الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رمضان.. صيانة دورية للروح

رمضان.. صيانة دورية للروح
10 يوليو 2013 23:55
يأتي حاملاً ضحكات الزمان الجميل وفرح الطفولة المضاءة بأنوار الفوانيس الملونة... يأتي بيدين حانيتين تحملان سلال المعاني ملأى بجَنى الروح لينقذها من وحشة المادي إلى أنس الروحي... يأتي من حجب الزمان ليأخذنا في كل مرة إلى أناشيدنا العتيقة التي تركناها على الدروب تقارع نسياناً هائلاً، نسياناً من ذلك الطراز الرهيب الذي يمكنه أن يبتلع حقباً وأزمنة بكاملها من دون أن يرف له جفن.. يأتي ليوقظ مشاعرنا الأولى التي نبتت في أصص الليالي وهي ترقب هلالاً يهلّ علينا بالخير والرحمة... يأتي رمضان، ببركاته وسحره العجيب ومسحراتيه الذين يدقون على القلب بكل ما في أصواتهم من قوة، ليوقظوا النائمين بـ»يا نايم وحد الدايم» و»قوموا على سحوركم.. إجا رمضان يزوركم»... ويطردوا ما تبقى من النعاس على الشبابيك والأبواب والعيون الغارقة في الوسن والعراك الخفي بين رغبة النوم ورغبة التمتع بأجواء السَّحَر الجميلة... ولم نكن نصحو وحدنا، بل تصحو معنا التهاليل والعصافير لتنضم إلى لوحة الفجر المندى بالغموض الضبابي الساحر، لوحة لا يمكن للقلب أن ينساها أو يتخلص من سطوتها، كما لو أنها غيث مباغت أو حب يجتاحك على حين غفلة فلا يترك فيك مكاناً سالماً من الهوى. يأتي رمضان بفتنة الذكرى مصفّاة تماماً، أعدها لنا خصيصاً ليعيدنا إلى حكايا الجدات التي يولد بطلها ويكبر ويتزوج ويموت في ليلة واحدة... يحضر لنا دهشة وضَّبها على مهل، دهشة تسافر في سحر الحكايات، وما أجمل أن يتغلب الشاطر حسن على الغولة، وينقذ «ست الحسن والجمال» من براثنها ويتزوجها ليعيشا في «ثبات ونبات» ويخلِّفا «صبياناً وبنات»، فـ»ابن الخروفة بِكْبَر بْساعة» على حد قول الجدَّة، فيما نحن مأخوذين بالحدوثة وعالمها الخرافي الذي ينسج في أرواحنا جمالات لا يحدها حدّ... جمالات ما تزال إلى الآن طرية نضرة، نغترف منها ما يندّي أيامنا ويبل جفاف أرواحنا العطشى إلى السكينة. لكن الصوم، في العمق، ليس طقوساً ولا كرنفالات ذاكروية ولا احتفالات مهما بلغت من جمال.. بل هو صيانة روحية يمارسها المسلم شهراً في كل عام، وإن كان المتقون والمؤمنون يمارسونها جزئياً خلال أيام السنة كلها.. لكنها في رمضان تأخذ شكل حملة صيانة شاملة، تنظف الأرواح، تطهرها، تسمو بها، ترتقي، تحلق، تعلو عالياً عالياً في أمداء يصعب أحياناً على من خبرها أن يصفها... ثمة في رمضان فرح داخلي، فرح سرّاني، جوّاني، يكمن هناك، في تلك الممارسة الجديدة، والمجاهدة التي تقارع بها الروح مألوفيات العادي، واليومي، وتذهب إلى اختبار عميق، يعلي من شأن الروحي أو السماوي في الكائن، ويرتفع به عن البشري والطيني... فعل الصوم، في تقديري، فعل سياسة و حرية لكن من نوع مختلف؛ سياسة مناطها أن يسوس المرء نفسه أو يقودها إلى التحرر من سلوكياته الرغبوية وينفتح على ذاته العليا، يصادقها، يتوحد بها، يلتحم معها في طقس نفسي وروحي لا يعرف فرحه إلا من ذاقه.. وذلك مستوى آخر