السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

الاردن

الاردن
24 يوليو 2014 14:37
محمد عريقات (عمان) التفتت السلطات والحكومات العربية، منذ عقود كثيرة، إلى المحتوى الذي تتضمنه خطب المساجد تلك التي توجه بشكل مباشر إلى عامة الناس على الأخص «خطبة الجمعة»، وأصبحت ـ كما يرى البعض ـ تتدخل بمحتواها وتلغي كل ما تتضمنه من توجهات سياسية تخرجها عن دورها الذي لا تراه أبعد من الدعوة إلى الدين والسلوك الأخلاقي والاجتماعي للفرد؛ ويرى آخرون أن هذا التدخل ظلّ متعاقبا حتى زمننا هذا، فها هي الحكومات والسلطات الحديثة تصدر القوانين بمنع خطباء المساجد في بلادها من التدخل بالشأن السياسي، في وقت تعددت به البدائل كالمنابر الإلكترونية التي تتيح للخطباء ورجال الدين وغيرهم اعتلائها وتقديم ما تريد قوله بلا رقيب أو حسيب. أتى هذا الالتفات لكون الخطابة فنا أدبيا لا يزال يحتفظ بمكانته بين عامة الناس من بين الفنون الكتابية الأخرى، فمع انسياق معظم هذه الفنون وراء مفاهيم ونظريات جاءت بأغلبها غريبة عن فطرتهم وبيئتهم وتراثهم وثقافتهم ظل فن الخطابة هو الشكل التعبيري الأقرب من واقع الناس ومشكلاتهم، والأكثر قدرة على التأثير فيهم، يتجلى ذلك في خطبة يوم الجمعة التي يلقيها خطيب تلتف حوله أعداد كبيرة من الناس تأتيه طوعا، فخطبته شعيرة أساسية من شعائرهم الدينية التي لا تستقيم عبادتهم دون التحلّق حوله وسماعه في يومهم الفضيل. من هنا جاءت فكرة هذا التحقيق الذي استطلع آراء عدد من السياسيين والمفكرين والصحفيين الأردنيين حول هذه القضية. بين الحل والقوننة يرى الكاتب في الشؤون السياسية والثقافية والاجتماعية الدكتور موسى برهومة أن منع الخطباء والفقهاء ورجال الدين من الاشتغال المباشر في السياسة يرمي إلى إحداث فصل وظيفي بالدرجة الأولى بين الحقلين. ثم في الدرجة الثانية الحيلولة دون استثمار الدين وتوظيفه لخدمة أغراض ومنافع أيديولوجية. ويضيف برهومة: رغم أن مثل هذا القرار لا يحل المشكلة تماماً، إلا أنه يقونن العلاقة بين الطرفين ويضبطها في الإطار التشريعي. لأن على الدولة أن تتدخل في لحظة ما، وتمارس سلطتها، لإحداث ما يمكن تسميته القطيعة مع أي خطاب يصدّع السلم الاجتماعي والسياسي، ويتيح لفريق منابرَ ويحرم فريقاً منها، ويؤثّم هذه الجماعة لأنها تتحدث عن قيم الحداثة والمدنية، ويحتفي بنقيضتها لأنها تزعم النطق بلسان السماء. ويرى أيضًا أنه من الضروري حماية الدين من السياسة، وحماية السياسة من الدين، لأن في تغوّل أحدهما على الآخر ما يقضّ الاستقرار، ويقوّض التنمية، لاسيما وأن للدين سطوة واسعة في المجتمعات العربية، والجمهور لا يميز بين الفتوى الشرعية التي تبتغي وجه الله، وتلك التي تبتغي وجه التيار السياسي الذي يمثله المفتي أو الخطيب أو يميل إليه. ويخلص د. برهومة أن كل ما ذكر لا يراد منه منع الخطباء ورجال الدين من التحدث في السياسة، لأن هذا الأمر غير ممكن وغير معقول واقعياً. المطلوب ترشيد العلاقة بين