الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنين بلا ناي

أنين بلا ناي
11 يوليو 2013 00:23
يفتتح الشاعر مجيد الموسوي مجموعته الشعرية الثالثة «دموع الأرض» بيوميات الربيع الدامي مستعيراُ فيها ما ذكره هنري مللير في إن «الحرب هي شكل من أشكال الجنون، سواءُ كانت أهدافها نبيلة أو منحطة. والقتال ليس سوى فعل يدل على اليأس لا القوة». الم يردد دائماً اندريه مالرو في كل الحروب التي خاضها، أو كان مراقباً لها عن قرب، طوال شبابه: بـ»أن الحرب.. هي سُم الإنسانية وعارها الدائم حيث ما تكون ولأي سبب يكمن خلفها أو يدفع إليها». لذا فالموسوي يتوجه شعرياً للعنة الحرب التي تخّرب الأوطان والمدن وذاكرة وروح الإنسان: «رؤس تطوّح حاسرةً، ودماءٌ ت.. س.. ي.. لْ!» أما عن ما يرافق الحروب، عبر التاريخ الإنساني، وفي كل مكان، فيرى: «في هدأة الليل/ تأتيني أصوات العويل البشري:/ أصوات المذابح التاريخية كلّها/ أصوات الجماجمِ/ والأكف/ والأرجل.. أصوات الموتى». مجيد الموسوي، مجايل لشعراء العقد السبعيني العراقي، ويكتب قصيدة التفعيلة الحديثة، إلا ما ندر. ومن خلال شعره ومداخلاته يرى القصيدة بصفتها حالة غامضة من الغياب والحضور من الحلم واليقظة، من التذكر والنسيان، حالة من احتدام الروح يغدو فيها الإمساك بالبدء أو المنتهى أقرب للمستحيل!. وحتى اللغة، لا تكاد تلتقط من هذه الحالة إلا بعض سطوعها وشراراتها.. القصيدة لديه تريد أن تقول شيئاً، أن تبوح بسر ما، برؤيا، بحلم، شيء مدهش، من السحر يؤجج الأعماق، ويشعل في الروح الحرائق!. إنها أشواق متحدة بالأقاصي، ونشوة شاملة تتلبس الروح، ومن هنا يصبح تحديد بدء القصيدة شاقاً وعسيراً لديه. كيف تبدأ القصيدة أذن لدى الموسوي؟. ربما ثمة محفزات توقظ فيه الحنين إلى عالم الغرابة والمجهول والرؤى، ترنيمة بلبل، وجه عابر، أغنية، فتاة ناحلة محبطة، كلمة في الريح، مشهد ما: «أخيراً: أيها الوجهُ البعيد تمدَّ لي خيطاً رفيعاً/ تستفزّ به الكهولةَ، أي خيط للنعاس يجيءُ!/ أي شذا تبقّى، بعد،/ أي ملاءة كالريح خافقةٍ سألمسها/ واغسل في مساحبها اكتظاظَ الشعرِ/ أيّ حديقةٍ أولى تفتحُ لي/ فادخل». هكذا تفجّر المصادفة أو المفارقة لوعة الروح، فيندفع للقول، محاولاً الإيغال في عالم الشعر، والإمساك بشيء من لهبه ونشوته، من شذاه وغبطته وربما من جنونه وفوضاه!؟. وعندئذ تبدأ القصيدة. ولكن هل هذا التوصيف يكفي لولادة القصيدة؟. إيقاع الشعر إننا عند هذا الحد نغفل مسألة غاية في الأهمية، يذكرنا بها شاعر صيني عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، كان من سوء حظه أن يخسر موقعة عسكرية، لكنه ربح الشعر!. ذلك الشاعر الذي جعله «ماكليش» في «الشعر والتجربة» دليله لمعرفة عالم القصيدة. إنه الشاعر «لوتشي» الذي يحدد الحواضن الموضوعية لولادة القصيدة، من خلال جملة من المسائل، يرى فيها الأساس في ولادة النص الشعري بوصفه، أصواتاً وكلمات، قبل أي شيء آخر، فإذا أردنا أن نحدد ذلك بنقاط أوردها «لوتشي» يمكن ندرجها على