الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأرمل اليتيم

الأرمل اليتيم
7 يوليو 2011 21:23
عندما توفى أبي كنت في الخامسة عشرة من عمري ولم أكمل المرحلة الإعدادية بعد، فكان رحيله بمثابة ضربة قوية لي وفوق احتمالي وأنا ضعيف، لأنني تحملت مسؤولية الأسرة كلها فأنا أكبر الأولاد والأوسط في ترتيب الأبناء السبعة، ولم يكن أمامي اختيار سوى أن أترك الدراسة رغم أنفي، وإلا سيضيع كل هؤلاء في الدنيا وقد يتشردون وتكون العواقب وخيمة، فهي تضحية مثل الهبوط الاضطراري الذي يلجأ إليه الطيَّار عندما لا يكون أمامه مفر منه إلا الموت المحقق، شعرت بأنني في الدنيا الآن بلا سند فقد فقدت الظهر الذي كنت أستند إليه، علمت كم كان الأب يتحمل من أجلنا من دون أن نشعر أو يذكر لنا جهوده التي كنا نراها عادية ونمر عليها مرور الكرام، فكل ابن يرى أباه فوق كل مشكلة وأكبر من أي أزمة. قالوا إنني رجل البيت وهكذا عاملني الجميع بعد أن حللت بدلاً من أبي في كل شيء بداية من تحمل نفقات الأسرة وصولاً إلى المجاملات وواجب العزاء، وقد تكون المسؤوليات الكبيرة الثقيلة غطت على الإحساس باليتم وفقد الأب فالحزن في القلب ولا وقت للدموع، ولا مجال إلا للعمل المستمر في قطعة الأرض الصغيرة التي تركها لنا أبي، أتوجه إليها في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر وربما لا أعود إلا بعد المغرب، يعاونني إخوتي وأخواتي وقد تعاهدنا بلا كلام على أن نكون مثلاً لمن حولنا وألا نجعل أمنا تتحمل المسؤولية في ذلك، ويكفيها أن تدير شؤون الأسرة وهي معززة مكرمة في بيتها كما كانت في حياة أبي الذي كان يرفض أن تذهب إلى الزراعة ويراه عيبا في حقه، وكذلك فعلت أنا مع أخواتي الإناث فقد منعتهن من معاونتي بمجرد أن صرن صبايا. لم تكن الزراعة وحدها كافية لتلبية الاحتياجات التي تتزايد وتتضاعف مع تقدم إخوتي في الدراسة، ومع كبر ومتطلبات زواج ثلاث فتيات كن أكبر مني، فلجأت إلى التجارة إلى جانب عملي رغم عدم خبرتي، لذلك بدأت بتجارة الغلال والحبوب والثمار والخضراوات بشكل محدود حتى لا أقع في ورطة، ولم يسلم الأمر من بعض الخسائر أحياناً لسبب أو لآخر، لكن في النهاية كانت الأمور في مجملها تمر بسلام وأجد عائداً معقولاً، وقد اعتدت على ظروف التجارة من أسفار هنا وهناك بين البلاد، وكان من فوائدها إلى جانب الربح أنني أصبحت لي شبكة علاقات واسعة أعتبرها إضافة عظيمة إلى رأسمالي. الحقيقة أن أمي هي التي كانت تتولى إدارة وترتيب حياتنا كلها صغيرها وكبيرها وتتخذ القرارات بعد موافقتنا وإن كان رأيها في معظم الأحيان هو الصواب، واستطاعت أن تملأ الفراغ الذي تركه أبونا بعد رحيله وهذا كان له الأثر الكبير في تخفيف المسؤولية عن كاهلي لأنها تعرف كيف تتصرف وتجعل إخوتي يشاركون في تلك المهام ولا أدري من أين اكتسبت تلك المهارات، وتمكنت أن تصل بسفينتنا إلى بر الأمان حيث تزوجنا جميعاً واستقل كل واحد منا ببيته وأسرته الصغيرة، نقيم في مساكن متجاورة متلاصقة لا تفصلها أي مسافات، ونتجمع في مكانها الذي يقع في الوسط، وما زالت تقوم بدورها معنا. كنت في الخامسة والعشرين