الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أقنعة الموت

أقنعة الموت
21 ديسمبر 2016 19:35
صالحة عبيد تدون البيلاروسية الحائزة نوبل «سيفتلانا إليكسييفيتش» في كتابها «ليس للحرب وجه أنثوي» ما جاء على لسان ممرضة من الممرضات السوفييتيات في فترة الحرب العالمية الثانية، التي بدورها كانت تتحدث عن اللحظات الأخيرة من ملامح جرحى الحرب، لتقول: «كان بعضهم يموت بهدوء ودون صوت، وبعضهم الآخر كان يصرخ: «لا أريد أن أموت!» ويشتم أمك، أحدهم فجأة غنى أغنية مولدافية، يموت الإنسان، لكنه مع ذلك لا يظن ولا يصدق أنه يموت، وأنت ترين، كيف يأتي اللون الأصفر الغامق من تحت الشعر يتحرك كظل في البداية على الوجه، ومن ثم تحت الثياب، إنه يرقد ميتاً، وعلى وجهه دهشة غريبة، وكأنه يرقد ويفكر: هل أنا قد مت الآن، أمعقولٌ أنني قد مت؟!». من هنا، توقفت ملياً لأتأمل الدهشة الدائمة التي لا زال الموت قادراً على منحها للبشر، تساءلت عن المرة الأولى التي عايش فيها ذلك الإنسان الأزلي فكرة الفناء، ليبقى عاجزاً دائماً عن توقع ردة فعله أمامه، حتى لو أدرك أنه على وشك الحدوث، وكيف أنه لربما تساءل عن إمكانية أن يكون وقعهُ أخف لو كان لهُ وجهٌ ما، شكلٌ مادي محسوس، يستطيع من خلاله أن يلمسه، أن يتماهى مع مكونه، ليكون وقع المباغتة في كل مرة أخف فأخف، الوقع الذي يخلفه على أولئك الأحياء بالطبع، شعرت بتلك الممرضة لكأنها تصنع قناعاً من الكلمات لوجوه أولئك الموتى وملامحهم قبيل فاجعتهم الخاصة أو خلاصهم الوشيك، هذا القناع الذي كان في مواضع أخرى من التاريخ ليس مجرد وصف، بل عادة شائعة جداً، ازدهرت في الفترة ما بين القرن الخامس عشر الميلادي وحتى قرابة نهاية القرن السابع عشر الميلادي، حيث كانت طقوس الموت في أوروبا وما حولها، بالإضافة إلى روسيا وبعض أنحاء آسيا، تشمل نسخ قالب من الجص عن ملامح المتوفى، لكأنهم من خلال ذلك يلتقطون له صورةً فوتوغرافية كذكرى أخيرة، هذا بالإضافة إلى ارتباط هذه العادة، في معنى آخر، بدواعٍ بحثية لبعض العلوم كدراسة التشريح، تلك العادة التي خفتت فيما أعقب القرون الوسطى تلك، بقيت حيةً لتسطع من وقت لآخر حيث تُنسخ تلك الملامح الأخيرة لبعض الكتاب والفنانين والشخصيات السياسية كنابليون بونابارت وهاينرش هيملر وصاموئيل جاكسون وثيودور روزفلت وغيرهم. عمل فني أصيل يخصص كتاب «Death and Resurrection in Art» لكاتبه «إنريكو دي باسكال»، فصلاً كاملاً عن أقنعة الموت عبر التاريخ، كنوع أصيل من أنواع الفنون، مساوياً إياها بما تركه الإنسان التاريخي من أعمال فنية ونحتية تحاول أن تفسر الموت، بدءاً من نقوش جدران الكهوف القديمة وصولاً إلى ما لا زالت تقدمه بعض الفنون التعبيرية الثلاثية الأبعاد. في فصل أقنعة الموت يكتب «دي باسكال» أن المتخصصين في صب تلك الأقنعة هم في الحقيقة يمارسون هذا الطقس كجزء من مشاريعهم الفنية كالنحت والرسم وغيرها، وأن بعض أقنعة الموت المحفوظة في متاحف ومزارات متنوعة حول العالم، توضح اسم الفنان الذي قام بصب القناع إلى جانب اسم تلك الشخصية الشهيرة المتوفاة، لكأننا الآن هنا أمام منحوتة توجز عملاً فنياً متكاملاً كما هو الحال مع قناع موت الروائي الفرنسي «فيكتور هوجو» المحفوظ في متحف أورساي في العاصمة الفرنسية باريس، والذي يذكر إلى جانب اسم صاحب القناع «هوجو» اسماً آخر هو «Aimé-Jules Dalou» الذي يعد من أبرع النحاتين الذين عاصروا «فيكتور هوجو» منجزاً للكثير من المنحوتات الفنية المشار إليها كأيقونات فنية في فرنسا بشكل خاص وأوروبا عموماً، في ذلك القناع الأخير، يظهر «هوجو» كمن يحاول أن يكمل حكاية ما، يغمض عينيه مستذكراً الأحداث، ولكنها هنا هي تلك الإغماضة الأخيرة التي لن تسمح للمخيلة بأن تحمل الحكايات لتكتب على الملأ. كيف بدأ الأمر لعل قناع الفرعون الشاب «توت عنخ آمون» المذهَّب، بملامحه التي لا تعبر عن شيء صريح، كان أول فكرة مادية عن قناع الموت، على الرغم من اختلاف الدافع الكامن خلف ذلك القناع، ففي ذلك العهد، كانت الميثولوجيا الفرعونية تقدم صوراً كاملة في «كتاب الموتى» عن حياة تأتي بعد الموت، بدأها