الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيد الغموض يغادر عرش العزلة

سيد الغموض يغادر عرش العزلة
3 فبراير 2010 22:34
“أنا أحب الكتابة، وأصدقكم القول إنني أكتب بانتظام. لكني أكتب لنفسي، وأريد أن أكون بمفردي كلياً لأفعل ذلك”. يمثل هذا القول أحد التصاريح النادرة للكاتب الأميركي جيروم دايفيد سالينجر، وقد أدلى به لصحيفة “بوسطن صنداي غلوب” في العام 1980، أمَّا عن واقعة استعادته الآن، فيمكن تبريرها برحيل الكاتب عن دنيانا مؤخراً، مختتماً عمراً ناهز التسعين من الأعوام، ومنهياً عزلة طوعية مارسها طيلة الجزء الأكبر من حياته. ذلك أنَّه، وفي سلوك مغاير للمألوف، ما كاد سالينجر، المولود عام 1919، يدخل بؤرة الضوء، من خلال عمله الروائي الشهير “ذي كاتشر إن ذي راي”، أي “الحارس في حقل الشوفان”، الذي أنجزه في العام1951، متناولاً عبره قضايا المراهقة ومشاكلها، حتى فوجئ بالشهرة ومتطلباتها الجسيمة، فكان أن انتقل إلى بلدة كورنيش النائية في مدينة نيوهامبشر، إلى الشمال الشرقي من أميركا، ليعيش حياته بعيداً عن الأضواء وصخبها، متفادياً كلَّ ما ما يترتب على العملية الابداعية من متممات دعائية، ومستميتاً في الدفاع عن عزلته القصدية وصولاً إلى حد رفع الدعاوى أمام القضاء لمنع نشر رسائل كان كتبها إلى حبيبته، الشابة جويس ماينارد، التي أقام معها علاقة في العام 1972 استمرت سنة. كان حينها في الثانية والسبعين من عمره، أمَّا ماينارد فلم تكن قد بلغت العشرين بعد، وقد باعت تلك الرسائل بأكثر من 150 ألف دولار في مزاد علني العام 1990، متذرعة بالضائقة المادية. سالينجر رفض أيضاً، وفي قطعية لا تحتمل النقاش، تحويل روايته، التي اعتبرت من أهم أعمال القرن العشرين، إلى عمل سينمائي أثارت فكرته لعاب الكثيرين من أهل الفن السابع. رجل النساء الصغيرات لم تكن علاقاته النسائية أقل غموضاً من حضوره الإبداعي، فقد عرف عنه تعلقه بالنساء الصغيرات اللواتي كنَّ يبتعدن عنه لأسباب يصعب التكهن بها، في بداية حياته العاطفية واعد أونا أونيل التي سرعان ما تخلت عنه لتتزوّج الممثل الكوميدي تشارلي شابلن، لكنَّه ظل مهتماً بالفتيات صغيرات السن، حيث عاد من ألمانيا بعد الحرب برفقة سيلفيا فاتر، وهي من الناشطات في الحزب النازي، وقد تزوجها، لكنَّها ما لبثت أن هجرته لتعود إلى بلادها، وليتزوج ثانياً في العام 1955 من كلير دوغلاسو، وهي إحدى معجباته التي لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر، أنجب منها طفلته مارجريت ثم تطلّقا عام 1967، حيث تزوج من الممرضة كولين أونيل التي ظلّ معها حتى وفاته. وهي مرحلة اتسمت بالاستقرار الظاهري، وان افتقدت النقاء العاطفي، فقد تعرضت للاختراق من ماينارد، وربما من سواها أيضاً. الناسك المشاغب كان لإصرار عاشق العزلة على الانزواء أن دفع الصحافة لأن تطلق عليه لقب ناسك نيوهامبشر، وقد أغضبت روايته، “الحارس في حقل الشوفان”، مجايليه من الأميركيين الذين رأوا في تعابيرها غير المراعية لآداب السلوك خروجاً عن