تقريباً عندما رحلت أمي عن الدنيا أي بعد أبي بحوالي عشر سنوات تقريباً، وقد كنت أعتقد أن اليتم لا يشعر به إلا الصغار فقط أو مكسوري الجناح أو الفقراء، وأن مرارته تكون عند فقد الأب، لكن اعتقادي كان خاطئاً جملة وتفصيلاً لأنني الآن أشعر بأن مرارة موت الأم أضعاف ما ذقته عند وفاة أبي الذي كان كل شيء في حياتي ومثلي الأعلى والنموذج الوحيد الذي كنت أتمنى أن أكون مثله ولا أرضى عنه بديلاً ولا أقدم عليه أحداً في هذه الدنيا، حتى أنني عندما كنت أرى في أحلامي أنه توفى كنت أستيقظ من نومي مختنقاً من البكاء وأظل أعاني الاكتئاب ربما لعدة أيام، ومع هذا كله كان إحساسي بفقد أمي أعظم لأن فيها جانباً آخر مكملاً لأبي، فعندها الجناح الذي يسع الجميع تحته وفيه مكان متسع لكل أبنائها، لا تعرف لها مصلحة أو مطلباً خاصاً أبداً والغريب أنها لم تشك يوماً من أي شيء حتى المرض كانت لديها القدرة على هزيمته والتغلب عليه، عندها قناعة تكفي أُمة بأكملها، القليل بين يديها كثير وفيه بركة عظيمة، حتى عظائم الأمور تصغر أمام عينيها وتصبح هينة ولكل مشكلة حل ولكل أزمة مخرج، كل هذه الصفات وغيرها كثير مما لا أتذكره الآن جعلتني أشعر بفقد الأم وأحس بأن اليتم ليس للصغار والأطفال فقط وإنما قسوته على الكبار أشد وأصعب، ولأول مرة أبكي كما لم أبك في حياتي. شعرت بفراع كبير ووحدة، كنت كالعريان وسط جمع من الناس أبحث عمَّن يسترني بردائه أو يحتويني بقطعة قماش ولو بالية قديمة، أحسست بضعفي وقلة حيلتي كأنني لأول مرة أعرف قيمة نفسي وحدودي وإمكاناتي الحقيقية، عرفت أنها هي القوة الدافعة المحركة لي بسرها الخفي العجيب، فامتدت فترة حزني على فراقها وقد أكون أكثر إخوتي تأثراً برحيلها لأنها كانت تعتبرني أباهم بعد رحيل الأب وكنت أكثر من لقي منها مساندة ودعما حتى لو كان من أجلهم. صحيح أن كل شيء يولد صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة فإنها تولد كبيرة ثم تصغر ولولا نعمة النسيان من الله سبحانه وتعالى علينا لهلكنا من أول اختبار حتى لو كان هينا، فقد مرَّت الأيام بحلوها ومرها، وعدت إلى تجارتي وزراعتي وقد عوضني الله بفضله بزوجة تكاد تكون صورة طبق الأصل عن أمي، تحمل مسؤوليات أبنائنا الخمسة من البنين والبنات الذين رزقنا الله بهم وتولت تربيتهم وتركت لي مهمة تدبير النفقات دون أن أكون غائباً عن تربيتهم ومتابعتهم وهم جميعاً في مراحل التعليم، وقد كان هدفي أن يحصلوا على أعلى الشهادات وأن ينالوا ما حرمت منه وألا يتعرضوا لما تعرضت له من متاعب وتقلبات في الحياة، وكانوا جميعا ذكورا وإناثاً قرة عين لي ولأمهم وأسعد بنجاحهم كل عام وتزداد سعادتي وأنا أراهم من المتفوقين، إلى أن أعانني الله على كل مطالبهم وتخرجوا جميعاً من الجامعات، ونسيت مع هذا كل متاعب ومصاعب واجهتني في حياتي لأنني أشعر أنني حققت أغلى الأمنيات. دخلت مرحلة جديدة في حياتي بعد أن تخطيت الخمسين واقتربت من الستين، عندما بدأ أول شاب يدق باب بيتي طالباً يد ابنتي الكبرى مما جعلني أشعر بعمري وأنظر إلى نفسي لأجد الشيب قد غزا مفرقي وانتشر في رأسي، لم يقلقني ذلك كثيراً، فلست