من الحرية، من مكابداتها وتمثلاتها بمعنى أكثر دقة.. طوق نجاة لقد كتب الشعراء رمضان على كل بحر من بحور الشعر، وتأنقوا في استخدام المفردات التي تعبر عن الصفاء والسمو الروحي والارتقاء في مدارج التقوى والتقرب إلى الله... ولم يتركوا شعيرة ولا شادرة ولا واردة من فضائل رمضان من دون أن ينزلوها المنزلة العليا في قصائدهم... ورغم التباينات الواضحة بين الشعراء الذين تطرقوا إلى شهر رمضان المبارك في قصائدهم، ورغم أن الكثير من قصائد القدامى تنتسب إلى النظم لا الشعر، يظل من الصحيح القول إن في الشعر الذي اتخذ رمضان مادة للتعبير غير قليل من العمق الدلالي والجماليات الفنية سواء على صعيد اللغة المستخدمة في القصائد أو التراكيب الفنية أو الصور والتشابيه والبلاغة وحسن التخلص وجمال السبك ومتانة البناء وغير ذلك مما يصب في جمال الشعر وسمات الإبداع الأدبي. ربما نعثر على بعض تلك المعاني التي تجسد مفهوم الصوم الحقيقي مجسدة في ثوب فني جمالي، يتزاوج فيه عمق المعنى وكثافة الدلالة مع جمال الصورة وألقها لدى الشاعر محمد التهامي، يقول: الصوْمُ للحيران طوْقُ نجاةِ وطريقهُ الهادي إلى الجنَّاتِ وعليه معراجُ اليقين إلى الهدى يمتدُّ فوق مهالِك الشهواتِ ويُطَهرُ الإنسان حتى إنه روحٌ يكادُ يُضيءُ في الظلماتِ ويرى على نور الحقيقة عالمًا مُتألقَ الأعماق والجنباتِ فيه الحياة تراجعت أدرانها وتطهرت من حمأةِ النزواتِ وغدتْ كدار الخلد طيبَ ريحُها نفسُ الملائِكِ طافَ بالرَّحماتِ وهذا الشاعر عبد المجبد فرغلي يصور الحال التي يستقبل بها المؤمنون شهر الصيام منذ أن يهلّ هلاله، وبدءاً من عنوان القصيدة «فِيْ مَوْكِبِ هِلَالٍ الْصَّوْمِ» نستشعر احتشاد الفرح الذي تحيل إليه كلمة «موكب» لتنجلي بعد ذلك جماليات القصيدة تبوح بما اجترحه الشاعر من صور وتشبيهات تضع الموجودات كلها: البشر والطبيعة والكون في هذا الموكب الاحتفائي: مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فِيْ أَبْهَي مُرَائِيْهُ هَذَا هِلَالُكَ قَدْ أَبْدَاهُ مُبْدِيْهِ أَحْبِبْ بِمَنْظَرِهِ فِيْ سِحْرِ مَوْكِبِهِ مِنَ حَوْلَهُ الْخَلْقِ مَبْهُوْرَا يُحْيِيْهِ فِيْ كُلِّ عَامٍ يُرِيَنَا حُسْنِ طَلْعَتِهِ شَهْرُ عَظِيْمٍ كَرِيْمٍ فِيْ تَجَلِّيْهِ كَمْ هَلّلَ الْكَوْنِ مُشْتَاقَا لِرُؤْيَتِهِ فِيْ مَوْكِبِ رَائِعُ مِنْ حَوْلِ مُفْتِيهِ اهْلِ بِالْيَمَنِ وَالْإِشْرَاقِ بِسَمْتِهِ تُحْيِ الْمَنِيَّ وَبُرُوقٌ الْطُّهْرِ تُزَجِّيهِ كَأَنَّهُ زَوْرَقِ الْأَحْلَامِ فِيْ يَدِهِ مِجْدَافٍ يَمُنُّ مَلِيْكٍ الْخَلْقِ يُرْسِيْهُ نَعَمْ الْهِلَالَ تَسَامِيْ الْعَاشِقُوْنَ لَهُ فِيْ كُلِّ مَشْرِقٍ وُجِّهَ مِنْ أَمَانِيْهِ تَاقَ الْأَنَامِ إِلَيْهِ فِيْ تَطَلُّعُهُمْ كَأَنَّهُ أَمَلْ يَبْغِيْهِ رَائِيّهِ ثم ينتقل الشاعر الى وصف مشاعره الذاتية تجاه الهلال، أي رمضان، لنقع على فيض نوراني يغمر روحه ويحاول أن يعبر عنه بالعبارة: أَبْصَرْتُهُ فِيْ سَمَاءْ الْكَوْنِ يَغْمُرُنِيْ بِفَيْضِ إِشْرَاقَهَ يُجْرِيْهِ حَادِيْهِ فَخِلْتُهُ مُلْكَا يَرْعَيَ رَعِيَّتِهِ. مِنْ قُبَّةِ الْأُفَقَ يُوَلِّيَهَا بِتَوْجِيْهٍ وَحَوْلَهُ أَنْجُمُ الأَفَاقٍ سَابِحَةٍ فِيْ بَحْرٍ أَحْلَامِهَا أَمْسَتْ تُنَاجِيْهِ أمير الشهور شهر فضيل، مبارك، كريم، ضيف مرغوب به، محزون على فراقه، يأتي في ضيافة سنوية موعدها شهر واحد فقط. هكذا بدا أمير الشهور في قصائد الشعراء العرب الذين احتفوا بالشهر على مر الأزمان وعلى كل الأوزان والبحور، ليجسدوا كرمه، ويحصوا هداياه النفيسة التي لا تشبهها هدايا الدنيا في شيء.. هدايا من رحمة ومغفرة وتوبة وقرب ووصل وعتق من النار، وفي هذا المعنى يقول ابن دارج القسطلي: فكم شافع في ظلك الصوم بالتّقى وكم واصل في أمنك الليل بالذكر وكم ساجد لله منا وراكع يبيت على شفع ويغدو على وتر ومن الشعراء الذين احتفوا برمضان ومعانيه الشاعر السعودي محمد حسن فقي الذي نسج له قصائد متعددة، ومما يقوله: رمضان.. في قلبي هماهم نشوة من قبل رؤية وجهك الوضّاءِ وعلى فمي طعمٌ أحسّ بأنه من طعم تلك الجنة الخضراء قالوا: بأنك قادمٌ فتهلّلت بالبشر أوجهنا وبالخيلاء لِم لا نتيه مع الهيام ونزدهي بجلال أيامٍ ووحي سماءِ! ومن المستبشرين الفرحين بالشهر الشاعر أحمد سالم باعطب الذي يأخذنا في حالة جمالية تتجلى فيها المشاعر الصادقة: غداً يهِلُّ علينا البشْرُ والظَّفَرُ ويحتفي الحجْرُ بالصُّوَّام والحجَرُ غداً يهلُّ هِلالُ الصَّوم مؤتلقاً في موكبٍ مشرقٍ والليلُ يعتكر رَنَتْ إليه قلوبٌ في قرارتها لحبِّه سكَنٌ حلوُ الرُّؤى نَضِرُ والشهر عنده ضيف عزيز كريم، يصفه بأجمل الصفات (ضيفاً عزيزاً بنور الله يأتزر)، ويؤنسنه ويخاطبه كما لو أنه بشر من لحم ودم، وله راحتين (يضيء في راحَتيْهِ الشمسُ والقمرُ)، ويحزن بل يتفتت حزناً لفراقه ويعتريه ما يعتري العاشق إذا فارق معشوقه: تلجلجتْ مهجتي بين الضلوع فما مثلي على صفعات الذنب يقتدر ما جئتُ أسفَحُ يا رمضانُ أدعيَتي بل جئتُ مما جنَتْ كفَّاي أعتذرُ صحائفي في سجلِّ الخيْرِ عاريةٌ من الجمالِ وثوبي مسَّهُ الكِبَرُ لكنه رمضان، شهر الرحمة، الذي يشاهد ما نرتكبه من الآثام والمعاصي والذنوب فلا يلوي عنا وجهه بل يفتح لنا سبيلاً إلى الرحمة والغفران.. إنه ذو قلب كبير يأمل لكل البشر أن يرحمهم الله: وما ثنى عطفَه بلْ قال محتسباً يا رب يا ربُّ رُحْمى إنهم بشَرُ وها هي الشاعرة العراقية باكزه أمين خاكي تحتفي بالهناء الذي غمر الدنيا بسبب حلول الشهر الفضيل، رغم أنها لا تنسى الأحزان التي تملأ الأرض لكن الشهر بالنسبة إليها يكفي ليكون سبباً للأمل: انشدى أيتها الورقُ ففي الدنيا هناء واسمعيني أي لحنٍ إنه عندي سواء لا تبالى أن يكن في الأرض نوحٌ وبكاء ليلة القرآن هذي إن لي فيها رجاء ويشير الشاعر محمود حسن إسماعيل إلى كون الضيف الجميل مختلفاً عن كل الضيوف، لم يأت ليأكل أو يشرب أو يطلب حاجة بل جاء معلماً، مرشداً، هادياً، واهباً البهجة والعطايا لكل الناس وهوضيف لا تحصره أرض ولايحده حد: تخيم لا يحد حماك ركن فكل الأرض مهـد للخيام نسخت شعائر الضيفان لما قنعت من الضيافة