الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خيام.. كقُبلة على شفةِ الطريق

خيام.. كقُبلة على شفةِ الطريق
10 يوليو 2013 23:56
تلك الصحون، كطيور تحلِّق بأجنحة الصغار، تحدق في الأزقة الصائمة القائمة على وتد حلم الإفطار، وانتهاء عقد النهار.. تلك هي ألفة المكان وزحاف الليل والنهار، واحتفاء الناس الطيبين بطبق يتلو طبقاً، والتلاوة، في الهيام المسائي حين تغدو الشمس قرصاً يستدير حول لهفة القابضين على حصاة الصبر، المستلهمين بالأمر، الذاهبين في دياجير اللظى يسألون عن رشفة تبلل لسان التشظي، وتشفي عطشاً. كان ذاك وقت يخبئ في معطفه أشجاناً وألحاناً، وتغاريد صغار، وقفوا على العتبات، يجدلون خيوط الشمس أملاً في مغيب يحسو من قدح الأذان، لمضة الانتشاء، وومضة الاشتهاء، وغمضة لأجل غفوة بعد امتلاء.. كان ذلك، عصر يحث الخُطى نحو غايات الفرح، ويفرج أسارير ما انقبضت إلا لأجل اتساع في الحدقة، وارتفاع في قرص الشمس.. كان ذلك زمناً حالماً بالجمع الطيب، وألفة الطيور حين تفترش الأرض، بساطها وتطوق الأكتاف جزيرة الطعام.. الماء.. الماء، نداء الوهلة الأولى، اللحظة اللذيذة، والسماء تمطر ضوءاً خفياً يتسلل من تحت غشاء شفيف، والماء وحده، يغسل العطشى وينظف قارعة التشظي، ويقطع دابر الشوق المحيق.. لهفة الماء الماء وحده، كان بعد اللهفة رشفة وبعد الرشفة شهيق يزلزل جبال الروح، ويخفي آثار عدوان نهاري متغطرس.. الماء وحده كان يفرك جفون الصغار يدفعهم لالتقاط القطرات بعد الفجر سهواً.. أو ربما لا لكنهم كانوا ينهضون مترفين بآمال البلل الأخير قبل أن تفتح الأمهات عيونهن وقبل أن تستيقظ الشمس.. الماء كان عند الظهر في منتصف اللظى، يخرج من قناني الماء كأنه الأكسير، كأنه حبل النجاة، تعانيه العيون بشغف ولهف وكلف، تهفو إليه بغيرة الجسد واندفاع الروح نحو البلل.. الصغار ينسون أو يتناسون يغبطون أنفسهم وأهليهم بالزلة، فيهتفون بالوعي الغائب ويلعنون الشيطان المتربص ويستغفرون ثم يعودون لإكمال فصول الرواية بخشوع وخنوع. الصغار وبعضهم.. من يتسلل ويتعلل، بعارض وبتمارض فتخشع لهم القلوب الخضراء، فيدعون لإحراق الجوع، بكسرة خبز نامت في الوعاء الليلي.. يدعون لمحاربة الموت جوعاً.. والشفاه الصغيرة، كانت نجمة الفرح ترقص طرباً، والعيون تشع ببريق النشوة العارمة. الصغار كانوا يمجدون الشهر بمشاعر، أشف من سحابة النهار القائض أخف من أجنحة الطير، وأطرف من مغازلة ذكور الحمام لإناثها.. وحفل الزفاف، تعلو تغاريده، عندما تتلون الموائد بالبسملة والحمد له، وتزخرف بأنفاس اللهفة، وتزدهر بالشغف والطفولي، وابتسامات أعرض من شفاه الموج.. وأنصع من قطنة البحر الغانجة.. الصغار يصدرون فرحهم العفوي لإرجاء الكبار يغبطونهم يملأون بساتين الصدور بقدرة إلهية، لا تصنعها إلا العبقرية.. الصغار يسربون الفرح، كالهواء في شقوق الأنفس، ولا يغلقون النوافذ حتى تنهرهم العيون الحانقة بعد ضيق.. والخيام في الصيام، لون من ألوان الهيام، وخيط يحيك سعفات القلوب لأجل دفء ولأجل ولادة جديدة تعيد نسل الأنصال الصقيلة.. الخيام في الصيام، حفل زفاف بهيج واعتناق من لظى شفَّ وكلفَّ وجفف، وأتلف، هي عيد ومواعيد، ورمث يظلل، ويكلل، ويدلل، ويبلل، ويجلل، ويجلجل، ويزنجل، ويسدل ستار النهار لتفتتح الأقمار حقل ازدهارها، وأثمارها، وأعمارها، وازدهارها، وأشجارها، وأطوارها، وسوارها، وحوارها. الخيام في الصيام، سقوف تشقشق بمصابيح القلوب، وتزدهر بضحكات تدوي كأنها قبلات الموجة للساحل، كأنها البروق المستفيقة عن بشائر المطر، كأنها العذوق المستنهضة عن اصفرار الرطب، كأنها القطرات الناقرة على صهوة التراب، كأنها القبلاتِ الشفيفة على خد وقد وشفة.. الخيام في الصيام، الوعد والسعد، والبشرى لقيامة جديدة تسرد قصة الخلق، وما غفى وطغى، واستطرد في البث والحث والنث، واختزال الزمن بلحظة دامعة لامعة، جامعة، مانعة رائعة مخضرة بعشب الذاكرة، والناس طيور في المشهد، تستعيد التحليق كلما خضت الريح الأغصان، وتوعكت الأعشاش أو تفرقت مفاصلها.. الخيام في الصيام، اللوعة اللذيذة، الورطة الأجمل والبوح الأنبل، والخصب المؤثث بمشاعر، أبعد من الكلمات وأكثر اتساعاً من عبارة شارحة.. الخيام في الصيام زمام النفس، ولثام الجسد، وصومعة المدنفين، خشوعاً وينوعاً ويفوعاً. الخيام في الصيام، أطياف سحر أزلي، تهفهف، وترفرف، وتزخرف، وتكفكف، وتطرف، وتترف، وتزف الوجد وجودياً أبدياً عميقاً.. عميقاً في التلافيف والتجاويف، مجلجلة كأنها اليوم الموعود، والسر المجلود، والحبل الممدود، والحب ذات الوقود، والعشق المولود، والشوق اللامحدود.. الخيام في الصيام، أمل المقل، حين يكون للغروب لذة الميلاد، ونبل الأعياد، وسبل الأمجاد، وندى الأرواح المبللة بعطر الحياة.. الخيام في الصيام نغمة التاريخ على ثياب المكان واحتبال الأنفس حين، تساور الأجساد الأجساد، قبل الشروق وقبل أن تصرخ السماء حياً على الصلاة. الخيام في الصيام، سقوف وهتوف، وطروف، وظروف، ومكامن للوعي، والوعي وعاء حفيظ مكين أمين رزين رصين لا يقبل التخمين ولا تضمين، لا يقبل التسويف في سوق الدلالة، حين تصير الدلالة مسافة مشتعلة في الرأس طريق ممهدة بالأسئلة الربانية العتيدة، والجواب الكبير.. أنا صائم. اكتساب واحتساب الخيام في الصيام، وحدة الوشائج، وعروة النسيج، وثيقة أنيقة لبقة متناسقة، متلاحقة متسابقة في صياغة الوجد المجيد، هي في البدء والنهاية حلقة الوصل، وحد النصل، ومدى الأصل، ومفصل الفصل، واكتساب واحتساب، واستقطاب، واستتباب واحتطاب وإخصاب، وإعصاب، وأسباب، وأبواب، وركاب تخوض في رمال الذاكرة بحثاً عن وجيب لا يخيب ونبشاً في تراب الأسئلة، عن وعي يربت الوجدان والأشجان، ويشذب شجرة القلب من عواهن وسواكب ويهذب المعنى، في استعادة تاريخية لضوابط وروابط، ومهابط، وملاقط، وسواقط، وشطط، ولغط، وغلط، وحطط. الخيام في الصيام مثل لمسة بدم أخضر يرمش على حدقة