الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغرب والإسلام.. اللّقاء الممكن

الغرب والإسلام.. اللّقاء الممكن
14 ديسمبر 2016 20:10
نص شارل تيلور ترجمة عزالدين عناية أستهلّ حديثي بالتطرق إلى أوضاع الديمقراطيات في الغرب، وتحديداً عن طبيعة خاصياتها، وما يمكن أن يهدّد مكتسبات تلك الديمقراطيات من تراجع. متخذاً مرجعية لحديثي، وهي ما تمّ التواضع عليه بين الدارسين في العالم الأنغلوسكسوني، بالنظرية السياسية المرجعية لجون رولز، وآخرين، ممن سلطوا اهتماماتهم على المسائل الإجرائية. إذ تستند الديمقراطيات المعاصرة، كما نعلم، إلى أسّ محوري يتمثّل في حقوق الإنسان والمساواة، أو بالأحرى نبذ الميْز، ودولة القانون، وهو ما يعني عدم وجود مواطنين من درجة أولى، وآخرين من درجة ثانية، حيث يقتضي الأمر التساوي بين الجميع، لأنه في الوقت الذي تسود فيه الديمقراطية، لا مكان في ذلك للأتوقراطية. وإحدى السمات المميزة للعيش الديمقراطي تتمثّل في مبدأ التضامن. وإذا ما جابهت أحداً مصاعب، فمن واجب الآخرين معاضدته، وهي إحدى المكتسبات الفاضلة لهذه المجتمعات. حيث يلمس الناس هذا المعنى من خلال التكاتف، حتى لا يكابد المستضعَفون العزلةَ، ويتملّكهم الإحساس بأنهم لا يمثلون طرفاً في المجتمع، وأنهم غرباء. وإذا ما أردنا الحفاظ على الديمقراطية، يقتضي الحال أن يكون هناك هدفٌ جامعٌ يسعى الجميع صوبه. وحتى من لا يحالفه الحظ في الانتخابات ينبغي أن يدرك أن الجميع «ينشغلون بالمسائل العامة ذاتها»، وألا ينزاح التفكير نحو المصالح الفئوية الخاصة، بل نحو الصالح العام. هذا النوع من الثقة ضروري للمجتمعات الديمقراطية، وهو يتطلب توضيحاً لمقدمات النقاش، ويجعلنا في حاجة إلى ما نطلق عليه الهوية السياسية، أو مقصد المجتمعات، وهو ما نتكاتف جميعاً حوله. لقد دار الحديث في المجتمعات الديمقراطية الحديثة كافة، حول ضرورة وجود أخلاق سياسية، أي مراعاة حقوق الإنسان والمساواة ونبذ التمييز، لكن ذلك لا يوفي المسألة حقها، لأن ما يربطنا ليس هذه المبادئ العامة فحسب، بل مدى تجسد تلك المبادئ في مشروع واقعي تاريخي. وحين نرى انتهاكاً لمبادئ الديمقراطية، في بلدان أخرى من العالم، يتملّكنا الأسى، ولكن حين نرى مجتمعاتنا تخون مبادئ حقوق الإنسان نشعر بالخزي الحقيقي، ونندد بقوة، ولا نقبل البتة بذلك، وهو ما يطلِق عليه الناس الحس الوطني. وضمن هذا الإطار يأتي قول يورغن هابرماس: «غدت الوطنية اليوم شأناً دستورياً. لكني أرى الأمر يقلّل من شأن الوطنية الدستورية المرتبطة بمبادئنا العامة، والحال أنها مرتبطة بمدى تحققها في مشروع تاريخي». ميثاق اللائكية خلال العام 2013، أصدرت الحكومة الكندية، وفي الكيبيك تحديداً، «ميثاق اللائكية» (Charte de la laicïté)، وهو إعلان يستهدف أتباع الأديان التي لم نتعودها تاريخياً: الإسلام، والهندوسية، والسيخية... وغيرها، الأمر الذي أثار استياءً واسعاً. وأرى الأمر بصدد التمدد إلى مجتمعات أوروبية. يتساءل الناس: هل ستغير عوائد تلك الأديان الوافدة بلدنا يوماً؟ وهل سيجعل هؤلاء الأغراب منّا أجانب في أوطاننا؟ وهي أحاسيس وتساؤلات مبررة ومفهومة. والخطر الحقيقي أن بعض الساسة يستغلون تلك المخاوف، ويلحون على أن هناك جماعات ينبغي أن تخضع للإملاءات، لأن في مخزونها الثقافي ما يهدد كياننا. أريد طرح سؤال بسيط أرى أنه من الأهمية بمكان: لماذا يشكّل الدين اليوم العنصر الأساس في ما نعدّه اليوم خاطئاً وخطيراً، وإشكالياً في ما له صلة بالمسألة؟ على مستوى أول، وإلى عقود قليلة، كان مجتمع الكيبيك يرضخ لهيمنة الكنيسة الكاثوليكية، ذات التأثير المجحف في السلطة التشريعية، وبموجب ذلك الضغط وجد كثيرون أنفسهم يأتون أشياء لا يودّونها. لذلك حدث مع ستينيات القرن الماضي ما يشبه الانتفاضة، يضاهي ما حصل في التاريخ الفرنسي، مع كنيسة مهيمنة تحدّتها الجمهورية اللائكية. وثمّن العديدُ التحررَ من الرقابة الدينية، واليوم برؤية جماعات من المهاجرين، يمارسون شعائرهم الدينية، بشكل يفوق ما نحن عليه، يشعرون بنوع من الريبة ويتساءلون: هل سيغير هؤلاء نمط عيشنا، وهل سنفقد ما كسبناه مجدداً؟ على مستوى آخر، أمام المستجدات السياسية كافة التي حصلت في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر: الأعمال الجهادية، الترعيب، العنف، انضاف سبب آخر إلى تطور هذه الريبة من الهجرة الإسلامية. فهذا التمسك بالدين شيء مفهوم، لكنه لا يستوفي الحديث أيضاً. يكفي القيام ببحث سوسيولوجي حتى ندرك أن من يناصرون «ميثاق اللائكية» يقولون إن هناك تدفقاً هائلاً للمهاجرين، وليس بوسعنا احتضانهم جميعاً، إضافة إلى أن الأشخاص الوافدين من بلدان نائية يثيرون إزعاجاً وريبة... وبالتالي هناك خوف عميق له طابع ثقافي يستند إلى جملة من الأحكام المسبقة، وهو سرعان ما ينجلي حين تتأسس معرفة إضافية بهؤلاء المهاجرين. ويحصل أن يجد الخوف مؤججاً في مقولات الاختلاف الديني، وهو ما يطرح سؤالاً آخر: لماذا يغدو الدين الميزة الخاصة لكلّ هذا؟ أودّ الآن زعزعة بعض الثوابت. وأعتقد أن التداخل في النظر ناتج عن فهمنا الفيبري للمجتمع، بوصفه يتشكل من جملة من المجالات: المجال السياسي، والمجال الديني، والمجال الفني، والمجال الاقتصادي... وجراء هذا الفهم للمجالات نرى أن كل ما يحدث يعود بالنظر إلى تلك التقسيمات. وبالطبع، فكرة الفصل بين ما هو سياسي وما هو ديني، تتأسس على القول باختلاف جذري بين المجالين. لكن المسألة، في الواقع، وضمن شروط الحياة الإنسانية لا يمكن أن تخضع إلى هذا الفصل الصارم. وبالنظر إلى المجتمعات القديمة، المجتمع الروماني على سبيل المثال، نرى أن تقسيماتنا غير لائقة: فقد كان القيصر هو القائد الأعلى، وبمثابة بابا أيضاً، بل وفي المجتمعات الراهنة أيضاً نجد أن الكثير من السلوكات لا يمكن توزيعها وفق ذلك النمط، وعلى تلك الشاكلة. لنتابع بعض السلوكات التي تُعدّ غير مقبولة من قِبل كثيرين: عملية ختان النساء وقضايا الشرف. وكغربيين نمقت تلك الأفعال، فهي لا تتلاءم مع مجتمعاتنا، ونعتبرها ممارسات متأتية من بعض الأديان، وعادة ما يقع، ضمن هذا السياق، اتهام الإسلام. ولكن في الواقع، إن هذه السلوكات ليس ثمة ما يربطها بالإسلام، وأي إمام أو دارس من جامعة الأزهر، لو سألناه، إن كانت تلك الممارسات إسلامية، فسيأتي جوابه بالنفي. علاوة على أن هذه الممارسات نجدها في مجتمعات غير إسلامية. وجرائم الشرف لا تخلو منها المجتمعات المسيحية المشرقية أيضاً. وإذا ما ألحقنا هذه الممارسات بالدين، فذلك اختيارنا، ونحن مسؤولون عنه، وفي الحقيقة هو اختيار خاطئ ومضلّل. الإقرار بالتنوع هناك العديد من العوامل التي تدفع نحو إلحاق تلك الممارسات بالدين، وهي