بالمقام ورحت تسد للأجواد شرعا من الإحسان علوي النظام بأن الجود حرمان وزهد أعز من الشراب أو الطعام وفي حركة مشابهة يلتقط الشاعر الجزائري صورة فنية تجسد مشهد الصائمين المترقبين صوت المؤذن، المنتظرين في خشوع ورهبة وكأن أرواحهم معلقة في ندائه... هي إشارة الى التغيير الذي يمارسه رمضان في حياتنا اليومية وعلاقتنا بالوقت والأعمال التي نمارسها عادة بتلقائية، وتحجبنا عن التبصر فيما تنطوي عليه المألوفية والعادة: جعلت الناس في وقت المغيب عبيد ندائك العاتي الرهيب كما ارتقبوا الأذان كأن جرحا يعذبهم، تلفَّت للطبيب وأتلعت الرقاب بهم فلاحوا كركبان على بلد غريب عتاة الأنس أنت نسخت منهم تذلل أوجه وضنى جنوب فاتحة المديح يظهر رمضان في قصائد كثيرة مجرد سبب للفخر بنصر حدث أو مدح خليفة، واستخدم غير مرة على سبيل تشبيه الممدوح في كرمه بالشهر الفضيل الذي اشتهر بأنه شهر كريم... أو بأن له مكانة عالية، وأنه ينماز عن الناس كما ينماز رمضان بحسنه عن الأشهر. وفي هذا المعنى قال أحد الشعراء: نلت في ذات الصيام ما ترتجيه ووقاك الله له ما تتقيه أنت في الناس مثل رمضان في الأشهر أو مثل ليلة البدر فيه ويقول عماد الدين الأصبهاني مادحاً فتح بعلبك: بفتوح عصرك يفخر الإسلام وبنور نصرك تشرق الأيام وبفتح قلعة بعلبك تهذبت هذي الممالك واستقام الشام وبكى الحسود دما وثغر الثغر من فرح بنصرك للهدى بسام فتح تسنى في الصيام كأننا شكرا لما منح الإله صيام من ذا رأى في الصوم عيد سعادة حلت لنا والفطر فيه حرام باليمن هذا الشهر مشهور كما قد عم بالبركات هذا العام لكن في قصائد المديح هذه لا نعدم جمالاً فنياً يتناثر هنا وهناك على جسد القصيدة، متمثلاً في ممارسة بلاغية أو نهاية موفقة أو صورة شعرية تقيم في مخيلة مختلفة قليلاً، من ذلك هذه الصورة الفنية التي جعلت للثغر (المكان الذي يدافع فيها المسلمون عن دولتهم) ثغراً أي فماً حلواً مبتسماً بالهدى، وما كان للثغر الذي يحيل الى الحرب والقسوة والعبوس أن يكون متبسماً لولا الفتح، ولم يكن الفتح إلا بركة من بركات رمضان، حيث تستعيد القصيدة المعنى المعروف عن يمن الشهر الفضيل الذي يأتي بالخير. فيما تبقى من القصيدة يقصد الشاعر سوق الرجاء ويدعو الخليفة إلى تحقيق فتح جديد، فتح بحصوله تكتمل الفتوحات ويعز الإسلام.. في هذه القصيدة لا تغادر لفظة الفتح معناها الدلالي، مع أن المناسبة كانت سانحة لاستثمارها جمالياً على نحو خلاق، باستحضار الفتوحات الروحية التي تثري النص وتضفي عليه المزيد من الألق. وقال البحتري في مديح الخليفة المعتصم: بالبر صمت وأنت أفضل صائم وبسنة الله الرضية تفطر وأحياناً يكون الشهر أو هلاله هو الممدوح، فيسبغ عليه الشاعر ضوءاً شعرياً يظهر ما يستتر فيه من معانٍ تحمل الخير للبشرية، وما يخفي من آمال أو هبات ينتظرها الناس. جماليات فنية لقد جاءت الصورة الشعرية التي وظفها الشعراء في القصيدة الرمضانية على وجوه شتى، واشتملت على جماليات البيان من تشابيه واستعارات وكنايات، وجنحت حيناً إلى الرسم التصويري الذي يجسد الحالة الروحية والنفسية