ممن يهتمون بعدد السنين في أعمارهم وإنما بما أنجزته، لكن فقط وجدت بعض المخاوف تحيط بي وتسيطر على أفكاري، فما زال أمامي مهمة لم يتم إنجازها بعد وهي تزويج كل أبنائي وبناتي حتى أكون مطمئناً عليهم وعلى مستقبلهم وأحوالهم ربما أكون مبالغاً في ذلك لكني أعتقد أن هذا شعور كل أب وكل أم، وتحققت هذه الأمنية كما كنت أرجو وأحلم، وانتقل كل أبنائي وبناتي إلى بيوتهم في أماكن متفرقة متباعدة، أشتاق إليهم كثيراً وأعذرهم لانشغالهم في أمور الحياة الصعبة التي اختلفت عن زماننا، ومع ذلك فهم يزوروننا كلما استطاع أي منهم، ولا مانع من أن أقضي أنا وزوجتي بعض الوقت عند كل منهم بما لا يضيق عليهم وبما يكفي للاطمئنان عليهم، ولا نريد أن نثقل عليهم، فنحن ندرك أن ظروفهم غير ظروفنا وأحوالنا غير أحوالهم، فلست مع الآباء الذين يحملون أبناءهم فوق ما يطيقون ويتعاملون معهم كما لو كانوا في القرن الماضي. وهكذا حال الدنيا يوم حلو ويوم مر، فلا تسير على وتيرة واحدة وكذلك اعتدتها، ولا أتوقع غير ذلك، لكن الاختبار هذه المرة كان هو الأصعب في حياتي كلها وأنا في السبعين من عمري، إذ انتقلت شريكة حياتي إلى الرفيق الأعلى، وهذا قدر الله ولا اعتراض عليه، ولكن المشكلة الكبرى أنني شعرت باليتم الأكبر بعدها، خاصة وأنني الآن أعيش في وحدة قاتلة بعد أن رحل الأليف الذي كان يؤنسني، وتغيرت مفاهيم اليتم عندي للمرة الثالثة في حياتي، فبعد أبي كانت أمي هي سندي وبعد أمي كانت زوجتي بجانبي، لكن الآن لم يكن لها بديل ولا أحد بجانبي، لقد فقدت هذه المرة كل شيء، مع أنني أعرف أن اليتيم في الإنسان هو من فقد أباه وفي الحيوان من فقد أمه وفي الطير من فقدهما معاً، إلا أنني أضيف المعلومة الأصح والأكثر تأثيراً في حياتي بأن اليتيم هو العجوز الوحيد الذي فقد زوجته. مرَّ عام على رحيلها وحالي تسير من سيء إلى أسوأ، على عكس المواقف التي تعرضت لها في الماضي فقد كانت تمر الأزمة وتخف حدتها مع مرور الأيام، ولكن الآن تزداد تعقيداً خاصة أنني لا أجد صديقاً في مثل سني، ولا تعوضني الزيارات الخاطفة لأبنائي مع بعض مميزاتها، وأجلس أمام بيتي ولا أستطيع أن أفعل أي شيء، والحقيقة أنني أشعر أنني أصبحت عبئاً على بناتي وأبنائي الذين يحاولون أن يكون أحدهم معي، غير أن إحساسي بالوحدة حتى في وجودهم لا ينتهي، ولا أجد في أي منهم ما يعوضني عن زوجتي الراحلة. قد يعتقد البعض أنني أبالغ في اجترار الأحزان أو في وصف حالتي، لكن هذه هي الحقيقة فلست ممن يهولون الأمور بل دائماً أضعها في موضعها ونصابها، وقد لا يصدق أحد ذلك إلا من هم في مثل حالي لقد علمت الآن فقط لماذا يفضل كبار السن الإقامة في بيوت أو دور رعاية المسنين، رغم أن لهم أبناء لا بد أن أعترف بأن العصر غير العصر والزمان غير الزمان وأيضاً البشر غير البشر وأن كل شيء تغير. نعم أنا الذي يمكن أن يقال عنه أنه يتيم، لذا أرجو أن تصححوا معلوماتكم عن الأيتام، وربما يكون الصغار أقل شعوراً باليتم لأنهم مقبلون على الحياة وأن الدنيا أمامهم، لكن أمثالي كل شيء أصبح وراء ظهورهم.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©