الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غابة على برج إيفل

غابة على برج إيفل
14 ديسمبر 2016 20:22
د. حورية الظل غزت التكنولوجيا الفن التشكيلي وأصبح لها تأثيرها الأكيد على تجربة الكثير من الفنانين، لأنها وضعت رهن إشارتهم إمكانيات لم تكن متاحة لهم من قبل فمكنتهم من ترجمة تخيلاتهم إلى إنجازات رقمية، وعوالم افتراضية تتشكل من موجات الضوء وتدفقات الطلاء الافتراضي، فانتفى الجانب المحسوس عن هذه الأعمال لتقتصر على ما هو بصري، ويمكننا اعتبار الفنانة التونسية البلجيكية التي تقيم في باريس «نزيهة مستاوي» من هؤلاء، ولضيق المجال لن نتناول سوى عملها الأخير الذي اختارته بقصديّة متقنة لتستطيع من خلاله تمرير رسالتها البيئية، وهو عبارة عن غابة افتراضية ضاجة بالخضرة عرضتها على برج إيفل، وعلى بعض المعالم الأثرية الأخرى في باريس،  بالتزامن مع انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتغيرات المناخية كوب 21 في فرنسا، وعنوان عملها الوفيّ للطبيعة (قلب واحد شجرة واحدة)، وهو يشي بامتدادات له على أرض الواقع، فما طبيعة هذا العمل؟ وما الهدف منه؟ وكيف يمكن للفن الرقمي أن يؤثر إيجاباً على وجه المستقبل؟ المشروع الفني الذي أطلقته نزيهة مستاوي (وان هارت وان تري) أو (قلب واحد.. شجرة واحدة) بهدف جعل الحياة أكثر اخضراراً، يُنسب لجيل جديد من الأعمال الفنية المنتمية للفن الرقمي الذي نحت لنفسه آليات اشتغال خاصة به، مستفيداً من التطور التكنولوجي، حيث فرض طرقاً جديدة للتعبير تمثلت في العوالم الافتراضية، مستجيباً بذلك للتغيرات التي يعرفها العالم، وليست «مستاوي» وحدها من تصب الألوان الافتراضية من أجل إعادة تشكيل العالم، وإنما هناك فنانون آخرون تخصصوا أيضاً في هذا النوع من الفن، ومن هؤلاء الفنان الفرنسي ذو الأصول المكسيكية «ميغيل شوفالييه»، ويلتقي مع نزيهة مستاوي في افتتانه بالطبيعة لكن من منظور مغاير تمثل في إنجازه لأعمال افتراضية تمثل نمو النبات وتكاثره وتطوره وتكراره في دورة الخلق التي لا تتوقف من خلال مشروع سماه «كسورية الزهور»، ويتم عرض مثل هذه الأعمال الافتراضية في الأفضية المفتوحة لتمكين الجماهير العريضة من تلقيها. يومها، بدا تحويل نزيهة مستاوي لبرج إيفل إلى غابة افتراضية احتفالياً ومحملاً بجمالية أكيدة، وجالباً للفرح والبهجة، لكن عملها هذا لم يقتصر على الإمتاع البصري فقط، وإنما كانت له غايات أخرى، خاصة وأنها أنجزته في لحظة هلع على مصير البيئة، فإلى جانب ما هو جمالي سمح عملها باقتراح معالم المستقبل، فصاغت من خلاله الطبيعة التي تُحْدق بها المخاطر بطريقة جمالية تفشي بما سيكون، وليس بما هو كائن، وكذلك تأكيداً على جدوى الفن الافتراضي في حل مشاكل شتى. ضد التدمير الممنهج وإذا كان الإنسان يُخضع الطبيعة لجنون التدمير المُمنهج، فإن نزيهة مستاوي التي خضعت لغواية الفن تعرف مفاتيح إيقاف ذلك، فهي تحاول دفع المتلقي لعملها الفني إلى إعادة النظر في ممارساته العنيفة تجاه محيطه البيئي، من خلال إعادة صوغ علاقته بالطبيعة التي لا يحمل لها أي ود رغم أفضالها عليه، وحتى يكون لعملها نتائج ملموسة، اتخذته معْبَراً لأرض الواقع، حيث هناك يبدأ العمل الحقيقي، فتخطت الحدود الضيقة التي تحيط عادة بالأعمال الفنية، ونسجت لعملها مساحة أوسع يتحرك ضمنها، مكنتها منها التكنولوجيا، ليتحقق من خلاله تواصل سلس بين الإنسان والطبيعة افتراضياً ليفضي إلى تواصل حقيقي يتمثل في تحفيز أكبر عدد من الأشخاص عبر العالم لوضع شتلة في رحم الأرض، ليعود للغابات