النحو التالي: يجلس الشاعر على محور الأشياء، ويتأمل في سر الكون ويغذي عواطفه بمآثر الماضي. ثم يتنهد لمرور الزمن، إذ يتقلب مع الفصول. ويعاني من البرودة وقلبه مفعم بالرهبة. فإذا اطمأنت روحه، رمى بالكتب بعيداً، ويتناول ريشته ليعبر عن نفسه بالكلمات. هذه القضايا المدهشة هي التي تضبط إيقاع الشعر، وتحدد اتجاه بوصلة الشاعر، وتولد القصائد من خلال تلاحمها في سياق متصل خاص، وإذا تأمل المتلقي هذه الآراء التي تبدو للوهلة الأولى، محض تعبيرات، فأنها تنم لوحدها عن لمع من المعرفة، تشع من وراء الجبال البعيدة التي يقطعها الساعون وراء الشعر. الشعر لدى الموسوي ليس مجرد انتظار سلبي لانبثاق الرمز من أعماق اللاوعي، بل من قطبين هما الإنسان ـ العالم، لينبثق بعد ذلك ضوء القصيدة المشع من ملايين الأشياء، التي يتأملها الشاعر، والتي لا يراها الآخرون. ومن الواضح إن هذا وصف خارجي لولادة القصيدة، ولكن بأي طريقة، يحدثنا «لوتشي» عنها؟. فالشاعر هو الذي «يأسر السماء والأرض داخل قفص الشكل». إنه بكلمات أخرى ليس ذلك المخترع للأشكال الحرة، بل العكس إنه يستخدم الشكل كشبكة، يتصيد ويأسر التجربة جميعها ويحدد «لوتشي» ذلك بقوله: «نحن الشعراء نصارع اللاوجود لنجبرهُ أن يمنح وجوداً ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى، أنك كشاعر تأسر المساحات التي لا حد لها في قدم مربع من الورق». بالنسبة للموسوي القصيدة لا تولد من فراغ ولا من حسن النوايا كذلك، أنها معاناة خاصة تجمع طَرفَي التأمل والشكل، أي تفريغ رؤيا الشاعر في شكل إنها الإنسان بكل تجلياته، ومعه الأشياء جميعها لكن داخل شكل محدد. الواقع الضاري الموسوي هو من القلة النادرة من الشعراء العراقيين الذين ما زالوا يواجهون الواقع الضاري والعالم وبربريته برومانسية، تلك الرومانسية الخلابة والمفتقدة حالياً، وعبر الـ(أنا) الخلاقة، غير منغلقة على ذاتها من خلال غنائيتها المترفة: «هكذا مثلما قد ترى خفتَ اللحنُ في فم هذا الفتى.. واستحالت قصائده حجرا.. .... كاد يتبّع الطير وهو يغادر مكمنه الحرّ لكنه دونما سبب واضحٍ رجع القهقرى» ثمة ميل في توجه الشاعر الموسوي على رصد الواقع وإصرار على عدم التصالح معه، من خلال تساؤلاته، وتقلباته الذاتية، إنه يواجه العالم والواقع الصلد بالشعر الذي يتميز غالباً بالبحث والتأمل والأسئلة التي لا جواب لها: «لماذا/ توجست، حين دخلتُ المدينة،/ من شجرٍ غائم/ وعيون/ تراود/ خطوي ونهر بلون الرماد». ثمة نبرة خاصة للحلم والشفافية جعلتا من رؤيته تتجه صوب التأمل والتفكر ومعايشة الخيال فالموسوي الشاعر ينفذ إلى الوجود الإنساني عبر نصوصه الشعرية وغنائيته روحياً، وبوحه المُفتقد، في ما نقرأ الآن من شعر، أو نسمعه من على المنابر: «هكذا مثلما قد ترى خفتَ اللحنُ في فم هذا الفتى واستحالت قصائده حجرا» الأمكنة المحلية نحن أمام شاعر متخم بالأسئلة التي لا تحتاج لأجوبة لأنها أسئلة غارقة في الوجدان، وهو المفتون بكل شيء يعيشه ويراه، ومنه مدينته، وعبر آفاق بعض قصائده