الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«انتقاء».. شظايا الحرب تلوّث الروح!

«انتقاء».. شظايا الحرب تلوّث الروح!
6 أكتوبر 2010 20:52
تشير كلمة Traige أو “انتقاء” إلى مصطلح يستخدم عادة أثناء الحروب، حيث يتم انتقاء الجنود المصابين بجروح مميتة وفرزهم وفصلهم عن المصابين الذين يملكون أملا في الشفاء، ويتم قتل الميئوس منهم قتلا رحيما كي يتخلصوا من آلامهم النفسية والجسدية التي لا تطاق. من خلال هذا المفهوم الصادم والدامي ينطلق فيلم “انتقاء” للمخرج البوسني دانيس تانوفيك كي يروي حكاية المصور الصحفي الأيرلندي (مارك والش) ـ يقوم بدوره الممثل كولين فاريل ـ الذي يذهب إلى جبال كردستان في العراق أثناء حكم صدام حسين كي يوثق من خلال الكاميرا الوقائع المؤلمة والظروف اللانسانية التي خلفتها عمليات الكرّ والفرّ بين المقاومين الأكراد وبين الجنود العراقيين، ورغم تركيز الفيلم في مشاهده الاستهلالية على الأجواء الصادمة والوحشية للحرب، إلى أن الجزء الأكبر من زمن الفيلم يتحول إلى تشريح فلسفي ونفسي لآثار الحروب ولنقاط التوتر في العالم، والتي تنطبع مثل بصمة روحية فتاكة وموجعة تطارد المصور (مارك) إلى بلده وتحول حياته وحياة المحيطين به إلى جحيم. تبدأ اللقطة الأولى للفيلم المقتبس من رواية بذات العنوان للكاتب سكوت أندرسون على عبارة تقول: “لا نمط لمن يعيش أو يموت في الحرب، يموت الناس في الحرب، لأنهم ببساطة يموتون، فلا شيء في الحرب غير هذا”. بهذا المنطق النقدي المتشائم والمحتشد بالسوداوية، يفتتح الفيلم مشاهده التأسيسية على لقطة علوية ثابتة تتخللها موسيقا شرقية تستدعي مشاعر الغموض والريبة، ونرى في اللقطة وجه الصحفي (مارك) الذي يملأ الشاشة وسط الدماء التي تتسلل منه ببطء وهو في حالة متأرجحة بين الصحو والغيبوبة، وكأن ثمة صدمة داخلية وخارجية عنيفة عصفت به نحو ألم عميق ومستتر. تُقطع اللقطة على فلاش باك يعود بنا إلى اللحظات الأخيرة التي يقضيها المصور (مارك) مع زوجته في موطنه الأم قبل أن يغادر إلى كردستان عبر الحدود التركية بصحبة صديقه المصور ديفيد ـ يقوم بدوره جيمي سايفيس ـ الذي يترك خلفه زوجته الحامل في شهرها الأخير، ويتمنى الاثنان أن يعثرا على صيد فوتوغرافي ثمين تتلقفه وكالات الأنباء العالمية من داخل حقول القتل والموت المنتشرة وسط جبال كردستان، يذهب بنا المشهد التالي للفيلم إلى العام 1988 من خلال مشاهد بانورامية تصور البيئة الكردية القاسية، ثم تعرج على إحدى الثكنات العسكرية الحصينة وسط جبال نائية وموحشة، وهي الثكنة التي تنطلق منها عمليات المقاومة الكردية، ومن هناك يبدأ المصوران مباشرة في ممارسة عملهما مع وصول شاحنة محملة بالجرحى الذين يعاينهم طبيب كردي وحيد يعتمد في علاجه على وسائل بدائية نظرا للنقص الواضح في الأدوية ومعدات الإسعاف ولقلة وندرة التجهيزات الطبية الحديثة، وداخل كهف عميق بات هو الملجأ الوحيد للجرحى يكتشف المصوران مدى الألم الجسدي الهائل الذي يعانيه الجرحى، خاصة أولئك المصابين