إله الموتى «أوزوريس» الذي بعد أن قتله شقيقه «ست» تعيده إلى الحياة زوجته إيزيس وينصب كحاكم على عالم الموتى، ومن هناك تبدأ حياة جديدة كاملة، جعل الموت يبدو كمجرد بوابة عبور إلا أنه يجب الاستعداد لها، بأجمل ما يكون، ليدفن ضمن تلك الطقوس «توت عنخ آموت» بعد تحنيط جسده مع قناع مذهب خاص صب بشكل الفرعون الشاب وهو في أكثر مراحله ازدهاراً، تماماً بالصورة التي سيبعث بها أمام «أوزوريس» حسب المعتقد. ملامحهم الأخيرة أعترف بأنني شهقت لدى إدراكي أنني كنت أقف أمام الملامح الأخيرة لأحدهم، مصبوبة في قناع كامل، بكامل تجليات الموت الثلاثية الأبعاد، كان الأمر مختلفاً تماماً عن فكرة أنك تشاهد صورة موثقة أو بورتريهاً شخصياً، الأمر هو أنك تشعر فعلاً أنك تراه في لحظته الأخيرة تلك، تاركاً لملامحه أن ترافق مخيلتك لتحاول أن تفسر لحظته الشعورية الدقيقة التي تتجلى أمامك. بيتهوفن.. السلام أخيراً كان أول تمثال أواجهه هو تمثال بيتهوفن في متحف بيت الموسيقى في العاصمة النمساوية فيينا، القناع الجبسي، أظهر بيتهوفن الذي رحل للتو في صورة مختلفة كلياً عن المنحوتات التي تظهره متجهماً في لحظة غضب تنسجم مع نقمته على عجزه المرتبط بالسمع، الغضب الذي يشبه موسيقاه التي لا تأتي هادئة إلا فيما ندر، ففي قناع موته، يظهر بيتهوفن بملامح مرتخية أخيراً، مستسلماً لما سيأتي، ولعلني أستطيع أن أتكهن بأنه لو أمهلت روحه بضع ثوان، لكانت قد كشفت عن ابتسامة أخيرة، فهل منحته الموسيقى السلام أخيراً؟.. أم أنه كان قد توصل ذهنياً إلى تلك السيمفونية المشتهاة، التي أراد من خلالها أن يعبر عن كل فورات جنونه ونزقه وغضبه ونقمته وسعادته أيضاً.. إن شيئاً في ذلك القناع على بساطته يجعلك تتوقف طويلاً لتحاول أن توجد في تلك اللحظة التاريخية لرحيل بيتهوفن. دانتي.. كم رحيلاً يملك؟ واجهتني نسختان عن الملامح الأخيرة لدانتي أليجيري صاحب الكوميديا الإلهية.. الأولى هي تلك التي شاهدتها في متحف ومنزل دانتي الإيطالي في مدينة فلورنسا الإيطالية، حيث يأتي ذلك القناع المصنوع من الجبس الغامق، مختزلاً لحظة دانتي الأخيرة فيما كان الآخر هو الذي علمت بوجوده لاحقاً في نفس المدينة في (Palazzo Vecchio) والمصنوع من المادة الجصية البيضاء المتعارف عليها في غالب أقنعة الموت، وفي حين بقيت النسخة الأولى مجهولة المكان حتى افتتاح متحف دانتي الإيطالي في عام 1994 م، كانت النسخة الثانية هي النسخة المتعارفة عالمياً بتنقلها من فنان إلى آخر وصولاً إلى مكانها الأخير عام 1911م، وهي النسخة التي لطالما تناولها دارسو الفنون كنموذج يجسد الشكل الأقرب لدانتي الإيطالي، على الرغم من المعلومة الأخيرة التي اكتشفت مؤخراً، وهي أن هذا القناع الأخير لم ينسخ عن وجه دانتي أليجيري فور وفاته، وإنما من جزء من منحوتة أخرى حاولت أن تستعرض ملامح دانتي الأخيرة، عموماً في القناعين، يظهر دانتي كما هو دائماً في كل ما نقل عنه من لوحات جسدته، حيث تلك اللحظة الغامرة من السكون، هو هنا، يغمض عينيه لكأنه يحاول أن يحتوي جحيم ألمه الخاص، مقطباً حاجبيه دون أن يتخلى عن وقاره المعهود، دانتي يشبه ملهاته في لحظته الأخيرة، بشكل ما، استطاع أن يجمع بين حدة ملامحه وصفاء ما تعبر عنه وعن الألم والاحتواء في ذات التقطيبة التي ذكرتها قبل قليل. لعلي، بعد هذين النموذجين من بين نماذج كثيرة تنتظر حول العالم، قد أخذت أستكشف شغفاً جديداً خاصاً بي، بمحاولة قراءة ما قد تشي به تلك اللحظات الأخيرة لأصحابها، بما يتماثل مع محاولة قراءة أي عمل فني خالص، لأن اللحظة الأخيرة قد تقول كل شيء عن البداية وعن ما بعد البداية وصولاً إلى ما قد ستشعله المخيلة الإنسانية التي حاولت ولا زالت تحاول جاهدة أن تقتنص الموت بعد الرحيل الأخير لأصحاب أولئك الملامح المحفوظة.. فهل نجح شخص ما من بين كل تلك الوجوه، بأن يقتنص وجه الموت الفعلي؟ سلام الموسيقى القناع الجبسي يظهر بيتهوفن بملامح مرتخية ومستسلماً في صورة مختلفة كليا عن المنحوتات التي تظهره متجهما وناقماً وغاضباً بسبب فقدانه السمع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©