ازدهارها. وتشرح الفنانة ماهية عملها بقولها: «عملي الفني رقمي حيث تمت تغطية برج إيفل بفضل تقنيات خرائط الفيديو مع 21 كشاف فيديو، كلها متناغمة ومرسومة وموصولة بقاعدة معطيات يغذيها التطبيق الذي يمكن تنزيله، حيث نجد الشجرة ذاتها على هاتف المشارك وعلى برج إيفل، وهذا يؤكد بأنه ما من حدود في التكنولوجيا». ونتيجة مرونة هذه التكنولوجيا ولامحدوديتها فإن عمل نزيهة مستاوي يفسح المجال لكل شخص ليتمكن من المشاركة في عملها الفني، وتخطي الاقتصار على التلقي البصري، ويتم ذلك من خلال تنزيل تطبيق (ق لب واحد شجرة واحدة) في الهواتف الذكية مجاناً، ويسمح هذا التطبيق بزرع نبتة افتراضية لتنمو على برج إيفل، ولتوسيع قاعدة المشاركين شرحت نزيهة مستاوي طريقة استعمال التطبيق في مقابلة تلفزيونية بقولها: « يضغط المشارك على القلب المرسوم على التطبيق ويسترجع دقات قلبه التي تخترق الشاشة، ثم يزرع شجرة افتراضية ويضيف إليها رسالة إيجابية أو يضيف اسمه، ويحصل على موعد مع برج إيفل ليتابع مباشرة شجرته التي زرعها افتراضياً وهي تنمو على البرج بحسب وتيرة دقات قلبه، مضافاً إليها رسالته أو اسمه، وكل الأشجار الافتراضية التي يزرعها المشاركون وتنمو على البرج ستزرع في الواقع في إطار برنامج لإعادة التشجير والذي سأتابعه لمدة ثلاث سنوات». استلهمت نزيهة مستاوي عملها الفني من الهنود لما ذهبت إلى الأمازون لإجراء بحث ميداني مع قبائل «الهاشينكا» و»الهوني كوين» فلمست القدر الوفير من الاحترام الذي يكنه هؤلاء القوم للأشجار، حيث يعتبرونها كائناً حياً يمكن التواصل معه، وليس فقط قطعاً من الخشب، الأمر الذي تنتج عنه صلة روحية غير محسوسة بين الطرفين، وهم يمتلكون علماً عفوياً عن الطبيعة يجعلهم امتداداً لها، وذلك مكنهم من حمايتها طيلة خمسة قرون، مدة استيطانهم لتلك الأرض، وخصوصية علاقة الهنود بالطبيعة هو ما سطرته الفنانة كهدف لعملها الفني الذي قرنت فيه الطبيعة بالتكنولوجيا، وهذه الأخيرة تفصح عن حملها لنتائج إيجابية للمستقبل البشري، وهي حسب مستاوي: «الوسيلة التي تمكننا من الاتصال ببعضنا البعض وبالغير وبالطبيعة لنرى العالم بصورة مختلفة وبالنتيجة تسمح بتطوير مجتمعاتنا». لكن المميز في الأمر أنه رغم اعتماد الفنانة في عملها الرقمي على التكنولوجيا، فإن ذلك لم يكن حاجزاً يمنع تحميله بشحنة روحية أكدت براعتها، وتمثلت في دقات قلب المشترك وإضافة اسمه، ورؤية نبتة صغيرة تنمو وتزدهر أمام عينيه على أشهر معالم باريس، فلا بد أنها أمور استرعت تعاطفه، وأخرجت مشاعره عن التيبس تجاه الأشجار، وجعلته يلين ويكشف عن تعاطفه مع الطبيعة ليتجه بعدها إلى الإسهام في تمويل المشروع لغرس غابات حقيقية. إنقاذ المستقبل إن نظرة أرهف تؤكد بأن ما يراهن عليه العمل الفني (قلب واحد شجرة واحدة) هو المساهمة في إنقاذ مستقبل الطبيعة المثخنة بالأعطاب، وذلك من خلال نشر الوعي بضرورة الانخراط في مشاريع حقيقية للتشجير، والتوقف عن قطع الأشجار الذي يصل إلى ما يعادل مساحة ملعب كرة قدم كل ثلاث ثوان عبر العالم، وهو معدل يصيب بالدوار، وبما أن الطبيعة هي المستقبل المتشارك بين البشر، فيتوجب الحفاظ عليها من خلال خلق حلول جماعية، ولهذا فإن مشروع التشجير لمستاوي سيشمل كل من أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وبالخصوص المناطق التي دُمرت غاباتها، وإعادة التوازن البيئي لسابق عهده ولو نسبياً، وضمّنت الفنانة عملها دعوة مفتوحة للجميع للمساهمة في إنقاذ الطبيعة وتحمل المسؤولية تجاهها. وهو أيضاً مشروع يرسخ السلم، ويقاوم