للشاعر تجاه الشهر، وهو ما نقع عليه عند الشاعر محمد بن علي السنوسي الذي يخاطب رمضان بوصفه وسيلة لتحرير النفوس من أسر الظلام وإنارتها.. ويرسم مشهداً فنياً تحلق فيه الارواح إلى الصفاء لتطوف كما أسراب الحمام: رمضانُ يا شهر الضياءِ الحرِّ من أسر الظلامْ أَطلقْ بأضواء الهدى أَسْرَ النفوس من الحطامْ وأَنِرْ بقدسيِّ الصفاءِ رؤى الحياة من القتامْ يا شهرُ بل يا نهرُ ينهلُ من عذوبتهِ الأنامْ طافتْ بك الأرواحُ سابحةً كأسراب الحمامْ بِيضٌ يجلّلها التقى نوراً ويصقلها الصيامْ رفافةٌ كشذى الزهورِ نقيةٌ كندى الغمامْ ويسميه الشاعر محمود بن سعود الحليبي «سيد الأزمان» مرحباً بعودته فاتحاً القصيدة على مطارح فنية مفاجئة: أقبلتَ فانتفضتْ صحاري وحشتي وشدا لغيثكَ خافقي ولساني انشر ضياءكَ يا أميرَ شهورنا وامسحْ بجودِكَ عتمةَ العصيانِ ينساب جودُكَ في حقول شُعُورِنا فنظلُّ نرفلُ في هُدىً وأمانِ يا سيدَ الأزمان خذها قُبلةً صعدتْ إليكَ على ذُرى وُجداني لكن الشعراء ذهبوا أيضاً الى الوصف الخارجي مستحضرين قرائن ترتبط بالشهر وأشهرها الهلال الذي كان له نصيب من الوصف والتشبيه الجميل كما في هذه الأبيان للقاضي أبو الحسن ابن النبيه: حبذا في الصيام مئذنة الجامع والليل مسبل إزباله خلتها والفانوس إذا رفعته ْصائدًا واقفًا لصيد الغزالةْ حتماً ليست صورة مألوفة شعرياً بين المئذنة والفانوس، وفيها جدّة واضحة لا تقتصر على جمال الصورة بل أيضاً على العلاقة الجديدة التي يقيمها الشاعر بين طرفي الصورة الشعرية. ولعل في هذه الصورة الفنية المصاغة بعناية من ابن حمديس الصقلي ـ عبد الجبار بن أبي بكر ـ لتصف هلال رمضان ما يدلّ على التمكن والحرفنة التي جعلته يشبه الهلال بحرف الراء الذي هو أول حرف من اسم رمضان، ويقطف في بيتين فقط هذه القطفة الرائقة: قلتُ والناس يرقبون هلالاً يشبه الصّبّ من نحافة جسمهْ من يكن صائما فذا رمضانٌ خطّ بالنور للورى أول اسمهْ ومن أكثر ما يميز القصائد الرمضانية صدق العاطفة، وتوهجها، وجنوحها إلى استلهام النص القرآني والحديث النبوي، فضلاً عن حرصها على تبيان فضائل الشهر والمعنى الروحي الكامن وراء الصوم، بحيث تبدو القصائد في كليتها صورة لرمضان وعباداته وطقوسه وفضائله ودعوة الى التمسك بمكارم الأخلاق ومحاسن السلوك والأقوال والأفعال. ومن الأمثلة على توظيف النص القرآني والحديث النبوي، في تبيان فضائل الشهر الكريم وبركته وهداه.. يطالب أحد الشعراء المسلم، بعد الطاعات المعتادة من صيام وقيام وتلاوة أن لا ينام (إلا كنومة حائر ولهان) خوفاً من دنو الأجل، ولتجميل هذا الفعل بالنسبة إليه يوظف الحديث النبوي (عينان لا تمسهما النار؛ عين باتت تحرس في سبيل الله وعين باتت تبكي من خشية الله): أدِم الصيام مع القيام تعبداً فكلاهما عملان مقبولان قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان فلربما تأتي المنية بغتة فتساق من فرس إلى أكفان يا حبذا عينان في غسق الدجى من خشية الرحمن باكيتان ومثل هذا التوظيف والاستدلال والاستثمار للنص القرآني والحديث النبوي كثير