الكون مثل جناح يغسل الهواء بالرفرفة، ويمشط أشجار الروح بريشة العبقرية العفوية، مثل كتف غليظ يظلل أحلام الملهوفين، ويضع على الرؤوس عقال الحشمة والنعمة. الخيام في الصيام مثل شجيرة ظامئة، تمد الأغصان قبل الجذور نحو الصدور وتنحني عاشقة تزين ثيابها بابتسامات ساعة «الفطور» ثم تشهق بلذة الذروة القصوى.. الخيام في الصيام مثل جدول يرقرق هواءه، ويحتسي من عرق الجباه، ملح الحياة ويكرع.. يكرع متفرعاً في الأرواح، متسعاً في الأفق مرتفعاً نحو السماء، يحصد نجوم الفرح، و»يقند» قهوة المساء، برائحة العشاق، ومن توغلوا في وجيب التصوف حتى بلوغ التلقي النبيل. الخيام في الصيام، مثل حجام، يلوح بالبهجة على وجه حسناء، مثل حجاب يقبل الشفة والجبين، بحنان، وامتنان، وأمان، واطمئنان، واتزان مثل حجاب يستطرد النعيم الجسدي، وينعم في البيان والتبيين. الخيام في الصيام، مثل لسان ظله الزلال، ولمسة الومضة السحرية، ولمضة الولوج في سر اليقظة، مثل لؤلؤة خبأت وميضها في بطن محارة، واستلهمت من اللألأة بياض المحبين وعفوية العاشقين وصرخة الولوج العارمة، الصارمة الحاسمة، الغاشمة، المداهمة، المتفاقمة، الراجمة، القادمة من أتون وحصون، ومتون، وشجون، وشؤون، وظنون، وفتون، وجنون المنحدرة من نسل البراهين، والغفوة الواعية وصحوة المستبد العاقل. الخيام في الصيام كوشم على ساعد، كميسم يغدق الخلايا بالحنين، كحلم يتهجى عبارة مبهمة ويحتسي من صبرها رائحة التذكر.. الخيام في الصيام، كهمام بغروة العز يهيم في فضاءات غابة عامرة يخض، ويرض، ويحض، ويربض في أحشاء الفكرة، متهدجاً لنعيم القوة الفائقة.. الخيام في الصيام، الكلمة الأولى في سمع العفوية، حتى انتفضت وعياً يرسم لوحة في الوجود، ويطارد عجلة الشيطان بعصا التوحد والتبدد بلا رجيم، ولا لئيم، ولا أثيم، ولا زنيم.. الخيام في الصيام تذكرة ومسافر، ووعاء يحفظ سر السر، باتجاه غايات لا هي في الحلم، ولا في العلم، هي في الزمن اللامتناهي، هي في العلة الأولى واللامحدود.. الخيام في الصيام، اجتماع الناس، وائتلاف أطباق تقرقع كأنها أجنحة النوارس، حين يشتد الوطيس، وتنفتح شهية السماء على فرحة الصائمين. الخيام في الصيام، مثل قمصان تطايرت في الهواء فرحة بموسم جديد وعهد التداول على كراسي التلاوة، مثل أساطير حفرت في الرؤوس محتفلة بملاحمها التاريخية المجيدة تعبق الكون بأحلام لا تزهر إلا ساعات، العودة إلى أعشاش الارتواء.. الخيام في الصيام مثل جزر متناهية في الحميمية، متداعية كأعضاء الجسد، متساندة كحبّات الرمان متجذرة في الفطرة كأوردة القلب، متورطة في إشعال المواقد مساء حتى آخر الليل، متبتلة في محاريب العذرية مكتسية بصوف الدفء وحرير السلام والهيام والوئام.. الخيام في الصيام، الورع واليراع، والإبداع، واستدعاء الغائب في الوقت الصاحي، هي العشب النابت في ضواحي رمضان، هي المكان المتجدد في الزمان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©