بجروح قاتلة، ومن خلال لقطات متحركة وأخرى ثابتة ـ وكأنها تنطق بلسان الكاميرا الفوتوغرافية ـ يشرع الفيلم في تفكيك شفرة الوجع الإنساني داخل أتون الحرب، حيث تتحدث الدماء النازفة والتأوهات والصرخات التي يصدرها الجرحى، وكأنها “مانفيستو” الجحيم الأرضي، والعبث الصارخ بقيمة وكرامة الإنسان في أي مكان أو زمن. يضع الطبيب شارات صفراء وأخرى زرقاء على أجساد الجرحى، كي يتم فرز الميئوس من علاجهم، عن الجرحى القابلين للشفاء، وفي مشهد مأساوي ومحيّر تجتمع فيه الرأفة والقسوة معا يقوم الطبيب بمعاينة أخيرة لأصحاب الشارات الزرقاء الذين تم وضعهم خارج الكهف ثم يبدأ في إطلاق النار على رؤوسهم واحدا تلو الآخر، كي تتحول الطلقات المدوية إلى رصاصات رحمة وإلى صمت أبدى يغلق معه كل أنين وكل صرخة. بعد أن ينتهي المصور ديفيد من مهمته وهو مشبع بالغثيان والأسى يقرر العودة إلى بلاده كي يشهد ولادة زوجته ويرى طفله المنتظر، أما المصور مارك النهم للصور الدموية والمعتاد على الأجواء المرعبة نظرا لخبراته السابقة في مناطق التوتر المختلفة في العالم، فيقرر البقاء ومرافقة الجنود الأكراد في مهماتهم الخاطفة والمميتة في أغلب الأحيان. وفي سياق بدا غامضا ومقصودا من قبل المخرج نرى مارك وهو ممدد وسط خيمة معزولة قرب الثكنة العسكرية ذاتها التي يعانيها الطبيب الكردي، وبعد أن يفيق من غيبوبته يرى مارك الشارة الصفراء على صدره، ويستمع إلى الطبيب الذي يخبره بأنه محظوظ لأن الانفجار الذي نجا منه لم يصبه في مقتل، عندما يعود مارك إلى وطنه وإلى زوجته وهو يعاني من ألم في إحدى قدميه يكتشف أن صديقه ديفيد لم يعد ولا توجد أية أخبار عن حالته أو عن مكانه، وعودة مارك هذه جرفت معها العديد من الأسرار والانكسارات والعاهات النفسية أيضا والتي ظهرت ملامحها واضحة على تصرفاته، فمن الهياج ونوبات الهلع والكوابيس إلى التصرفات المريبة والهلاوس، ما اضطر زوجته إلى إيداعه في المستشفى، وهناك يكتشف الأطباء وجود شظية قنبلة في دماغه، ورغم استئصال الشظية إلا أن الألم الذي يعانيه في رجله يستمر معه حتى بعد انتهائه من العلاج ويتحول هذا الألم إلى لغز محير للجميع، يشير أحد الأطباء على الزوجة بضرورة العلاج النفسي، لأن بعض الآلام الغامضة يكون مصدرها صدمة داخلية عنيفة لا يريد المريض مجابهتها وبالتالي لا يستطيع التخلص من تبعاتها المدمرة. يشرع النصف الثاني من زمن الفيلم في تقييم الوضع النفسي لمارك، ويبرز هنا دور السيناريو في تحليل الشخصية ودراستها من العمق، انطلاقا من الدواخل والسراديب المجهولة في الذات البشرية، وعلى الكاميرا هنا أن تلاحق هذه الدوافع والمنابع النفسية للناجين من الحروب، ولكنهم في ذات الوقت يبدون وكأنهم محاصرون بذكراها وبتداعياتها الرهيبة في اللاوعي. وكحل أخير من أجل تخليص مارك من عذاباته الخفية، تلجأ زوجته (الإسبانية الأصل) إلى جدها جواكيمــ يقوم بدوره الممثل المخضرم كريستوفر لي ـ الذي سبق له علاج حالات مماثلة وشبيهة بحالة مارك من خلال تكنيك نفسي