في قماشة الشعر العربي. لا صوم فيه رغم كل ما سبق، فإن للشعراء مع رمضان ذاكرتين مختلفتين، لا سيما في العصرين الأموي والعباسي، فصورة الشهر الفضيل لم تكن دائماً مضيئة على النحو الذي تقدم، بل ربما أساء بعضهم وأعلن صراحة كراهيته للشهر والصوم الذي يحول بينه وبين لذائذه الدنيوية.. وقالوا الكثير مما لا نرغب في إيراده كي لا نعكر صفو الصائمين.. أما في العصور المتأخرة بما في ذلك الوقت الراهن فلا نكاد نعثر على شيء مثل هذا في نصوص الشعراء.. بل تذهب كلها الى الاحتفاء بالشهر وتبيان فضائله وكرمه، وتستذكره بحنين واضح. بيد أن رمضان هذه الأيام لم يعد مثل رمضان في الأيام الخوالي بل يتزامن مع راهن بائس يكاد يتحول فيه إلى «مناسبة» يسلك فيها الناس والفضائيات بشكل ولائمي يدمي القلب في بعض الاحيان.. ونجد صدى لهذا البحث عن حقيقة الصيام في وقت مبكر، فهذا الشاعر إبراهيم بن قيس الذي عاش في العصر الأموي يقول: كم مسجد أضحى خراباً بعد ما قد كان معموراً بذكر الذاكر أين التراويح التي قد سنَّها ليث الورى الفاروق صنو الطاهر ما بال شهر الصوم لا صوم به ما بال تحليل السلاف الخامر وهي حقيقة يقف عليها أيضاً الشاعر محمد بن علي السنوسي الذي يدين ممارسات بعض الصائمين وسوء فهم المعنى المراد من الصوم، وقصره على امتناع عن الطعام والشراب فيما الألسنة منفلتة من عقالها تخوض كما تهوى في الأعراض، و يسعى لتبيان ما طرأ على الشهر من تشويه محاولاً استعادة المعنى الحقيقي للشهر الفضيل وحث المسلمين على صيامه كما ينبغي. رمضانُ رُبَّ فمٍ تمنَّعَ عن شراب أو طعامْ ظنّ الصيامَ عن الغذاء هو الحقيقةُ في الصيامْ وهوى على الأعراض ينهشها ويقطعُ كالحسامْ يا ليتهُ إذا صامَ صامَ عن النمائم والحرامْ واستاكَ إذ يستاكُ من كذبٍ وزورٍ واجْترامْ وعن القيامِ لو أنه فيما يحاوله استقامْ ولعل أبرز ما يحضر في القصائد المعاصرة التي تستلهم رمضان وأجواءه تلك النبرة الشاكية التي تبث الشهر حزنها على الأمة وحالها التي لا تسرّ. ها هنا - مثلاً - يخاطب الشاعر عبد المجيد فرغلي الهلال باثاً إياه ما يعتمل في روحه من حزن على ما آل إليه حال المسلمين، وما يتأجج بينهم من الصراعات، كذا حال الإنسانية كلها التي تعاني حروباً بالجملة، على الأرض وفي الفضاء، وقد تاه دليلها وحار عقلها: رَايَتَهُ الْيَوْمَ يَرْنُوَ فِيْ تَامَّلَهُ كَمَنْ بِجَنْبَيْهِ سِرَّ هُمْ يُفْضِيهِ فَقُلْتُ أَفْصَحُ هِلَالٍ الْصَّوْمَ عَنْ خَبَرِ أَأَنْتَ فِيْ حَيْرَةِ أُمِّ أَنْتَ فِيْ تِيْهِ؟ حَرْبٍ مِدَمَّرة تَجْتَاحُ عَالَمِنَا (بَيْنَ الْكَوَاكِبُ) بِالافَاقٍ تُرْدِيْهِ لَمْ نَدْرِ كَيْفَ نُرَدُّ الْعَابِثِيْنَ بِهَا وَكَيْفَ يُرْجِعُهُمْ لِلْعَقْلِ وَاعِيَهْ وإذ يعلن الشاعر محمد فاضل أن القلوب تستقبل رمضان وهي مكلومة، يقف بين يديه عارضاً حال البشرية التي غرقت في حمأة الذنوب، نافثاً عاطفة صادقة تمور بها النفس ويشقى بها الوجدان.. ويعبر عن رؤية مفزعة لأحوال البشرية التي تشهد ما يسميه عولمة للخطيئة بسبب التردي الأخلاقي والانحدار