متأتية من رؤية خاطئة، لأن ثمة مسائل متعلقة بالدين لم ندركها. نرى ذلك باستمرار في النقاشات الدائرة في الكيبيك، وغيرها من البلدان التي تستهدف الإسلام رأساً. يردد الناس: الإسلام هكذا، لأن أتباعه يتخذون القرآن مرجعاً في الدفاع عن أي سلوك، إنه دين يفسر لك كل ما ينبغي فعله، إنه تشريع جامد منذ القرن السابع. يتعلق الأمر بالنظر إلى الإسلام كمعطى مفارق، ومن هذا المنظور تُحشر النساء اللواتي يلبسن الحجاب ضمن تلك المنظومة المتكاملة التي يمقتها الغرب (جرائم الشرف وتعدد الزوجات)، وهو ما يُحدِث نوعاً من الضيق لدى الغربي: يقتضي الأمر تجنب هذا الحكم والإلحاح في غير هذا الاتجاه... ذلك أن رؤية «الكتل الصماء الموحدة» هو تفكير شائع، وهو متأتٍّ من نظرة تبسيطية للمجالات الدينية والسياسية والثقافية، وبالمحصلة نصل إلى رؤية قاصرة عن الدين في مجتمعاتنا. في حين أن تعاملنا مع الإسلام ينبغي الإقرار فيه بالتنوع على مستوى الزمان والمكان. ففي هذا الدين أشكال عدة من الروحانيات لا تمتّ بصلة إلى مفاهيم الأصوليين التي نراها اليوم. ومن البيّن أن المنطقة التي نطلق عليها اليوم بلاد الشرق، والتي يتأتى منها جمع من أنصار طالبان، وتولّد جملة من المشاكل السياسية والأمنية، كانت في ما مضى محلّاً لحركة صوفية ترى في الجهاد جهاداً للنفس، وكانت على صلة وثيقة بالمهاتما غاندي، إبان فترة الهند البريطانية، من خلال النضال معاً، ضمن حركة اللاعنف، لنيل الاستقلال، وما كانت تميل إلى تقسيم الهند، لكن في الأخير وجدت نفسها مجبرة على قبول ذلك، ضمن ما يُعرف بباكستان اليوم. نجد الأمر ذاته فيما نطلق عليه اليوم الأصولية، وهي في الحقيقة ردود فعل قلقة أمام الحداثة. إذ يرى أنصار هذا التوجه، أمام حالة التشرذم والانهيار، ضرورة العودة إلى الأصول الجوهرية، وإلى التعاليم الدينية، وأن يُعضَّ عليها بالنواجذ. ويحاولون، بشيء من الإصرار، العودة إلى تلك الأصول، في وقت هم فيه نتاج عوامل حديثة. وجلي في هذا السياق حالة البروتستانتيات الأمريكية المحافظة، التي تستند إلى الكتاب المقدس، وتتخذ موقفاً صارماً من التأويلات الليبرالية. فمقولات الكتاب المقدس وتعاليمه، بالنسبة إلى تلك الأصولية، هي بمثابة العلم الثابت. هذا النوع من الفهم يرنو إلى العودة إلى الماضي، وإن كان يتحرك في الراهن ويتعرض إلى ضغوطات الحداثة، وهو يهز بعمق حاضرنا، ولكن بشكل سلبي. وضمن السياقات الإسلامية يحدث الأمر ذاته، ثمة نوع من قصر النظر يستهدف الممارسات الصوفية والتقاليد الروحية، وهو في الحقيقة تضييق يناقض رحابة الإيمان. لكن الصواب يملي أن نحالف تلك النظرة الروحية المسالمة. فعبر التاريخ ظهرت العديد من الحركات المغالية، سواء في المسيحية وفي الإسلام، حاولت فعل ما يشبه ذلك. فقد هاجمت الأصولية المسيحية طقوس القديسين وتقاليد الأيقونات في الكنائس، والتقليد الأصولي الإسلامي يفعل ما يشبه ذلك بمهاجمة مراقد الأولياء وأشكال الفنون، وهذا النوع من التضييق نجده ناشطاً حتى عصرنا الراهن. مع ذلك هناك إسلام صوفي يقاوم في إندونيسيا، وأفريقيا، والمشرق، ونحن كغربيين ينبغي أن نتكاتف مع هذا الإسلام، باعتباره يناهض من يريد استعمال الدين ضدنا، وينبغي ألا نمزجه بالأصولية. في أعقاب أحداث يناير 2015 في «شارلي إبدو»، وكذلك بعد أحداث 13 نوفمبر في باتكلان من العام