”. أما زال معقولا النظر إلى الإنترنت في صفة المارد الذي خرج من قمقمه ليغير كل شيء، فيلغي إكراهات الزمن والمكان، ويبعث الإنسان الرقمي الجديد في عالم شبكي دون حدود... جوهر اقتصاده المعلومات المتدفقة والذكاء المشترك، وديموقراطية تشاركية تدمج القرب والكونية على أساس التفاعلية الفورية وحراك الجماعات الافتراضية وتجاوز الهيئات الوسيطية؟”. تحرر من الرقابة يؤكد الدكتور رجواني أن الإنترنت أحدث ثورة في أشكال وأساليب الاتصال، ورسخ الأفقية واللحظية والتحرر النسبي من إكراهات الرقابة والكلفة، وأسهم في توسيع فضاءات حرية الرأي والتعبير، وتجديد آليات تشكل الرأي العام داخل فضاء عمومي مفتوح ييسر مبادرات المجتمع المدني، ووفر إمكانيات حقيقية للحد من هيمنة المؤسسات الإعلامية المسنودة إلى قوة المال وتبادل المصالح بين الأقوياء. وأصبح حاضرا بأشكال ومستويات مختلفة في الاتصال السياسي والاستقطاب الحزبي والحملات الانتخابية وتنظيم الاقتراعات.. ويرى د. الرجواني أن الاتصال عملية معقدة مثلها الإغريق في الإله “هيرمس” رسول الآلهة وإله الطرق والتجارة والمكر. إله وسيط بين البشر والآلهة. كائن ضروري، ملتبس، زئبقي ومتملص، يستحيل ضبط معالمه. توحي صورة هيرمس “بأن الاتصال يحمل، أصلا وفي ثناياه، احتمال سوء فهم. فالاتصال مبني على الاختلاف – الذات والآخر – وعلى المرسل معرفة وإدراك انتظارات الآخر لمخاطبته والتأثير فيه واستمالته، خصوصا في المجال السياسي وبمناسبة الحملة الانتخابية. الاتصال السياسي ليس محكوما فقط بمحتواه بل أيضا بالمناخ الاجتماعي الثقافي العام، وبالسياق والظرفية، وبالوسيط المستعمل والوسائل المادية والبشرية المتوفرة، وبمدة الاتصال، وبخصوصيات الفئات المستهدفة. ويمكن تعريف مجال الاتصال السياسي في مرحلة ما قبل الإنترنت كونه “الفضاء حيث يتم تبادل الخطابات المتعارضة للفاعلين الثلاثة الكبار الذين لهم شرعية التعبير العمومي بشأن السياسة، وهم السياسيون والإعلاميون والرأي العام عبر استطلاعات الرأي”. الاتصال هو أداة السياسي الناعمة للتذكير المستمر بحضوره وموقعه وسلطته، توجيهاً وتعبئة، إقناعاً أو إغراء، وعداً أو وعيداً. يسوق السياسي خطابه وصورته، ويعلن عن إنجازاته ومشاريعه وإرادته في الفعل خدمة للصالح العام. يعزز مشروعيته، ويتغيّا التحكم في إنتاج ورواج المعلومات والآراء، وشغل أوسع مساحات الانتباه الاهتمام. كذلك، يحيل الاتصال السياسي عبر عدة روابط جلية أو مضمرة على الدعاية والإشهار والتسويق، وعلى الرأي العام والمخيال الجماعي والسلطة الرمزية، وعلى تقنيات الإرسال والتلقي والتشويش، واثر البلاغة والخطابة، وذكاء الإخراج الملائم لقناة الاتصال. والخطاب السياسي، عموما، منتوج مهيكل ومفكّر في هندسته الداخلية وشكله الخارجي بعيدا عن الصدفة والتلقائية. يرسل الخطاب السياسي واضحا أو مشفرا، ملتهبا أو رصينا، محتجا معارضا أو مهادنا متوافقا، في سباقات وظروف إمكانية يُتوخى استغلالها لتحقيق أقصى التأثير في الجمهور والرأي العام، أو في الأطراف السياسية الأخرى. بينما يتميز الاتصال