الإنساني، مما يجعله يبحث عن بصيص فرح في القصيدة فلا يجد، فيقرر أن القصائد حتى القصائد في عصر كهذا تلد سفاحا: رمضان يترى والقلوب كليمة والمسلمون كما ترى أشباحا يُتخطفون ولا بصير ينير في قدد الطرائق لاحباً وضاحا رمضان أقبل كم وددت قصيدة شعواء فيه أعْلِها أفراحا لكنه زمن النعيب، كما ترى جعل القصيدة مأتماً ونواحا في عصر عولمة الخطيئة كل ما تلد القصائد قد يكون سفاحا!! وبعد... ها هو رمضان قد أقبل ناشراً بساط المغفرة، فاتحاً باب التوبة على مصراعيه ينادينا لنلِجَ إليه، ونحصد خيراته الوفيرة، فهل نستعيد فيه ذواتنا وأنفسنا، ونكنس عن أرواحنا ما علاها من الأسى، ونزيل ما تجمع على القلوب من الصدأ؟ هل نعيد النظر في سلوكنا وتصرفاتنا وأفعالنا فنفتح باباً على التسامح، والعفو، والإحسان، ونكف عن الغدر والخيانة والنميمة والغيبة، وننفض عنا أوزارنا ما صغر منها وما كبر، وندعو بالخير لكل الناس ونتخلق بخلق الإيمان والإسلام؟ هل نجعل من رمضان شهراً لعودة الروح والوعي إلى كل ما يجب علينا أن نكترث به ونهتم بشأنه من أمور الدين والدنيا؟ وهل يكون في درس رمضان علاج لأدواء هذه الأمة التي سقطت في فرقة مريعة، وصارت مزقاً وطوائف يقاتل بعضها بعضاً؟ هل تنجح سياسة النفوس في إصلاح ما أفسدته سياسة الشعوب؟ أبيات التهاني.. مديح كثير وشعر قليل حملت كتب التراث وبطونها الكثير من المقطوعات الصغيرة التي لا تتجاوز البيتين والثلاثة، وعرفت تلك القصائد القصيرة في الأدب العربي بالتهاني، وهي تقال عادة في المناسبات المختلفة ومنها رمضان، ويغلب عليها المباشرة والنظم إلا فيما ندر.. ومنها التهاني بقدوم رمضان التي كان الشاعر فيها يمدح الخليفة أو السلطان مهنئاً إياه بقدوم الشهر الفضيل، أو ربما وجه التهنئة الى صديق أو خلّ احتفاء بالشهر وفرحاً بما يحمله من الخير والبركات للعباد. من ذلك أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) جمع المصلين لأول مرة في صلاة التراويح خلف إمام واحد في السنة الثانية من خلافته، فقال أحد الشعراء: جاء الصيام فجاء الخير أجمعه ترتيل ذكر وتحميد وتسبيح فالنفس تدأب في قول وفي عمل صوم النهار وبالليل التراويح ومنها ما جاء على لسان ابن نباتة المصري: تهنّ بشهر الصوم يا خيرَ صاحبٍ صحبنا به الأيامَ واجبة الشكر وعش ذا زمانٍ كله من تنسك ومن كرمٍ مستقبل الصوم والفطر مناقب شاعت في الورى علوية فكلهم فيها يشيع من عذر ومما قاله هبة الله بن الرشيد مهنئاً جعفر بن سناء الملك بقدوم شهر رمضان: تَهَنَّ بهذا الصوم يا خير صائر إلى كل ما يهوى ويا خير صائم ومن صام عن كل الفواحش عمره فأهون شيءٍ هجره للمطاعم ويذهب تميم بن المعز لدين الله في تهنئته الخليفة العزيز بالله بقدوم الشهر إلى مبالغة شعرية تساوي بين حبه وحب شهر رمضان معتبراً أن كلاهما فرض، حب رمضان فرض مؤكد مفروض من الله، وحب الخليفة مفروض بحق وليس وهماً: ليهنئك أن الصوم فرض مؤكد من الله مفروض على كل مسلم وأنك مفروض المحبة مثله علينا بحق قلت لا بالتوهم
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©