الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«بيكومات»

«بيكومات»
5 يوليو 2013 19:27
كان ملعبنا الترابي في أيام «الفريج» يقع على مفترق طرق، وكان بعض السائقين يحاول اختصار الطريق بالمرور وسط الملعب قاطعاً اللعب علينا، وفي كثير من الأحيان كانت السيارة التي تمر تتلقى ركلة قوية بالكرة، خصوصاً إذا كان السائق مسكيناً أو كانت السيارة بائسة. وفي مرة من المرات مرّت في وسط الملعب سيارة تعود لأحد المخابز التي كانت موجودة آنذاك، فزعق أحد الأولاد بسائقها وهو يقول بصوت عالٍ: «بيكومات»، وكان هذا اسم المخبز المنقوش بخط عريض على السيارة، فالتقط أحد الأولاد ذلك الاسم، ولم يكن قد انتبه لوجوده على السيارة، ولم يكن يعلم بوجود مخبز بذلك الاسم، وأكد للجميع بأن «بيكو» فعلاً مات. وبسرعة، بدأنا في عملية تمثيل جماعي ورحنا نسأله عن المدعو «بيكو»، وعن ملابسات وفاته، فقال على ما أذكر إن «بيكو» لاعب أرجنتيني معروف، وهو لا يمت بصلة قرابة باللاعب البرازيلي «زيكو»، وأن عصابة «القط الأسود» اختطفته وطالبت بفدية من أهله لإطلاق سراحه، لكن أهله رفضوا ذلك، فوجدوه في اليوم التالي جثة هامدة في الأرجنتين. ولأن مساحة الأرجنتين تبلغ أكثر من مليوني كيلومتر مربع، ولا يمكن أن تلقى جثة على كل تلك المساحة، وإنما في بقعة محددة منها، فسألناه عن مكان إلقاء الجثة بالضبط، وكنا في الحقيقة نختبر معرفته باسم عاصمة الأرجنتين أو اسم أي مدينة فيها ما دام هو يعرف «بيكو» ويعرف «القط الأسود»، فغضب منا وقال إننا أغبياء. بمرور السنوات، وبتكرر قصص من نوعية «بيكومات»، أصبح ذلك الولد يحمل لقب «أبو العرّيف»، فهو يعرف ما لا يُعرف، أي الأشياء التي لم تحدث أصلاً ليعرفها أو يجهلها الناس. صحيح أننا جميعاً نعتقد في قرارة أنفسنا بأننا لا نقل ذكاء عن آينشتاين، ولا سعة معرفة أقل من دافينشي، لكننا لا نخترع أشياء غير موجودة، ثم ندعي أننا نعرفها. والمهم أن «أبو العرّيف» اختار تخصصاً جامعياً يستطيع من خلاله ممارسة هوايته بسهولة على أشخاص أغبياء مثلنا، وأعني الهندسة الإلكترونية، فنحن بشكل عام لم نكن نعرف شيئاً في هذا العلم آنذاك، وأنا شخصياً لم أكن أعلم بوجود هذا التخصص إلا حين أخبرنا هو أنه تخصص فيه، ولم أصدقه في الوهلة الأولى، وقلت في نفسي: ههه، يبدو أنه بيكومات من نوع جديد، هندسة إلكترونية، كيف سيبني العمارات والأبراج؟! لكن يبدو أن التخصص كان حقيقياً، وأصبح «أبو العرّيف» مهندساً إلكترونياً يعمل في شركة مرموقة. ولأننا كنا في بدايات مرحلة الإنترنت، ولا يمكن أن يجلس المهندس «أبو العرّيف» مكتوف اليدين بينما آلاف المواقع الإلكترونية تظهر في كل مكان، فقد أنشأ موقعاً إلكترونياً يخصه ودعانا لزيارته. دخلت موقعه الإلكتروني ورحت أتجول بين صفحاته وأنا أتذكر الحكمة التي تقول: «من يضحك أخيراً