الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عداء أختين

عداء أختين
6 يوليو 2012
أحمد محمد (القاهرة) - كانت وفاة “منى” الشابة، ابنة الواحد والعشرين عاماً، مفاجئة، لأنها في صحة جيدة ولا تعاني أو تشكو أي علَّة أو مرض، بل إنها مثل النحلة تتحرك بكل دأب ونشاط، واليوم وجدوها ميتة في فراشها، ومن الطبيعي أن يثور التساؤل كيف ماتت، وإن لم يكن الموت بحاجة إلى سبب، ولا يختار المرضى من دون الأصحاء، ولا الكبار من دون الصغار، وكانت شكوك الأهل في محلها، فقد أكد الطبيب أن الوفاة غير طبيعية، ويشتبه أن تكون بسبب الخنق، فتم تحرير محضر بالواقعة وإبلاغ النيابة. بدأت التحقيقات بتقرير الطب الشرعي الذي جاء جازماً حاسماً أن الفتاة ماتت مقتولة خنقاً، مع وجود آثار على رقبتها وزرقة في مختلف أنحاء جسدها وكدمات وسحجات، بما يشير إلى أنها كانت تحاول المقاومة وتدفع القاتل، إلا أنه تغلَّب عليها وأنهى حياتها. أسرعت الشرطة إلى جمع المعلومات التي أشارت إلى أن القتيلة تقيم مع أختها، وحدهما، بعد وفاة الأب والأم منذ سنوات، وأن علاقات الأختين ليست على ما يرام وتفتقد إلى التفاهم والتعاون، أو بالأحرى هما على خلاف، لكن ليس هُناك ما يؤكد أن ذلك قد يؤدي إلى القتل. الأمر والإجراء الطبيعي أن يتم استدعاء الأخت الصغرى “منار” ابنة التاسعة عشرة، والتي انهارت وأجهشت بالبكاء قبل أن يوجه إليها المحقق أي سؤال، ولأول وهلة اعتقد الجميع أنها تبكي حزناً على فقد أختها الوحيدة التي ليس لها أحد غيرها في الحياة كلها، هرول البعض بإحضار كوب ماء أو عصير الليمون في محاولة لتهدئتها، لكنها فقدت أعصابها وتماسكها وراحت تهذي بكلمات اختلطت بالدموع، يمكن منها فهم بعض المفردات، بأن القتيلة تستحق أكثر من ذلك، وكان لا بد أن تلقى جزاءها. بعد دقائق عدة استطاعت الفتاة أن تسيطر على جسدها المضطرب، لكن دموعها لم تتوقف، فشلت في التحكم فيها، وفتح المحضر وجاءت اعترافاتها بلا أسئلة كثيرة، استرسلت وحدها تذكر الأحداث من بدايتها وبالترتيب، قالت منار، إنها وأختها كانتا مختلفتين منذ الطفولة، هي الصغرى، ومع ذلك كانت تتحمل وتصبر على أذى أختها التي كانت تطمع حتى في ألعابها، واستمرت حياتهما مثل كل طفلتين مختلفتين في الطباع، فواحدة هادئة مستسلمة بينما الأخرى متمردة وهي ما زالت في نعومة أظفارها. في مرحلة الصبا، لم تكن “منى” الكبرى ترضى عن الملابس التي تشتريها لها أمها مثل أختها، ولا يعجبها العجب، وبعد أن كبرت الشقيقتان، التحقت الصغرى بالجامعة، والتحقت الكبرى بمدرسة التمريض وتخرجت والتحقت بالعمل في أحد المستشفيات. في ظل تلك الظروف، لقى الأب والأم مصرعهما في حادث سيارة، انقلبت الأحوال كلها رأساً على عقب، وجدت الفتاتان نفسيهما وحيدتين في الحياة، الأقارب بعيدون بطبيعة الحال مكانياً ونفسياً والكل منشغل بأحواله، ولا أحد يهتم بغيره، فواجهت الأختان الحياة وحدهما وهما