الدين والسياسة وصولاً إلى تقعيدها، وهو تقعيد يرنو إلى وضع الدولة العربية على سكة المدنية والتطلع العلماني الذي يُجري فصلاً موضوعياً بين الدين والسياسة، ويقوم بترسيم الحدود بينهما، وهذه العلمنة لا يتعين لها أن تثير ريبة أحد، فثمة علمنة مؤمنة لا تعادي الأديان، لكنها لا تمكّنها من أن تغمر الحياة بكل وجوهها، كما هو ماثل الآن في هذه القنطرة الملتبسة من حياة المسلمين. وظيفة الجامع أما الكاتب والصحفي محمود منير فيؤكد على أن الجامع فقد وظيفته الأساسية منذ بدايات العصر الأموي؛ الوظيفة المتصلة بتشاور المسلمين فيما بينهم وبين خليفتهم أو واليهم حول القضايا العامة، واستبدل ذلك بحكْم الواحد المستبد ـ حتى عصرنا الحالي ـ الذي لا يرى في الجامع سوى «مسجداً» للصلاة والتعبد. ويشير كاتب المقال السياسي والاجتماعي إلى أن الهبّات الشعبية على مرّ التاريخ الإسلامي (منذ الخلافة الراشدة ولغاية اليوم) استخدمت المساجد لتعبئة الفئات المحتجة، لكن نظرة عامة إليها تكفي للقول إن الهبّات جميعها لم تحمل رؤية لتغيير المجتمع، إنما كانت تعبيراً عن تهميش فئة أو طائفة أو قبيلة، وتجسيداً لرغبتها في الوصول إلى السلطة واحتكارها من جديد (العباسيون انقلبوا على الأمويين، والمماليك انقلبوا على الأيوبيين... وهكذا). ويرى أن «المسجد» ظل مرتهناً للنظام الحاكم، كما وظفتّه الانقلابات عليه في سبيل وصولها إلى الحكْم، ولم يختلف الحال في عصرنا الحديث، إذ تواصل منْح رجال الدين هامشاً للتحرك ضمن قواعدهم الاجتماعية لضمان السيطرة عليها. ازدواجية تحكم عقلية الأنظمة الحاكمة في دولنا العربية، التي أقرت دساتيرها عقب «الاستقلال»، ثم انتهكتها بالفساد واحتكار السلطة والثروة، ومجاملة رجال دين يشددون على الدوام بأن الشرائع السماوية تسمو فوق كل القوانين «الوضعية». ويضيف منير: إن المخاتلة بين الدين والسياسة لا تقتصر على خطباء الجمعة، بل يحظى رجال الدين ببرامج تلفزيونية وإذاعية تصمم على قياسهم، ويدلون بآرائهم في مواضيع لا يدركها إلا أصحاب الاختصاص. ويؤكد على أن هذا الانفصام لا تجده في ثقافات شعوب أخرى تنظر إلى واقعها بصورة علمية، وتواجه مشاكلها بإحالتها إلى الباحثين والدارسين كلٌ في مجاله، وهو ما فعلته دول إسلامية تشهد اقتصادياتها نمواً عاليا ومنها ماليزيا. وبحسب منير إن الخطر يكمن بتطاول المشايخ على الدستور والقوانين المعمول بها، إذ يجري تحريم العديد مما نصّت عليه هذه التشريعات: التعليم المختلط في الجامعات، أو العمل في البنوك والفنادق، أو القروض البنكية فيما يُحلل الاقتراض من بنك بعينْه. ويختم قائلا: «الجامع» الذي اغتيل من أجل إدامة حكْم المستبد يمكن إعادته ببناء مجتمع حديث يشارك فيه مواطنوه ببنائه وحكْمه في إطار تجمعهم بنقابات واتحادات عمالية وأحزاب وجامعات مستقلة، أو استمرار التزاوج غير الشرعي بين «المسجد» و«القصر»، ما سيؤدي إلى مزيد من التفتت والانقسام والتقاتل فيما بيننا حتى آخر قتيل. مصدر إلهام وتشريع