يتفرس في بقايا الأمكنة المحلية وخصوصيتها التي كلما ننأى عنها، نعود لاستعادتها، بوسائل وطرائق شتى، ونسقط على الكثير من بعض مظاهر الحياة المادية فيها، حاجتنا المتواصلة للإحساس بالحماية والأمن اللذين يمكن، في لحظة ما،أن يتوفرا لنا، ولا يفتر عن ترديد (بصرته)، كأنما خلق لها، وغمس في تيارها واستنشقها: « البصرة/ عين الأرض الأولى: الاهوار/ البردي/ القصب/ الصفصاف/ طيور الماء/ السمك البنيّ/النخل/ الطين الحريّ/ النبق/ العشبُ/ الشجرُ/ العشار». إنه ذلك الوجد المتسرب للروح التي لا تعرف استقراراً ولا تهدأ عن الهيمان. الموسوي يغريه الخوف من حيرة الجواب على السؤال، فيواجهه بسؤال آخر، وهذا ما يميز شعره في ديوانيه «مخاطبات العشب» و»يقظة متأخرة»، وكذلك «دموع الأرض» ثمة ضجيج الأسئلة المتواصل إذا تتكرر مفردة «لماذ» كثيراً وهو السؤال الذي ينتج عن مجهولية السبب الذي لا يمكن مسكه أو إدراكه في الوجود عامة وفي الحياة الخاصة: «لماذا تركتِ يدي ومضيتِ/ لماذا تركتِ قميصي المدّمى ببيتي/ لماذا، وقد بح صوتكِ من وحشةٍ،/ بحّ صوتي/ لماذا وقد قمت من جدثي عارياً/ بعد أن صلبوني عانقتني/ وبكيتِ!». باب الغياب في «دموع الأرض» نتعرف على الباقية من سمات وتوجه الشعراء الرومانسيون البصريون بالذات والذين راهنوا على الحلم والتخاطب معه واليقظة المتأخرة من غفوة الموت في الحياة، الشاعر مصطفى عبد الله في «الأجنبي الجميل والشاعر» وعبد الخالق محمود في «عازف آخر الليل»، اللذين دلفا إلى عالم المتعة الأبدية وابتعدا عن العالم فعلياً من خلال مغادرته المادية وإجهاده، وتحمل مجيد الموسوي بعدهما وحده حملهما، وإخفاقات عالمهما المشحون بالرومانسية، وناء بأخيلتهما معاً بعد رحيلهما المفجع شبابا. ومع إن بعض الكتاب جهدوا كثيراً في أن يموضعوا الموسوي في خانة «العرفانين»، لكن عالم الموسوي الشعري يفتح أفقاً واسعاً للتحديق بالواقع الذي لا يتصالح معه لكنه يحدق به، ويرى ما لا يراه غيره فيه وعبر عالمه الشعري الذي ينطوي على مزدوجتي الواقع ـ الحلم. ويفتح الباب واسعاً للغياب عبر المفارقة والإيغال في التيه القادم من الواقع ذاته. يمنح الموسوي في «دموع الأرض» ما يمكن أن يمنحه الشاعر من اهتمام وحنو تجاه الكثير من أصدقائه ومعارفه، الإحياء منهم: خالد خضير في «الرسام» وفوزي السعد في «الشاهد الأخير» وذلك الشاعر المنسي الذي لم يفصح عنه. لكن ثمة بريق خاص في ما نفتقده، لذا يكتب عن الراحلين، شقيقه حسون وأمه ووالده وخاله وجده وبعض معارفه، وفي ذكرى الرسامة العراقية، ونازك الملائكة، ومحمود عبد الوهاب، والبريكان، ورشدي، لعله، العامل، وفي ذكراه بالذات، وكلكامش وأحزانه، وكزار حنتوش.. الأمير المتسول: «سأتنحى قليلاً/ عن خطوتهِ الندية، المرتجفة/ كي يمرَّ إلى مثواه../ فلا يليق بالشاعر/ غير تاج الأبدية». والشاعر مهدي محمد علي، صديق الصِبا والشباب المتسرب حالياً، والذي يوجه له قصيدته «موت المغني» بعد وفاته منفياً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©