القواعد السلوكية السائدة حينها، لكنَّها داعبت مخيلة أبنائهم من المراهقين إذ تعاملوا معها بإعجاب يندر إدراكه لدى أبناء هذه الشريحة العمرية المتسمة غالباً بالرفض النزقي لكل ما يُقترح عليهم، لا سيما إذا كان إبداعي الطابع. الرواية وجدت طريقها إلى القارئ العربي عبر ترجمة أنجزها الروائي الأردني الراحل غالب هلسا، وصدرت عن دار أزمنة في العام 2007. وهي ترجمة لم تخل من تحفظات البعض الذين تساءلوا ما إذا كانت النسخة العربية قد أوفت الرواية حقَّها من العمق الدلالي ذي الارتباط الوثيق برحابة اللغة. اللحم المحترق في الليلة الأولى من العام 1919 ولد جيروم دايفيد سالينجر في منهاتن بنيويورك، من أم ايرلندية وأب يهودي بولندي الأصل. وفي العام 1940 نشر قصته الأولى “ذي يونغ وانز” (الشباب)، وهي تحدث عن مجموعة من الشباب الهائمين على وجوههم، في مجلة “ستوري”. شارك في الحرب العالمية الثانية، جندياً في صفوف الجيش الأميركي، حيث أسندت إليه مهمة استجواب الأسرى من الألمان، لإتقانه الفرنسية والألمانية، لكنَّ مذاق الحرب في حلقه كان مراً، وسنستمع إليه لاحقاً يقول لابنته بكثير من الحسرة: “مهما عشتِ... لن تستطيعي التخلّص من رائحة اللحم المحترق في أنفكِ”.. إثر مشاركته في إنزال النورماندي عام 1942 سعى سالينجر للقاء الروائي الأميركي أرنست همنغواي، الذي كان جندياً يقود سيارة للإسعاف، أصغى إليه همنغواي لفترة من الوقت، لم يتمالك نفسه بعدها من القول: “ثمة موهبة جهنمية في أعماق هذا الشاب”! إلى أين يذهب البط؟ كتب روايته باللهجة العاميّة الرائجة في نيويورك، وهي كانت تنطوي على كثير من الابتذال، واختار أحد المراهقين الذي أسماه هولدن كولفيلد ليكون بطلها وراوي أحداثها. فكان بديهيا أن تسير تلك الأحداث على إيقاع مضطرب، مليء بالانفعالات والتوتر، أمَّا نقطة انطلاق العمل الروائي فحددها سالينجر من لحظة خروج كولفيلد من المدرسة مطروداً، بعد أن كان والده يراهن على تعليمه ليضمن له مستقبلاً آمناً بين “الرجال المحترمين”. هولدن، وبعد محاولات فاشلة للاستمرار في صداقاته مع معلميه وزملائه السابقين، يكون عليه أن يمضي أوقاته متنقلاً بين النوادي الليلية، ومستغرباً منظر البط السابح بهدوء في بحيرة “سنترال بارك”، هو لا يتردد في طرح التساؤلات على سائقي التاكسي: “إلى أين سيذهب هذا البط عندما تتجمد مياه البحيرة”؟ والأرجح أنَّ التساؤل يعكس رغبة مراهقة ساذجة في ضبط إيقاع الأحداث التي تشكل الواقع. سيرة ذاتية وجد النقاد صعوبة في التصديق أنَّ بطل الرواية ليس كاتبها نفسه، خاصة أنَّ في تفاصيل عيش سالينجر الكثير مما يفسر الآراء والمقولات التي وردت على لسان الراوي، فهو عندما كان صغيراً لم يُصادق إلا أطفال مدرسة قريبة، لكنه قطع علاقته بهم بعد أن تعرض لخديعة من إحدى الطالبات. وفي بوح للراوي، لا يمكن عزله عن هواجس حميمية للكاتب نقرأ التالي: “إنَّ ما يُعجبني هو الكتاب الذي، بعد أنْ تفرَغَ من قراءته، تتمنى لو أنَّ المؤلّف الذي كتبه هو صديق رائع لك، وتستطيع أن تتصل به هاتفياً كلما رغبت في ذلك. لكنَّ هذا الأمر لا يحدث كثيراً. ولم يكن لديّ مانع أن أتصل بهذا المُسمّى أيزاك دينيسن. وبرينغ لاردنر، لولا أنَّ د.