ومن حيث أحقية الخطباء في التدخل بالشأن السياسي لبلادهم يحزم الأستاذ والمفكر إبراهيم غرايبة رأيه في هذه القضية قائلا: من الضروري جدا أن يحيد الشأن السياسي في الممارسة الدينية، الصلاة والخطبة والوعظ والإرشاد والتعليم الديني، وقرار منع الحديث في السياسة في الخطب والدروس الدينية مطلوب وضروري.. هذا الاستقلال بين السياسة والشأن الديني ليس منعا بالمطلق من ممارسة السياسة، ولكن يفترض أن العمل السياسي يجري من خلال المشاركة العامة والأحزاب السياسية والتعبير عن الرأي والانتخابات العامة. وينوه غرايبة إلى ضرورة استقلال المؤسسات والممارسات الدينية عن الشأن السياسي وقيامها على مجموعة من المبادئ والموجبات: العمل السياسي والسياسة بعامة اجتهاد إنساني، ومحصلة المنجز الانساني العقلي والفكري والتفاهمات والأفكار والتجارب والاختلافات والصراعات السلمية والتوازنات والقيم السياسية المتشكلة، وهي عمليات متحركة ومتغيرة وليست حكما ثابتا نزل من السماء،.. وهي أيضا قابلة للمراجعة والتصحيح والتغيير والاقتراح.. ولا يمكن أن يكون في هذا الشأن تعاليم محددة نزلت من السماء.. ويقول غرايبة: هناك مبادئ عامة يطلبها القرآن، العدل والخير والجمال، ولكن يجتهد الناس باستمرار مستهدفين هذه المبادئ الحاكمة لحياتهم ويقتربون منها أو يبتعدون حسب ما يمكنهم ذلك وتؤثر فيهم التجارب الإنسانية وأفكارهم وثقافتهم وأهواؤهم وصراعاتهم، وليس ثمة حالة في ذلك يمكن وصفها بأنها صواب، ولكنها توافق يجري بالأغلبية أو التفاهمات السائدة في السياسة، ليس ثمة يقين في السياسة والحكم! ولا يصح أن يفرض على الناس أو يقدم لهم في تدبير حياتهم وشؤونهم ما يعتقد أنه يقين لا يحتمل الخطأ والقصور. ويرى صاحب كتاب «السراب» أن في هذا الاختلاف الحتمي والضروري بين الناس تكون السياسة، ولا يصح في ذلك أبدا أن يوظّفَ الدين صاحبُ رأي أو وجهة نظر أو موقف أو طرفُ في الخلاف أو جماعةٌ أو سلطةٌ سياسية لأنه يقحم اليقين وما يجمع عليه الناس في الخلاف والصراع.. وذلك يفسد اليقين والسياسة معا. وفي الاستقلال بين المؤسسة الدينية وفي السياسة يمارس الدين دورا اجتماعيا وارتقائيا ملهما لجميع الناس ويكون مرجعية لجميع الناس والطبقات فيكون ايجابيا بدلا من أن يكون مصدر خلاف وقهر. ويؤكد في ختام حديثه حول هذه القضية أن منع التداخل بين الدين والسياسة في المساجد لا يعني منعه في الحياة العامة، بالتأكيد هو مصدر الهام وتشريع ولكن من خلال المؤسسات السياسية والتشريعية وليس من خلال المؤسسة الدينية. ومن الضروري أيضا التذكير أن منع التدخل والتداخل بين الدين والسياسة في المساجد يجب أن يشمل الحكومات والسلطات السياسية، فلا يجوز أن تكون الخطبة دعاية سياسية للحكومة لأن ذلك ممارسة سياسية وإقحام للدين في السياسة. الخطب عبادات وقفية يرى المحامي د. أشرف سمحان أن ما من فكرة عبر التاريخ تم اضطهاد معتنقيها إلا وزادها ذلك تألقاً ورفعة، وزاد أتباعها تمسكاً بها ودفاعاً عنها. الفكر