يضحك كثيراً»، فهاهو الرجل الذي ضحكنا منه صغيراً، يضحك علينا كبيراً، وكثيراً، فبينما نحن بالكاد نعرف كيفية الدخول إلى الإنترنت، استطاع المهندس «أبو العرّيف» أن ينشأ موقعاً إلكترونياً في هذا الفضاء المجهول، يضع فيه بعض الأغنيات المفضّلة لديه، وصوراً شخصية، بل خصص خانة لإبداء الملاحظات على موقعه. ويعلم الله أنني حين وضعت يدي على لوحة المفاتيح لكتابة ملاحظات للمهندس «أبو العرّيف» لم أكن أقصد إلا ملاطفته، خصوصاً بعد أن تأكد لي أنه فعلاً يعرف أشياء كثيرة في العالم، إن لم تكن كل الأشياء، وأن معرفة هكذا أشخاص قيمة مضافة لأي كائن بشري، يكفي يا رجل أن من نطلق عليه لقب «أبو العرّيف» أنشأ موقعاً إلكترونياً بينما شخص مثلي، يزعم أنه ذكي، تعامل بمنتهى الغباء قبل سنوات قليلة حين وصله الكمبيوتر الأول في حياته. فأذكر أنني وضعت الجهاز على طاولتي وبقيت لدقائق منبهراً بالشاشة وبالأشياء التي ظهرت فيها، وقررت كتابة مقال أصف فيه مشاعري بدخول الحضارة، وجلست أنقر على جميع الفصوص أحاول كتابة أي شيء، لكن بلا جدوى، إلى أن اتصلت بأحد الخبراء وقال إنه لا يمكن الكتابة من دون برنامج «ويندوز». المهم أنني انتحلت صفة مهندس إلكتروني، ورحت أكتب كلاماً في خانة الملاحظات في موقع ذلك الصديق المهندس، وأنا أضحك على نفسي لدرجة أنني كنت أذرف الدموع على حماقة ما أكتبه، فقد كتبت بالحرف الواحد: الصفحات غير منضبطة إلكترونياً، فالرقائق الممغنطة غير كافية، وهو ما يشكل عبئاً على سعة ذاكرة الموقع من حيث تكوينها المحدود لا من حيث قابليتها لاستيعاب المزيد من الومضات الإلكترونية، وهذا يؤدي إلى بطء إرسال الإشارات الكهرومغناطيسة، بمعنى أن المتتبع لسير هذه الموجات الهائلة والتي تقدر بملايين الواطات يجدها لا تسير وفق المنظومة البرمجية، مما يسبب تباعداً في الشرائح، وهو ما أعلن عنه أخيراً مركز الأبحاث في جامعة ديزامبر الأميركية. وبعد أيام كان لنا لقاء مع المهندس الإلكتروني، وكنت وبقية الشباب قد تحدثنا قبل اللقاء هاتفياً وأتينا على ذكر موقع صاحبنا الإلكتروني، فأخبرتهم بما فعلته، واقترح أحدهم بأن نمثل كالعادة دور المستفسرين عن حقيقة تلك «المعلومات» التي دوّنها مهندس إلكتروني في موقعه، وهل هي واقعية؟ وهل هي في محلها؟ وهل سيأخذ بها لتطوير موقعه أم سيلقي بها عرض الجدار؟ بعد تناول الدفعة الأولى من المشروبات الساخنة، بدأ «أبو العرّيف» في الحديث عن موقعه الإلكتروني، وبدى مستمتعاً ونحن نشيد بما أنجزه، وسأله أحدنا وهو يتظاهر بالغباء عن الملاحظات التي كتبها مهندس إلكتروني في صفحة الزوّار، فقال وهو ينفض سيجارته في المنفضة: يبدو أنه أبهركم بكلامه، لكنه في الحقيقة لم يأتِ بشيء جديد، فهذه المعلومات بديهية يعرفها أي خرّيج هندسة إلكترونية. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©