خاص يعتمد على الحوار والمجابهة وإحداث صدمة داخلية تعيد المريض إلى ماضيه وإلى أسراره التي يكتمها دون قصد أو وعي، ورغم الخلاف السابق بين الحفيدة والجد حول ممارساته السابقة وعلاجه النفسي لمجرمي الحرب الأهلية الإسبانية في فترة الديكتاتور فرانكو، إلا أن الحاجة الملحة والموهبة العلاجية الفريدة التي يملكها الجد تخففان من عمق وقوة هذا الخلاف. وفيما يشبه النبش في السيرة الذاتية للمصور مارك والش، يذهب الفيلم باتجاه حزمة من الاستعادات والفلاشات التي تضيء مسارات اللاوعي والذاكرة الخبيئة والمتراكمة في أعماق المصور، تتحرك هذه الحزمة من الصور والمشاهد نحو بيروت وأدغال أفريقيا وكردستان حيث نرى مارك وهو يخزن مشاهد القتل المروعة التي وثقها بكاميرته وخبرها بأنماط وأشكال مختلفة دون أن يسمح لمشاعر الخوف من إعاقته أو تغيير مهنته. ونكتشف من خلال الحوار الداخلي والعلاج النفسي المكثف الذي يمارسه الطبيب خواكيم، أن مارك يخفي سرا عميقا يتعلق بموت صديقه المصور (ديفيد) عندما تنفجر بقربهما قنبلة طائشة وسط براري وجبال كردستان، يتحول هذا الحادث إلى ما يشبه العقدة النفسية أو عقدة الذنب التي تحول حياة مارك إلى جحيم داخلي دون أن يجرؤ على التحدث عن هذه التجربة المرعبة أو حتى مجرد التفكير بملابساتها وآثارها الضارية والمدمرة عليه وعلى زوجته. ومع سرد مارك لتفاصيل الحادثة بكل الغضب والأسى والتحولات المؤلمة التي مر بها من خلال الصمت والكتمان والأحلام المدوخة فإن هذا السرد الذي يشبه الاعتراف الذاتي يصبح هو الباب الوحيد لشفاء روحه من كل الأذى والسموم والذاكرات المشوهة التي كادت أن تقوده إلى الانتحار أو الجنون. عموما فإن فيلم “انتقاء” يضاف لخيارات وميول المخرج دانيس تانوفيك الذي قدم في أعماله السابقة نقدا صريحا لأثر الحروب وقدرتها الشيطانية في إضفاء مسحة داكنة ومروعة على حياة البشر في هذا الكوكب المبتلي بنقاط التوتر وبمجانين ومعتوهين يقودون العالم نحو متاهات وكوارث وعاهات نفسية وروحية يصعب الفكاك من توابعها، فهذه التوابع أو الانعكاسات قادرة على وضع الموتى والأحياء في خندق واحد من الوجع المكرر والمقيم. قدم تانوفيك احتجاجه السينمائي الصارخ في فيلمه الشهير “الأرض الحرام” الذي نال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي في العام 2002، كما فاز بالجائزة ذاتها في احتفالية الجولدن حلوب في نفس العام، وبجائزة السيناريو في مهرجان كان في العام 2001، وأبان الفيلم عن الصورة القاتمة للحرب بين صربيا والبوسنة من خلال حكاية جنديين من كلا الطرفين يجتمعان صدفة في الأرض الحرام ـ التي تفصل عادة بين جبهات القتال ـ وبحس تهكمي ومليء بالمفارقات يحول تانوفيك هذه الأرض المحرمة إلى أرض مزروعة بالمتاهات والخلافات والجروح الإنسانية التي تعمقها الحروب وتحولها إلى جروح ممتدة بقسوة نحو المستقبل، ونحو أجيال جديدة تطمح للتغيير ولكنها لا تتخلص من صرامة الماضي وعنف التاريخ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©