لا يواجه بالاضطهاد وإنما يواجه بالتنوير؛ أي بمواجهة الفكر بالفكر وبمناقشة معتنقي الأفكار السوداوية بالحجة ومجادلتهم بالتي هي أحسن حتى نعري معتقداتهم ونفضح أفكارهم أمام أنفسهم قبل الغير. حينها فقط تظهر الحجة وتبان الحقيقة وتصفى العقيدة من شوائب الضلال وفساد المنطق. ويؤكد أن من حيث القانون لا يوجد ما يمنع الحكومات من التدخل في عمل خطباء المساجد ببساطة لأنهم لا يعبرون عن رأي شخصي في خطب الجمعة وإنما يؤدون في هذه الخطب عبادات وقفية ترعى الدولة إقامة شعائرها من خلال وزارة الأوقاف مما يعني أنها هي صاحبة الحق في تقدير اعتبارات الملاءمة والمواءمة بما لها من سلطة وولاية عامة. هذا من حيث القانون. أما كمثقف فقد سبق وقلت إن مثل هذا الأمر اضطهاد ديني لا يزيد من يشعرون به إلا إصرارا على ما يعتبرونه صحيحاً. سلطة الخطابة يرى الناشط الحزبي والنقابي والكاتب في القضايا الاجتماعية والسياسية عمر شاهين أن خطبة صلاة الجمعة أثرت ولا زالت في وعي وتوجه الأمة العربية، وكان الكثيرون يتناقلون أشرطة الكاسيت المسجلة للخطباء، وظهر قادة دين شعبيين جراءها، وفي الأردن بيّنت انتخابات عام 1989م أن أشهر الشخصيات شعبيا، لدى جماعة الإخوان المسلمين كانوا من المميزين في خطب الجمعة. مما جعل الحكومة الأردنية تعمل كباقي الحكومات العربية للإشراف على خطب الجمعة، عبر إقصاء الخطباء الحزبيين ومن ثم السياسيين، وبعدها تم منع أي خطيب يتعرض للسياسة العامة، سيما ما يصطدم مع الدولة الأردنية. ويعتقد عمر شاهين أن خطبة الجمعة لا يجوز حصرها وتحديد محاورها، شرعا، بل يجب أن تتحدث عن أحوال الأمة سلوكيا وأخلاقيا، وحتى سياسيا وتعالج مشاكلهم، ولكن هذا يتم من خطيب جمعة يرتقي إلى درجة وعي العلماء ولكن انتشار عدد المساجد الكثير أتاح فرصة اعتلاء المنابر أمام غير المؤهلين، وبدل أن تمزج السياسة بالدين صار تسيس الخطبة شائعا، مما يجعل منها سعي لتحقيق أهداف خاصة تنبع من مرجعية الخطيب، مما يحرف الحقائق والنتائج، واخطر ما نتج عن ذلك هو الخطاب التحريضي الفوضوي. ويتساءل شاهين: هل الخطب الدينية موحدة الاتجاهات؟ أو أنها تتبع مذاهب ووجهات نظر مختلفة لا تحمل وجها واحدا؟.. هناك من يدعو للسلفية والإخوانية وهناك دعاة الدين الموالين للحكومات، وهذا ما سيصنع صدامات داخل المساجد نفسها لاختلاف توجهات المصلين وهذا حصل في كثير من المساجد. ويخلص شاهين قائلا: إن تضخيم دور «الخطيب» مبالغ به، خاصة في الأردن فالمواطن اليوم، أصبح مطلعا على الانترنت والفضائيات، وعلى كل ما نعانيه سياسيا وعلى أساليب معالجته، ومسبباته، وللأسف إن استغلال الخطبة سياسيا جعلها طقسا مكررا، ومعادة الطرح.. وأهم أسباب ذلك ضعف الوعي السياسي للخطباء وتوجههم.. ولكني لا أجد أنها عامل وحيد للتحريض على الثورات وان كانت المساجد تعد من اكبر التجمعات الشعبية، وعلى الخطبة أن تكون بالدرجة الأولى للإصلاحات المجتمعية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©