نفسه، راجت في فرنسا مقولة «لا ينبغي الخلط، لا ينبغي التعميم». وما يلح عليه هؤلاء هو تفادي مزج الورع الإسلامي الحقيقي بمظاهر التشدد. لكن للأسف ما يحدث في المجتمعات الغربية عادة هو نوع من الخلط المقصود. فالناس غالباً ما تختلط عليهم الثنايا. في وقت نلحظ فيه ورعاً يقبل بصدق عالمنا المدني وديمقراطيتنا، وهؤلاء من دافعوا عن «ميثاق اللائكية»، ومن ضمنهم نساء يرتدين الحجاب. فمن الهين أن يوالي شبانٌ التياراتَ الجهادية، فهم عادة أناس يشكون عزلة وعسر اندماج، ويلقون رهقاً داخل المجتمع، وبالتالي هم يعانون أزمة هوية حادة، يُخيَّل إليهم أن الخروج من تلك الأزمة يكون بالاهتداء إلى الأيديولوجيات العنيفة، لأن ذلك يبدو بالنسبة إليهم حلّاً يكافئ من سبّب تلك الأزمة، أي الحضارة الغربية التي تنظر إلى الإسلام باستعلاء. وفي الحالة القريبة منا في كندا، جاء مقتل الجندي الكندي من قِبل جهادي كندي سنة 2014 حصيلة انجذاب للأيديولوجيا الجهادية، وليس لأن الجهادي كان يقرأ القرآن. فالأيديولوجيا الجهادية لديه تمثّل النفي العنيف للعالم الذي تربى فيه. وبالتالي يتعلق الأمر بشبان شديدي الاضطراب، وهكذا نجد أنفسنا أمام خلط مزدوج يتجلى في نقاشاتنا المتوترة التي تلح على أن الإسلام وحدة جامدة، والمرأة المحجبة لها مسار الجهادي نفسه. تدفعنا هذه الأمور بحزم إلى ضرورة التمييز، ومحاولة تفادي الخلط الناتج عن التبسيط في حال الإسلام. ومن اليسير أن من يستوحي آراءه من التلفزيون، دون معرفة مباشرة بالمسلمين، أن يقع رهن ذلك الخطاب الغوغائي. ولذلك علينا أن نقاوم ذلك المسار في مجتمعاتنا الغربية حتى نشق طريقاً، مغايراً ونصحّح وعينا. الإسلام بريء لنتابع بعض السلوكات التي تُعدّ غير مقبولة من قِبل كثيرين: عملية ختان النساء وقضايا الشرف. وكغربيين نمقت تلك الأفعال، فهي لا تتلاءم مع مجتمعاتنا، ونعتبرها ممارسات متأتية من بعض الأديان، وعادة ما يقع، ضمن هذا السياق، اتهام الإسلام. ولكن في الواقع، أن هذه السلوكات ليس ثمة ما يربطها بالإسلام، وأي إمام أو دارس من جامعة الأزهر، لو سألناه، إن كانت تلك الممارسات إسلامية، فسيأتي جوابه بالنفي. علاوة على أن هذه الممارسات نجدها في مجتمعات غير إسلامية. وجرائم الشرف لا تخلو منها المجتمعات المسيحية المشرقية أيضاً. وإذا ما ألحقنا هذه الممارسات بالدين، فذلك اختيارنا، ونحن مسؤولون عنه، وفي الحقيقة هو اختيار خطأ ومضلّل. تشابه الأصوليات ضمن السياقات الإسلامية يحدث الأمر ذاته، ثمة نوع من قصر النظر يستهدف الممارسات الصوفية والتقاليد الروحية، وهو في الحقيقة تضييق يناقض رحابة الإيمان، لكن الصواب يملي أن نحالف تلك النظرة الروحية المسالمة، فعبر التاريخ ظهرت العديد من الحركات المغالية، سواء في المسيحية أو في الإسلام، حاولت فعل ما يشبه ذلك، فقد هاجمت الأصولية المسيحية طقوس القديسين وتقاليد الأيقونات في الكنائس، والتقليد الأصولي الإسلامي يفعل ما يشبه ذلك بمهاجمة مراقد الأولياء وأشكال الفنون، وهذا النوع من التضييق نجده ناشطاً حتى عصرنا الراهن. مع ذلك هناك إسلام صوفي يقاوم في إندونيسيا، وأفريقيا، والمشرق، ونحن كغربيين ينبغي أن نتكاتف مع هذا الإسلام، باعتباره يناهض من يريد استعمال الدين ضدنا، وينبغي ألا نمزجه بالأصولية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©