الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اليسار اللاتيني.. وتبجيل «كوبا كاسترو»

16 ديسمبر 2016 23:16
بالنسبة لرجل تم الإعلان عن وفاته مرات كثيرة قبل ذلك، وتضاءلت رؤيته للعالم منذ أمد طويل إلى أدنى مستوياتها، أثارت وفاة «فيدل كاسترو» الشهر الماضي عن عمر يناهز 90 عاماً، موجة من ردود أفعال متباينة بشكل ملحوظ، وليس ثمة مكان يمكن الشعور فيه بالحزن على رحيله أكثر من أميركا اللاتينية. وكتب رئيس الإكوادور والحليف الكوبي «رفاييل كوريا»: «رحل شخص عظيم»، وأما نظيره الفنزويلي «نيكولاس مادورو» فأعلن حالة الحداد العام لمدة ثلاثة أيام. ومن جانبها كتبت الرئيس البرازيلية السابقة «ديلما روسيف»، «يا أيها الحالمون والعسكريون والتقدميون.. ويا كل من كان يحلم بعالم أقل ظلماً.. نستيقظ اليوم والحزن يجتاحنا». وربما كانت هذه التصريحات متوقعة. فنجاح كوبا الثورية، في إحباط واشنطن، وإلهام أجيال من المتمردين السياسيين، وزيادة معدلات التعليم والصحة العامة، أكسب الجزيرة هالة دائمة من القوة والاحترام في مناطق لم تعتد على أي منهما. وعندما بدأت عملي كمراسل في «نيو إنجلاند» ثم في البرازيل، أقنعت نفسي بحكايات عن فيدل كاسترو و«تشي جيفارا» وجهودهما المضنية من أجل إسقاط «الهيمنة الأميركية». وبالطبع ليس من المهم أن الاقتصاد الكوبي كان يعتمد بشكل خطير على قوة عظمى أخرى في العالم أو أن تفوق فيدل بُني على المعارضة الشرسة، وحرية التجمهر والتعبير والرفاهيات «البرجوازية» الأخرى. ففي ذلك الحين، كان على كل شخص في العالم اختيار جانب، «فإما أن يكون شيوعياً أو عدواً للشيوعية». لكن ما يصعب شرحه هو كيف استمر التبجيل. فمن تشيلي إلى كوستاريكا، اختار سكان أميركا اللاتينية، ومع وجود بعض الاستثناءات السافرة، مثل فنزويلا ونيكاراجوا، لم تكن المنطقة أبداً ديمقراطية مزدهرة. والغالبية العظمى من الشعب في 34 دولة تشكل وسط وجنوب أميركا والكاريبي، يختارون قادتهم في انتخابات مفتوحة، ويقولون ما يحلو لهم، ويشترون ويبيعون في اقتصادات تعتمد على مبادئ السوق الحرة. وعلى الرغم من أن المؤسسات الوطنية ضعيفة والفساد مزدهر، إلا أن الأميركيتين لم تحذوا حذو كاسترو. ولا يعني ذلك أن قادة أميركا اللاتينية تعاموا عن تجاوزات كوبا بقيادة «كاسترو»، وفي مذكراته، «رئيس الصدفة البرازيلي»، أخبر «فرناندو أنريك كاردوسو» المحرر «بريان وينتر» عن الانتقادات الشديدة التي كان يتلقاها «فيدل» خلف الأبواب المغلقة من قادة أميركا اللاتينية في 1999، لدرجة أن رؤساء إحدى القمم قال له: «اللعنة يا فيدل.. ماذا ستفعل بجزيرتك الخربة هذه؟». ورغم ذلك، كان من النادر خروج هذه الانتقادات إلى العلن، كما لو أن فيدل كان خالاً عزيزاً وإن كان يسبب الضرر. ومثلما تشير الخبيرة السياسية الأرجنتينية «كلاوديا هيلب» في كتابها حول كيفية صمت السياسيين في أميركا اللاتينية، وخصوصاً تيار اليسار، على إخفاقات كوبا: «حتى في الوقت الراهن من الصعب على أي شخص يعرف نفسه بأنه يساري أن ينتقد علانية النظام السياسي في كوبا»، مضيفة: «وأنا كذلك، عندما أختار كلماتي، وأكافح كي أخفف من تأكيداتي». وعزت «هيلب» هذا الاحتشام إلى ما وصفته بـ «النقطة السياسية العمياء»: التفاخر بأن تجاوزات كاسترو كانت مجرد نتائج عرضية مؤسفة لنموذج رحيم في الحكم، رغم حقيقة أن الطغيان كان أساس الثورة الكوبية. وإذا كان التأييد الذي حصل عليه من اليساريين ساعد «كاسترو». فإن الهجوم الدائم من واشنطن، بداية من محاولة الاغتيال بسيجار مفخخ إلى نصف قرن من الحظر الاقتصادي، ضد الزعيم الكوبي، صبّ في مصلحته أيضاً، وأخفى كوارث اقتصادية ومكّن كافة خطوات الديكتاتور ضد المنشقين. ولعل ازدهار تفاخر كوبا، يكشف أن كل التقدير الذي حصل عليه «كاسترو» جاء بفعل تعثر تيار اليسار في المنطقة، والذي تم استبدال زعمائه كما في حالة ديلما روسيف في البرازيل، وكريستينا فيرنانديز في الأرجنتين بمحافظين مؤيدين للسوق الحر، أو تشبثهم بالسلطة كما في فنزويلا والإكوادور وبوليفيا في خضم تزايد المعارضة والفشل الاقتصادي أو غياب النزاهة السياسية. ولعل واحدة من أكثر خدع «فيدل» ذكاء كانت مساعدته على إدارة دفة كوبا قبل أن تنهار، إذ تنحى عن السلطة عندما أرهقه المرض، وترك أخاه رؤول ليغير المسار. وعلى الرغم من أن الحلفاء في فنزويلا والإكوادور وبوليفيا لا زالوا ينددون بالتدخلات الأميركية، رحب كاسترو الأصغر بزيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وحضّ العصابات التي كان يشجعها في السابق لتقاتل، على إبرام سلام مع الحكومة الكولومبية. وكما أخبرني «إريك فرانسورث» من مجلس الأميركيتين في السابق: «إن كوبا هي محور الجاذبية في الأميركيتين، وتحظى بجل الاهتمام في نصف الكرة الأرضية». لذا فإن من الفرص التي يتيحها رحيل فيدل كاسترو إمكانية المساعدة في استعادة مفهوم التناسب المطلوب بشدة في شؤون المنطقة، وإعادة كوبا إلى حجمها الطبيعي! *كاتب متخصص في شؤون أميركا اللاتينية يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©