السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما ليس يوماً في الحياة اليومية

ما ليس يوماً في الحياة اليومية
2 نوفمبر 2017 02:19
يوضّح الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير Serres في تعليق له على كتابه «معنى الخبر»Le Sens de l&rsquoinfo، أن مقالات هذا الكتاب عبارة عن أحاديث أجراها، استجابة لطلب إحدى الإذاعات، ليعلق على أهمّ الأخبار مساء كل يوم لمدة شهر. ما تدعوه اللغة العربية «أخباراً» تطلق عليه بعض اللغات الأوروبية مستجدات Nouvelles, news. يصرّح سِير أنه، هو الفيلسوف، كان يحاول خلال تلك الأحاديث أن يجيب على السؤال: ما الجديد في مستجدات ذلك اليوم؟ الأمر الذي لم يكن يسيرا ما دامت الأخبار والمستجدات، على حدّ قوله، لا تأتي بجديد، و ما دامت «لا تخبر، وهذا منذ أرسطو، إلاّ عن أمرين لا تحيد عنهما هما: المهول والمثير للشفقة». إنها لا تخبر إلا عن الحروب والأهوال والكوارث والزلازل والأوبئة و.. حوادث السير. كان على الفيلسوف إذاً أن يبحث «عما وراء الخبر»، ويحفر، رغما عن ذلك، عمّا هو جديد في المستجدات والأخبار. يبرّر جيل دولوز هذا السّعي للبحث عما وراء الأخبار بالوقوف عند طبيعة الخبر ذاته والمعلومة التي ينقلها. وهو يتساءل: ما هي المعلومة Information والخبر ؟ فيجيب: «الخبر هو مجموع كلمات- أوامر. عندما نخبرك ونطلعك على معلومات، نقول لك ما يتوجب عليك اعتقاده. بعبارة أخرى فالإخبار هو بثّ أوامر. وليس من قبيل الصدفة أن تُدعى تصريحات الشرطة بلاغات وبثاً لمعلومات. نتوصل بالأخبار والمعلومات. يُقال لنا ما ينبغي علينا اعتقاده وكيف نتهيأ لذلك ونكون مستعدين له. بل إن الأمر لا يتعلق بالاعتقاد، وإنما، بالتشبّه به، والعمل كما لَوْ. لا يُطلب منا أن نعتقد، وإنما أن نتصرّف كما لَوْ كنّا نعتقد».  ليس بعيداً عن هذا ما كان رولان بارت كتبه تمهيداً لكتابه «ميثولوجيات»، فلاحظ أن الأخبار تغرق في اليومي وتتآلف معه وتجعل منه أمراً طبيعياً «فتتناسى أن اليومي ينتمي إلى التاريخ». الأخبار «تخلط بين الطبيعة والتاريخ». لذا فقد حاول هو إعمال الفكر «في بعض أساطير الحياة اليومية»، والبحث عما «ليس يومياً في الحياة اليومية»، ووضْع اليد، فيما وراء ما يبدو طبيعياً، على التاريخي الذي يعتمل خلفه. البحث عن الجديد في مستجدات لا تحمل جديداً وعما ليس يومياً في اليومي، لا يَبْعُد كثيراً عن البحث عن التاريخ في ما يعْلق بالأسطورة، أي، تحديداً، في ما يحاول الانفلات من الزمن التاريخي. إنه البحث عن الزمني في ما ينحو نحو السّرمدي. فعندما ينصبّ التفكير على اليوميّ، وعندما يهتم بالصحافة والملبس والرياضة والمأكل والمشرب والإشاعة والإشهار والكليب و..، عندما يتحول إلى سيميولوجيا للحياة اليومية، فذلك سعياً وراء الفصل بين «الطبيعة والتاريخ»، بحثاً عن الجديد في المستجدات، وعن الغرابة في الألفة، وعن التاريخيّ في الميثولوجي. قد يقال إن هذا لا يتطلب إعمال فكر عميق، وإنه أقرب إلى انشغالات الصحافة، أو اهتمام رجال السياسة، وهو، في أقصى الأحوال، أقرب إلى النقد الأيديولوجي. يلاحظ صاحب «أسطوريات» أن هناك أشكالاً ثقافية «تخترق» حياتنا اليومية من دون أن تثير الاهتمام المباشر لا بالسياسة ولا حتى بالأيديولوجية. لذا فهي تعيش في مأمن من نضال السياسي وفي حِمى من نقد الأيديولوجي. وعلى رغم «تفاهة» هذه الأشكال، فإنها تشكل مجتمعةً ما يدعوه «الفلسفة العمومية» التي تغذي طقوسنا وشعائرنا اليومية، و«تحدّد» لباسنا وحلاقة شعرنا وتنظيم مطبخنا وحفلاتنا، وتدبير شؤوننا الاعتيادية بما فيها من قراءة للصحف وارتياد للمسارح ودور السينما، وحديث عن أحوال الطقس وأخبار الأجرام والرياضة. لا يتعلق الأمر مطلقاً بما يسمى «ثقافة شعبية» في مقابل الثقافة «العالمة»، كما أنّه لا ينحلّ  إلى التقابل بين «الوضيع» و«الراقي» بالمعنى الأكسيولوجي للكلمتين. إلا أن المهم أنه لا يتعلق فقط بنقد للأخلاق بمعزل عن السياسة والأيديولوجيا. هذا النقد شبيه بما كان يمارسه، في فرنسا على الخصوص، ما سُمّي بـ«الطليعة». بل لعله هو ما يحدّد الطليعة L&rsquoavant- garde بما هي كذلك. فالطليعة ليست طبقة اجتماعية ولا حتى فئة متميزة. إنها حركات وتمرّدات محدودة في مدة امتدادها وقوة نفَسِها. فهي تصدر عن جزء من البورجوازية، عن أقلية من الفنانين والمثقفين، إلا أنها إذ تعارض البورجوازية كأخلاق وتصرفات، فإنها لا تعارضها كسياسة واقتصاد. هذا ما يجمله بارت في عبارة وجيزة، إذ يقول: «إن ما كان يعيبه رجل الطليعة على البورجوازي هو لغتَه وليس مكانتَه ومنزلتَه». لا يعني هذا، بطبيعة الحال أنه يُقرُّه في صنيعه، وإنما يعلّق حُكْمه على السياسة، وينأى بنفسه عن النقد الأيديولوجي المكرور. لكن، بين هذا وتلك، تصان تلك الأشكال الثقافية «التافهة»، وتغدو طبيعة ثانية فتترسخ في الأذهان والأعيان، وتسكن السلوكات اليومية والتصرّفات «العادية». ها هنا تبرز مهمة نقد «مغاير» لا يقتصر على الثقافة كإبداع وأشكال «سامية»، وإنما يتصيّدها في أتفه تجلياتها، ويضبطها وهي تعمل قبل أن تصوغ نفسها في مفاهيم مجردة وأشكال راقية رفيعة، كي يتعقب «ما ليس يومياً في الحياة اليومية».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©