بلا خبرة في تحمل المسؤولية حتى لو كانت صغيرة، لكن المشكلة الأكبر كانت فقدان التفاهم بينهما، وأنهما مختلفتان في كل شيء، فكان من الصعوبة بمكان استقرار الحياة بينهما. رغم أن منار كانت الصغرى، إلا أنها كانت أكثر حكمة من أختها، مدت إليها يد السلام وطي صفحة الماضي، لكنها لم تجد جواباً، ووجدت رفضاً وصدوداً، حتى عندما جاء شاب ليخطبها رفضت منى أن تحضر حفل الخطوبة الصغير الذي لا يعدو أن يكون جلسة صغيرة من أفراد عدة، وهو أقرب إلى سهرة قصيرة، غير أنها حضرت مكرهة، خاصة أنها تشعر بالضيق والحقد، لأن أختها الصغرى تمت خطبتها قبلها، وذراً للرماد في العيون حضرت، لكن لا يخفى على وجهها ما يكن صدرها. الخلافات والمشاحنات لم تقف عند حدودها السابقة، وإنما ازدادت بعد تلك الخطوبة، خاصة أن منى تتعامل بشكل سيئ مع خطيب أختها وتتدخل في علاقتهما وتحاول أن تعرقل الزيجة بأي شكل وبلا سبب واضح، لكن ما لم تحتمله منار، أن الألسنة في المنطقة بدأت تلوك سمعة أختها، وتتحدث عنها بسبب طريقة تعاملاتها وعودتها متأخرة بالليل، متعللة بظروف عملها في المستشفى، لكن كان هُناك حديث أيضاً عن ملابسها التي تبدو خليعة وغير مناسبة للوسط المحافظ الذي نشأت وتعيش فيه، ووصل ذلك كله إلى أذن منار التي حاولت أن تصلح من أحوال أختها وتقدم إليها النصيحة، لكنها لم تجد منها إلا الرفض والقسوة، معتبرة أنها الكبرى ولا يجوز لأختها الصغرى أن تفرض عليها وصايتها والمفروض أن يكون الأمر بالعكس. توترت العلاقة وتحول البيت الصغير إلى ساحة حرب واقتتال وصدامات متتالية، ومشاحنات مستمرة، تبدلت الأخوة والرحمة وضاعت صلة الرحم، لا يكاد يمر يوم بلا أزمة، لكن الطامة الكبرى أن حديث الناس الذي انتشر بين الجيران جعل خطيب منار لا يحتمل الكلام عن أخت خطيبته، وليس مضطراً للاستمرار في هذه العلاقة، فهذه ستكون خالة أبنائه، ولا يرضى لهم أن يوصموا بما يقال عنها، فاتخذ قراره القاطع السريع وفسخ الخطبة. كانت صدمة منار كبيرة، أصابها اليأس وحمّلت أختها مسؤولية فشل حياتها كلها، صرخت وبكت، ولكنها شعرت بأنه لا سبيل لإصلاح أختها التي دمرت حياتها، وها هي تقضي على البقية الباقية منها، وكعادتها لم تعد منى إلا بعد منتصف الليل، كانت الدنيا قد ضاقت على منار أضيق من ثقب الإبرة، لم يعد هناك مكان للعتاب ولا حتى مجال للتوبيخ، فانفجرت في أختها تعنفها على تصرفاتها وعواقبها التي أوصلتهما إلى هذا الانهيار، وأفسدت حتى الخطبة وقضت على كل أمل لهما في الحياة. تشابكت الأختان بالأيدي، ولم تكن تلك المرة الأولى لهما التي تتصارعان فيها، إنما اعتادتا على ذلك من قبل كثيراً، ما يصل الأمر إلى أن تجر إحداهما الأخرى من شعر رأسها وتعتدي بالضرب بأي شيء يقع في يدها أو يكون في متناولها، ولا تضع الحرب أوزارها بينهما إلا إذا انهكهما العراك وأقعدهما التعب والإجهاد، لكن العراك هذه المرة اتخذ شكلاً آخر، كان صراعاً بمعنى