ب أخبرني أنه مات. خُذ عندك، مثلاً، ذلك الكتاب الذي اسمه “في العبودية الإنسانية” لسومرست موم. قرأته في الصيف الفائت. إنه جيد جداً وما إلى ذلك، لكنه لم يدفعني إلى الاتصال بسومرست موم. لا أدري. إنه فقط ليس من النوع الذي أرغب في الاتصال به، هذا كل ما في الأمر. وأفضّل أنْ أتصل بتوماس هاردي”. روائي الثانوية العامة كان الكاتب يعتبر الخروج من مدار الرؤية، وعليه، أحد مقوماته الابداعية، لذلك فوجئ به ناشر روايته يصرخ في وجهه عندما قدم له الرواية تحمل صورته على غلافها الأخير، طالباً تغيير الطبعة، ولهذا أيضاً قاطع ابنته الوحيدة، عندما وضعت كتاباً يتضمن مقاربات لشخصيته الغامضة. هكذا كان الغموض إحدى السمات البارزة التي ميزت سالينجر، وأحاطته بالكثير من الأسئلة المثيرة للاهتمام، إذ توقف الكثيرون من متابعيه عند اقتصار إنجازاته الروائية على عمل واحد، وإن كان هذا العمل قد صُنِّف بوصفه “انجيل المراهقين”، وفي سياق الاجتهاد سعياً وراء تفسير هذه الظاهرة الملتبسة، لم يستبعد البعض أن يكون في إعجابه بديانة بوذية الزنّ، التي اعتنقها لاحقاً، تفسيراً لعزلته الموغلة، والتي لم يزده الزمن إلا إصراراً عليها. وقد كان لسلوك سيد الغموض ذاك أن ساهم في نسج الشائعات حوله، حتى ذهب البعض للقول إنَّ سالينجر لم يتوقف عن الكتابة، وإنَّ الأعمال الروائيّة التي نشرت تحت اسم كاتب مجهول الملامح، وغائب كلياً عن المشهد الإعلامي، يحمل اسم توماس بينكون، إنَّما هي لسالينجر نفسه. في حين رأى آخرون أنَّ الروائي الراحل قال كلَّ ما لديه في عمل واحد، ولم يعد لديه ما يضيفه إلى المشهد الإبداعي تالياً، وقد اختار الروائي الأميركي نورمان مايلر تعابير مهذبة لشرح الموقف بالقول: «يمثل سالينجر روحاً عظيمة ظلت على مستوى الثانوية العامة، أجد صعوبة في أن أتخيّله يخوض معركة الرواية الراشدة الحقيقيّة». لم يتوقف الجدل عند هذا الحد، بل هنالك من أغوته الشجاعة بالجزم أنَّ ثمة مخطوطات كثيرة تحمل توقيع سالينجر، وتتنظر في الأدراج الموصدة، هذا القول فتح شهية الكثير من أصحاب دور النشر، لكنَّ فرحتهم لم تكتمل، إذ سرعان ما وجدوا من يقول لهم إنَّ وصية الراحل تنطوي على عزلة إضافية لنتاجه غير المنشور، تمتد لخمسين سنة قادمة! ذريعة بعد تسعة عقود من مجيئه إلى هذا العالم، وقرابة العشرة أيام من رحيله عنه، تبدو حياة جيروم دايفيد سالينجر وكأنَّها مجرد ذريعة لضخ مزيد من الدهشة الصافية في شرايين المنجز الروائي العالمي، رجل كان بالغ الأثر بالرغم من كونه أثيري الحضور. ولعلَّ التوصيف الذي يسعه اختزال عاشق العزلة ذاك، هو ما أوردته إحدى جاراته في كورنيش نيو هامبشير، حيث تحدثت إلى الصحافة بعد رحيل سالينجر قائلة: “لم نكن نراه، ولكنَّنا كنَّا نسمع صوته الهامس أحياناً”!!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©