الانتخابي بكثافته واستعجالية غاياته، ويهدف أساسا إلى تسويق العروض الانتخابية واستمالة الهيئة الناخبة. عناصر فعالية الخطاب ترتبط فعالية الخطاب بثلاثة عناصر أساسية، المصداقية والجاذبية والسلطة. تتحدد المصداقية مبدئيا بعنصرين: الكفاءة، أي القدرة على قول الحقيقة، والصدق أي إرادة قول الحقيقة. وبالنسبة للجاذبية، فالقول بأن شخصا جذاب يعني أنه قادر على خلق وضعية انفعالية سانحة وملائمة، بغض النظر عن المسببات الموضوعية أو الذاتية لذلك. فتكون الجاذبية التي يشعر بها المتلقي تجاه المصدر من طبيعة انفعالية، ويعبر عنها برد فعل عاطفي وبحكم قيمة. ومن بين المميزات التي تحدث الجاذبية التلطف والتشابه والألفة. وتعرف السلطة كقدرة المصدر على معاقبة أو مكافأة المتلقي. والأهم في الاتصال الجماهيري أن المصداقية والجاذبية والسلطة لا تحتاج إلى أن تكون خاصيات حقيقة وقائمة للمصدر، بل يكفي أن يُسقطها المتلقي على صاحب القول ويفترضها فيه. فالمصدر ليس سوى صورة قد يسبق وجودها الخطاب، كما يحصل مثلا عندما يكون المصدر شخصية عمومية أو “نجما” جماهيريا. وقد يُسوق المرسل كل العناصر الثلاثة في نفس الرسالة، فيطري على المستهدفين ويجتهد في اختيار سياق الإرسال وفضائه حتى يبدو (المرسل) في أحسن صورة. تأصيل تاريخي بدأ الحديث عن العلاقة بين تكنولوجيا الإعلام والاتصال وبين الديموقراطية بُعَيد الحرب “العالمية الثانية واختراع الحاسوب. ويرى تييري فيديل أن هذه السيرورة يمكن أن تقسم إلى ثلاث مراحل كبرى ارتبط فيها تصور العلاقة بالسياق الاجتماعي السياسي، وبأوضاع الديموقراطية وتطور التكنولوجيا. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، تمحور الاهتمام حول مدى قدرة المعلومات على الإسهام في قيادة عقلانية للمجتمعات تتحرر نسبيا من أهواء القيادات السياسية التي قد تؤدي إلى كوارث من قبيل الحرب الكونية. إنها مرحلة الرهان على “آلة حاكمة” تستمد القرار السديد من حواسيب عملاقة تعالج مئات الآلاف من المعطيات، لتوفير إمكانية القيادة “العملية المعقلنة” للمجتمعات، و”تعويض العجز الملحوظ للأفراد والأجهزة السياسية التقليدية”. هكذا ستكون المعلومات كتقنية لمعالجة المعطيات قادرة ليس فقط على توفير أدوات مساعدة للتخطيط، بل أداة فاعلة في تحديد و “عقلنة” الاختيارات والسياسات العمومية. مما يفترض ويعني أن مراكز القرار السياسي مجرد علبة سوداء نقية من كل تجاذب أيديولوجي، ومتجردة من كل تحيز اجتماعي ثقافي، وغير ميالة لأي مشروع مجتمعي معين يعكس مرجعيتها وهويتها. ولن يكون الفعل السياسي في كنهه ومبتغاه إلا مجرد ضبط محاسباتي لميزانية الدولة، وفق اختيارات غير قابلة للنقاش مادامت مؤسسة على العلم والمعالجة الآلية للمعطيات. ولن تكون الرؤية السياسية إلا عملية “موضوعية” لاحتساب الكلفة – الامتياز، والإرادة السياسية إلا مجرد استعداد لتنفيذ التعليمات المُحوْسبة. في نهاية الستينيات، سيتم تدريجيا التخلي عن هذا المنظور بعد تعرضه للكثير من الانتقادات انطلاقا من أن السياسة، كفن لتدبير الشأن العام حاضرا ومستقبلا، وكآليات