الكلمة، منار تحاول أن تخفف عمَّا بداخلها بعد المصائب التي تسببت لها فيها أختها، ومنى ما زالت رافضة الوصاية ومستمرة في تمردها، لا توجد أي نقطة للاتفاق، وحمي الوطيس وكل منهما تكيل الضربات في أي موضع بجسد الأخرى. مضى أكثر من ربع الساعة، سقطت منى على الأرض، فأمسكت منار بالوسادة ووضعتها على وجهها، ضغطت بشدة عليها، كتمت أنفاسها بعدما جثمت عليها بكل ثقلها، والأخرى تحاول المقاومة والتخلص من هذا الوضع، لكنها لم تستطع، توقفت أنفاسها وفارقت الحياة، تأكدت منار أن أختها ماتت، تنفست الصعداء واعتقدت أنها تخلصت من الكابوس الذي تعاني منه طوال حياتها، لكنها وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، فأختها قد تحولت إلى جثة هامدة ولا بد من الخروج الآمن من الموقف، أجرت اتصالاً بخالها وأخبرته بأنها استيقظت من النوم فوجدت أختها ميتة، لكنه شكك في تلك الرواية التي تبدو لأول وهلة أنها ساذجة. توالت الأحداث وتم اكتشاف الجريمة التي وقعت بالأيدي الناعمة، وظهرت تفاصيلها، وها هي منار قد اعترفت بكل ما حدث، قررت النيابة حبسها وتقديمها إلى المحاكمة، كانت تعتقد أن الظروف السابقة التي روتها كلها تبرر لها ارتكاب جريمة قتل أختها، أحيلت إلى المحاكمة، ليبدأ فصل جديد من حياتها، وجدت نفسها وراء قضبان ضيقة، وفي زنازين وظلام دامس، الوقت لا يمر، النهار طويل والليل أطول، لا شهية للطعام الذي لا يصلح أصلاً، الحياة كلها أصبحت سوداء بمعنى الكلمة. تم إيداع منار القفص في يوم جلسة المحاكمة، أعاد عليها القاضي السؤال التقليدي أنت متهمة بقتل أختك، فلم تحاول أن تنفي أو تتهرب من الجريمة، كررت اعترافاتها ومعها الظروف التي دفعتها للجريمة، فقام ممثل النيابة ليطالب بتوقيع أقصى العقوبة عليها لأنها ارتكبت الجريمة مع سبق الإصرار والترصد وانتظرت أختها وتربصت بها وسلكت سلوك المجرمين، وقال إن ما قالته لا يشفع لها بأنها كانت تحت ضغوط الظروف، فلا شيء يبرر القتل مهما كان، كانت تتلقى هذه الكلمات كأنها رصاصات في جسدها وهي التي تمني نفسها بمن يرحم ضعفها وظروفها القاسية التي ولدت ونشأت فيها وعانت منها بما لا يحتمله بشر، وقام محاميها ليترافع عنها فلم يخرج عن هذا الإطار، إذ أنه لم يجد لها في القانون ما يمكن أن يدافع به عنها، فالجريمة متكاملة الأركان والاعتراف وحده سيد الأدلة. رفعت الجلسة للمداولة، مرت حوالي نصف الساعة، كانت الأطول والأثقل في حياتها كلها، إن لم تكن الأكثر قسوة وصعوبة مما عانت في عمرها كله، عندما نادى الحاجب بصوته الجهوري “محكمة” إيذاناً بخروج القضاة للنطق بالحكم، توقف قلبها وتجمدت الدماء في عروقها وتعطل جهازها التنفسي، الموقف يستحق ذلك، فقد قضت المحكمة عليها بالإعدام، سقطت مغشياً عليها داخل القفص، حاولوا إفاقتها وبث الأمل في نفسها، فما زالت بقية باقية بالطعن على الحكم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©