الإرهاب، فهو كما تقول: «طريقة لمقاومة المد الإرهابي، فكل فرد يمكنه التحرك ويُظهر مساهمته الإيجابية على هذا الكوكب ليؤكد بأننا أكثر عدداً من الإرهابيين، ولدينا قيم أخرى يجب علينا إخراجها للنور». وبما أن الكوكب موطن لسبعة ملايين من البشر فإنه يجب التغلب على كل المشاكل التي تهدد الطبيعة التي تعاني من هموم شتى، وإلا سيكون من في الأرض ذاهب مباشرة إلى الهلاك لأن الطبيعة والإنسان متلازمين، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وأعطاب الأولى تظهر نتائجها على الثاني، وهنا يبدأ دور الفن الرقمي، والذي يمكن الفنان من إطلاق العنان لخياله، والبحث عن حلول للمعضلات البيئية وغيرها من المشاكل التي يتخبط فيها العالم. ومن إيجابيات الفن الرقمي أيضا أنه يمكّن من التواصل على نطاق واسع بين البشر كما يمكّن من خلق مصير مشترك، خاصة وأن العالم أصبح محدوداً والتكنولوجيا أصبحت المساعد على خلق مساحات جديدة من اقتراح الإنسان وإبداعه وإسهامه في خلق غد أفضل. وستسعى نزيهة مستاوي إلى تطبيق عملها الفني في جميع أنحاء العالم وعلى المعالم الأكثر شهرة لتوسيع نطاق الوعي بالتزام المواطنين في علاقتهم بالطبيعة. كما أنه عمل يحمل الأمل ويحفز على خلق مبادرات فنية جديدة على شاكلته، ولِم لا يكون بعضها عبارة عن أعمال فنية تكرس الحب والتسامح بين البشر وتدعو لمسح الكراهية والإرهاب والأفكار المظلمة عن وجه الأرض، إن كل شيء ممكن، ولا يسعنا إلا أن نحلم منتظرين من فنانينا شحذ مخيلتهم مستعينين بالإمكانيات التي تتيحها لهم التكنولوجيا للإسهام في تحقيق ما نصبو له وصدق كارل ساندبرج لما قال «كل شيء يبدأ بحلم». في لحظة هلَع بدا تحويل نزيهة مستاوي لبرج إيفل إلى غابة افتراضية احتفالياً ومحملاً بجمالية أكيدة، وجالباً للفرح والبهجة، لكن عملها هذا لم يقتصر على الإمتاع البصري فقط، وإنما كانت له غايات أخرى، وبخاصة أنها أنجزته في لحظة هلع على مصير البيئة، فإلى جانب ما هو جمالي سمح عملها باقتراح معالم المستقبل، فصاغت من خلاله الطبيعة التي تُحْدق بها المخاطر بطريقة جمالية تفشي ما سيكون، وليس بما هو كائن، وكذلك تأكيداً على جدوى الفن الافتراضي في حل مشاكل شتى. فنون الأفضية المفتوحة ليست «مستاوي» وحدها من تصب الألوان الافتراضية من أجل إعادة تشكيل العالم، وإنما هناك فنانون آخرون تخصصوا أيضاً في هذا النوع من الفن، ومن هؤلاء الفنان الفرنسي ذو الأصول المكسيكية «ميغيل شوفالييه»، ويلتقي مع نزيهة مستاوي في افتتانه بالطبيعة لكن من منظور مغاير تمثل في إنجازه لأعمال افتراضية تمثل نمو النبات وتكاثره وتطوره وتكراره في دورة الخلق التي لا تتوقف من خلال مشروع سماه «كسورية الزهور»، ويتم عرض مثل هذه الأعمال الافتراضية في الأفضية المفتوحة لتمكين الجماهير العريضة من تلقيها. أصل الاحترام.. هندي استلهمت نزيهة مستاوي عملها الفني من الهنود لما ذهبت إلى الأمازون لإجراء بحث ميداني مع قبائل «الهاشينكا» و«الهوني كوين» فلمست القدر الوفير من الاحترام الذي يكنه هؤلاء القوم للأشجار، حيث يعتبرونها كائناً حياً يمكن التواصل معه، وليس فقط قطعاً من الخشب، الأمر الذي تنتج عنه صلة روحية غير محسوسة بين الطرفين، وهم يمتلكون علماً عفوياً عن الطبيعة يجعلهم امتداداً لها، وذلك مكنهم من حمايتها طوال خمسة قرون، مدة استيطانهم لتلك الأرض، وخصوصية علاقة الهنود بالطبيعة هو ما سطرته الفنانة كهدف لعملها الفني الذي قرنت فيه الطبيعة بالتكنولوجيا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©