لتحقيق التوافقات الضرورية بين أفراد وجماعات وفئات تتباين مصالحهم وانتظاراتهم، تتميز بالكثير من التعقيد تعجز الخوارزميات عن نمذجته دون اختزال يلغي اللامادي، أي الثقافي والنفسي غير القابل للقياس والتعقيد الرياضي. وتميزت المرحلة اللاحقة بتحول شمل الموضوع والإطار والمقاربة. تبدأ هذه المرحلة في السبعينيات مع تطور شبكات التلفزيون بالكابل التي اعتبرها البعض وسائط محلية قابلة للتوظيف في خدمة مصلحة الجماعات، ومع انتشار الفيديو الذي خلق الأمل في دمقرطة إنتاج المعلومات السمعية البصرية وخزنها وترويجها. وتزامنت هذه المكتسبات التكنولوجية مع سياق اجتماعي ثقافي انتعش فيه الاهتمام بالمجتمع المدني والشأن المحلي وسياسة القرب، وكذلك الرهان على الاتصال الأفقي والتنظيم اللاممركز. انتشرت المعلوميات خارج الدوائر الأكاديمية المغلقة، وتزايد الإقبال على العديد من تطبيقاتها، وبرزت شعارات من قبيل “جعل تكنولوجيا الإعلام والاتصال في خدمة الشعب” حتى يتملكها المواطن في أفق “التغيير الاجتماعي في الأسفل”. وترتبط الحقبة الثالثة أيضا ببداية انتشار الإنترنت، وترسخ العولمة بما تحيل عليه من تسييد “المواطن المستهلك” وتمجيد الفردانية. وأصبح المبشرون بالديموقراطية الإلكترونية يُسوقون تصورا جديدا للسيادة والسياسة خارج الدولة – الوطن، وداخل فضاء إلكتروني افتراضي مفتوح، حيث الفرد حر بالمطلق في التعبير عن رأيه واختيار نوعية علاقاته ومدتها، دون استحضار شروط الانتماء أو الروابط الاجتماعية الموجودة في العالم الواقعي، ولا حتى انضباط لجدلية الحقوق والواجبات الفردية والجماعية. خلال هذه المرحلة برز تياران رئيسان: الأول يرى في الجماعة الافتراضية الخلية الأساسية للعهد الجديد للسياسة، حيث ستتيح تفاعلية الشبكات الإلكترونية المفتوحة للمواطنين تملك رأسمال إعلامي يخولهم إمكانات حقيقية للتنظيم والفعل والتأثير. ويغدو الفضاء العمومي الإلكتروني المجال الرئيسي لتشكل الرأي العام وممارسة السياسة، وانبعاثا للأغوار الأثينية. أما التيار الثاني المتوجسين، فينحو إلى الاعتقاد بضرورة الضبط السياسي الاجتماعي للإنترنيت وحتى إخضاعه لتدبير ممركز. على اعتبار أن المعلومة عنصر جوهري ورأسمال وازن في المجال السياسي. والتياران متفقان على الدور المتصاعد للفضاء الافتراضي كفضاء مواز، من شأنه فرض إعادة النظر في آليات وتوزيع النفوذ والسلطة واشتغال البنى السياسية والإعلامية القائمة، أو على الأقل مساءلتها والتشويش عليها... لكن الفراق بينهما يكمن في قبول العالم الافتراضي، أو عدم قبوله، كطرف إن لم يكن كبديل. والتياران متفقان أيضا على أن الإشكال لم يعد يتعلق بتعزيز إمكانيات الدولة للفعل في المجتمع والتفاعل معه، أو بإنعاش الروابط الاجتماعية بين المواطنين وتيسير انخراطهم في ممارسة الشأن العام عن قرب، بقدر ما يتعلق بتحول نوعي وعميق قد يسفر عن إعادة تأسيس السياسي والاجتماعي والثقافي بعدما أسهمت التكنولوجيات في تحقيق تراكمات ملحوظة تخص الاقتصادي والمالي”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©